تراوديل
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
ياسر عبد الباقي
| المصدر :
www.arabicstory.net
فصل من رواية ( القوة والرمح والحب )
تنطلق السيارة على الطريق الترابي كالريح , تقودها فتاة حمراء الشعر , تضع سيجارتها بين شفتيها
, تبحث عن ولاعتها في حقيبتها , تبعثر حاجتها بحثاُ عنها .
تنظر من مرآة السيارة الداخلية نحو صديقها النائم في المقعد الخلفي , ترسم ابتسامة باردة , ثم تستدير
قليلا , وتضع يدها على فخده , وتدخل أصابعها في جيب سرواله , ينتفض الشاب هاتفا :
- ماذا تفعلين ؟!
- أبحث عنها .
يحدق في عينيها من مرآة الزجاجة :
- ماهي .. أيتها الصهباء
تبتسم بخبث :
- ولاعتي
ينظر حوله بدهشة , ثم يفرش على حجره خريطة صغيرة :
- أين نحن ؟
تشعل سيجارتها بهدوء :
- لا أدري !
ينفجر غاضباً :
- لا تدرين .. توقفي .. توقفي .
توقف سيارتها , وتلتفت نحوه غامزة :
- ألم تخبرني أنك تبحث عن عزلة .. أنا وأنت فقط .
وتترك أصابعها تمر من شفتيها وعنقها إلى صدرها و ..
- آه .. لكن يا حبيبتي يبدو أنك أضعت الطريق .
يترجلان من السيارة , الجبال تكسوها الأشجار العملاقة , الريح فجأة تعصف بالمكان , تضع نظارتها السوداء على عينيها , وتهتف :
- فرانك انظر .
تشير إلى جبل , وعلى قمته كوخ خشبي .
يتساءل فرانك :
- تعتقدين أنه مهجور ؟!!
- لا أدري , أتمنى ذلك , مكان مثالي أن نسكن فيه .
- مكان لنحتفل فيه برأس السنة .
يحملان حقيبتين كبيرتين , ويعرجان نحو الكوخ الخشبي , تقذف سيجارتها المشتعلة , وعيناها مصوبتان إلى الأعلى , تشعر بالعطش , تفتح قنينة ماء , وترتوي , ثم ترميها بعد أن تفرغ منها .
- أتمني أن يكون مهجورا.
يقف فرانك أولا أمام بابه الخشبي , وينتظرها حتى تصعد , ترمي حقيبتها من ظهرها , ثم تجلس عليها منهكة .
يلتفت نحوها فرانك قبل أن يتقدم خطوات ثقيلة نحو الباب , ويطرق طرقات خفيفة مؤدبة .
تراقبه صديقته , وقد طبعت ابتسامة ساخرة منه .
يزيد فرانك طرقاته على الباب .. لا أحد يرد .
يتراجع قليلا .. ويمشي نحو نافدة الكوخ ويصيح :
- هالوووووو ... هل يوجد أحد .
لا أحد يرد .
تضحك الفتاة وتحاول أن تقلده :
- هالوووووووووو .. هل يوجد أحد .
تنهض , وتتقدم بخطوات واسعة نحو الباب , تدفعه , يتوارى الباب ببطء إلى الخلف , يصدر منه صوت أخافهما قليلاً . يخطو فرانك أولا إلى الداخل , وتتبعه بحذر , يهرول من فوقهم غراب مذعور, فيرتبكان ويسقطان معاً , يتبادلان النظرات , ثم ينفجران ضحكا .
الغبار يملأ المكان , والعناكب نسجت بيوتها في كل زوايا الكوخ .
- البيت مهجور .
كانت هناك لوحة كبيرة لكلب أسود , يحدق فيهما بشراسة .
تمتم فرانك :
- مخيف .
- أي رجل يملك كلباً مثل هذا .
يبتعد فرانك عنها قليلا , ويتلفت حوله :
- سأبحث عن حمام .
اختفى فرانك خلف منعطف خشبي , بقيت الفتاة في مكانها , وأبصرت سلماً خشبياً يؤدي إلى الدور الثاني .
مشت على ألواح السلم بحذر , وفي كل خطوة بدا أن السلم سيسقط بها .
وجدت غرفتين أمامها , لمحت مسماراً كبيراً يخترق لوحا خشبيا , وعليه خاتم فضي .
سحبت الخاتم من على المسمار , ومسحته بثوبها , وفحصته ووجدته يحتوي على رسومات بدائية ,
وضعته بأصبعها .
شعرت بالبرد يكتسي جسدها , وهبت رياح قوية من النوافذ تدك فيه باب الكوخ بقوة حتى تغلقه , أغمضت
عينيها للحظات قليلة , فقد دب الرعب بها .
اخدت نفسا طويلا , جعلت صدرها يتنهد بوضوح , فتحت أول غرفة أمامها , هرول غراب أخر منها .. ومذعوراً :
- غاااق .. غاااق .
بقى يطير في المكان حتى وجد فتحة صغيرة في سقف الكوخ فر منها .
غرفة واسعة , وبيانو عتيق , وأمامه كرسي خشبي , يكسو الغبار , ابتسمت أثناء رؤيتها البيانو , مسحت الغبار , بمنديل ورقي , وجلست , أغمضت عينيها , وتنهدت طويلاً .
تركت أصابعها تعزف على البيانو , وراحت تبتسم بذهول . توقفت فجأة عن العزف ورفعت أصابعها إلى أمام عينيها , وصاحت :
- لا أصدق .. لا أصدق .
دخل إليها فرانك راكضاً , وصاح :
- هل كنت تعزفين .. هل هذا الذي سمعته كان عزفك ؟!!
هزت رأسها وكتفها معا .. وقالت مبتسمة :
- نعم .. كان عزفي .. أتصدق ؟!!
ضحك , ودار حول نفسه راقصا :
- يا إلهي .. لا أصدق . أنت لا تجيدين العزف على أي آلة موسيقية .
حركت رأسها بطريقة مسرحية , وتركت رأسها يميل شمالا ويمينا , ثم رفعت أصابعها إلى أعلى من رأسها , وأنزلتهما على البيانو . وراحت تعزف كالمحترفين .
كان فرانك ينظر إليها بإعجاب ودهشة كبيرة , فاغراً فمه كالأبله , وكان يصفق لها في كل مقطع موسيقي .
ثم وقفت وراحت تنظر من حولها وكأنها في خشبة مسرح وتحيي الجمهور , والتفتت نحو صديقها بكبرياء وغرور :
- ما رأيك بعزفي .
ضحك فرانك وعلق :
- مارايك بعزفي .
- كم أتمني أن أرى وجه مدرس الموسيقى .
اقتربت منه , ثم دفعته بقوة كبيرة نحو الجدار , حتى ألصقته به , نظر إليها بدهشة وارتباك :
- من أين لك هذه القوى .
قرّربت شفتيها منه :
- لا أدري .. لكني أشعر برغبة قوية بـــ ...
ودابت كلمتها في شفتيها , وراحت تمزق أزرار قميصه بأسنانها ....
هبت رياح باردة , ومرت على جسديهما العاريين , تمتمت شاردة :
- هذا المكان غير طبيعي .
لبست ثيابها مسرعة , سألها وهو يراقب حركة يدها وهي ترفع سحابة البنطلون إلى أعلى :
- إلى أين ؟!!
خطت إلى الخارج قائلة :
- سأرى الغرفة الأخرى .. تعال .. وخرجت .
توقفت أمام باب الغرفة مترددة , شعرت برعشة ترج جسدها , بدأت تعرق , أدارت مزلاج الباب ودخلت .
غراب آخر واقف على نافدة صغير في أعلى الغرفة .
- قاااق .. قااق .
كان أكثر هدوءا , حاولت أن تخيفه وتبعده بحركة من يدها , لم يتحرك , بدا جريئاً ومتحدياً لها .
لمحت كتاباً كبيراً على رف صغير , كتاباً يكسوه الغبار , مسحت الغبار عنه بكوم ثوبها , وشرعت في فتح صفحات الكتاب ..
سمعت صرخة صديقها فرانك , رمت الكتاب , وخرجت راكضة , ووجدته واقفا ومذعورا في الدور الأرضي .
سألته بدهشة وهي تترجل السلم :
- لماذا تصرخ ؟!!
أشار بيده نحو اللوحة المعلقة على الجدار .
تمتم بصوت متهتك :
- لــ .. قد .. اختفى الكلــ.. ب .
تراجعت الفتاة إلى الخلف مذعورة , وأمسكت بفرانك من كتفه , ثم صرخت :
- لنخرج من هذا البيت الملعون .
وركضا معا نحو الباب , حاولت فتحه , لكنه كان موصدا .
- فرانك الباب مغلق .
- النافدة, لنخرج منها .
ركضا معا نحو النافدة , تراجعا فجأة إلى الخلف بذعر شديد , كان الكلب واقفاً في الخارج ومحدقاً بهما .
يطير غراب فوقهما :
- قااق .. قاااق
يركضان نحو الدور الثاني , غرفة البيانو مغلقة , يركضان إلى الغرفة الأخرى . ويدخلان ,يغلقان الباب خلفهما . وتسقط الفتاة باكية .
يحاول فرانك أن يحضنها , إلا أنها تدفعه بعيداُ , وتصرخ به :
- انظر .. أين نحن .. هذه رغبتك اللعينة .. نمارس الجنس في مكان لا يسكن فيه أحد .. انظر كيف أوقعتنا .
يصرخ فرانك وهو يشير بيده نحو رأسها :
- هذا خطأك أنت .. أنت من سلك هذا الطريق , كان عليك أن توقظيني من النوم بدلا من البكاء الآن .
مضت نصف ساعة , أشعل سيجارته الأخيرة , ثم ناولها , حيث كانت جالسة وظهرها على الجدار .
- ماذا نفعل الآن ؟!
- سنخرج . قبل أن يأتي الظلام .
ثم تساءل فجأة وهو يشاهد الكتاب لأول مرة :
- هل ذاك كتاب ؟!
قال ذلك ونهض , حمل الكتاب , وراح يفحصه .
تمتم بدهشة :
- أي لغة هذه ؟!
نفخت سيجارتها , وقالت دون أن تنظر إليه :
- أسرار مخيفة .
- تقصدين أن هذا الكتاب يحتوي على أسرار .
حركت كتفيها دون مبالاة :
- لا .. هذا اسم الكتاب " أسرار مخيفة "
يقترب منها , وبكثير من الدهشة :
- أتفهمين لغة هذا الكتاب .
نظرت إليه متسائلة :
- أي لغة .
مد لها الكتاب , وراحت تحدق بعنوانه بذهول , أحرف الكتاب رسمت بعظام بشرية , بكلمات غريبة .
- لا أدري .. لكني لا أجد صعوبة في قراءة عنوان الكتاب .
هزها فرانك من كتفها :
- انظري إلي , لم تتعلمي هذا اللغة في حصة اللغات .
- يا إلهي .. هذه ليس لغة .. لا أدري . أشعر بالذهول من نفسي .
- ما الذي يحدث في هذا البيت اللعين , تعزفين البيانو فجأة , وفجأة تقرئين هذه الأحرف اللعينة .
صرخت :
- هذا البيت يخيفني
- قاااااق .. قاااق
ظهر الغرب فجأة من نافدة الغرفة , وراح يحدق فيهما بحذر .
فتحت أول صفحات الكتاب , وراحت تقرأ بصوت سريع ومرتعب :
- " سيفقد الكثيرون سيطرتهم على أنفسهم , ستجد نفسك الوحيد من يملك قواهم , وينتشر الخوف بينهم , وحين تسمع نباح الكلب الأسود تأكد أنك في خطر من قوى أقوى منك , والغراب صديقك المخلص و ...
أغلقت الفتاة الكتاب بقوة وتناثر الغبار منه , وكان فرانك ينظر إليها ويستمع بذهول .
تمتمت :
- غراب وكلب .
- لنخرج من هنا .. الآن .
خرجا من الغرفة وسألها :
- آلن تتركي الكتاب .
- لا .. سأخده معي .
توقفا أمام باب غرفة البيانو , سمعا عزفا على البيانو , ارتجفا معاً .
- البيانو !!
- أنا خائفة فرانك .
- انتظري هنا .
مشى بخطوات بطيئة , وأمسك مزلاج الباب بتردد , وأداره , ثم دخل .
- غراب .
حاول فرانك أن يضحك , فختلط الضحك بالخوف .
وأكمل بصوت مرتجف:
- هذا الغراب اللعين هو أيضاً تعلم العزف مثلك .
-نزع فرانك حذاءه ليرمي به الغراب , لكنها أسرعت وأمسكته , قائلة :
- فرانك .. يقول الكتاب .. إن الغراب صديق مخلص .
- الغراب نذير شؤم حبيبتي .
طار الغراب من أمامهما , ثم بقى محلقاً فوق رؤوسهما .
- كأنه يطلب منا أن نتبعه , فرانك .
سحبته بقوة وراحا يركضان خلف الغراب , توقف الغراب فجأة فوق مزلاج الباب الخارجي .
تقدمت الفتاة من الغراب , طار , وأدارت مزلاج الباب , وفتحته .
- فرانك الباب مفتوح لنهرب .
ركضا إلى الخارج , وكانت الغابة تحترق .
- لا تتوقفي .. يجب أن نصل إلى السيارة .
وصلت الفتاة أولاً , فتشت عن مفاتيح السيارة بارتباك , صاحت :
- فرانك لا أجد المفاتيح .
فرانك وهو يهرول نحوها :
- يا الهي .. هل نظرت إلى تحت مقعد السيارة .
تركب السيارة , تجد المفتاح , يأتي نباح الكلب من بعيد , يركب فرانك السيارة ويصيح :
- هيا .. تحركي . تحركي .
تسير بالسيارة بسرعة وتحاول أن تتجنب الأشجار الملتهبة .
- لماذا الغابة تحترق .
ينظر نحوها فرانك :
- اعتقد انك رميتِ السيجارة وهي مشتعلة , هل نسيت العام الماضي ماذا فعلت بمنزلي .
الدخان والنار متلبسا بالمكان , تشعر الفتاة بالاختناق وتصيح :
- فرانك .. لا أرى شيئاً .
ويأتي صوت فرانك مرتعباً :
-- لا .. لا .. تراوديل . سوف نسقط .. توقفي .
وتسقط السيارة إلى الهاوية ..