وضعت يدي على أذني ورددت في نفسي: لا يا أمي لا يمكن أن أقتل، زمن الثأر قد رحل، ولكن صوت أمي الأجش وعينيها الجامدتين يخترقان صدري قائله: ثر لأبيك .. اثأر .. تابعت قائلة: لقد انتظرت حتى تكبر.
فقاطعتها صائحاً: كفى يا أمي .. هل تريدينني أن أقتل مثل أبي؟!
قالت بصوت عميق: لقد مات أبوك من أجل هذه الأرض .. من أجلك أنت.
فصحت: لقد حصلنا على الأرض .. وسجن قاتل أبي.
فأجابت أمي صائحة: لكنه خرج اليوم وداسها بأقدامه الوسخة وكأنه يتحدانا.
فقلت: ليدسها مائة مرة .. إنها أرض الله قبل أن تكون أرضنا.
فقالت بهدوء شديد: نعم .. لكنه وهبها لنا لنرعاها ونحافظ عليها .. إنها أمانة في رقبتنا حتى يوم الساعة، قالت ذلك وتركتني.
انتشر خبر خروج قاتل أبي من السجن في القرية بسرعة ا لبرق .. ساد صمت رهيب في القرية، لعل الجميع كان ينتظر منا طلقات تنهي حياة قاتل أبي .. حتى أن بعضاً من أهالي القرية الكبار جاءوا ليذكرونا بالثأر فقالت لهم أمي بثبات: إننا فقط ننتظر الفرصة.
قال لي كبيرهم: خذ بثأرك يا بني .. بثأر أبيك.
لكنني طردتهم صائحاً: ما الفائدة .. سيقتلني أبناؤه؟
في المساء .. جلست أراقب أمي وهي تعجن بيديها القاسيتين .. إلى عينيها الحاقدتين اللتين لم تذق طعما النوم من عشرين سنة، رفعت رأسها ونظرت اليّ نظرة كلها تأنيب وتعنيف، فأدرت رأسي إلى الجدار هرباً من تلك النظرة.
لكن صورة أمي ظلت تلاحقني فدسست رأسي في الفراش وحاولت أن أنام .. سمعتها تقول: سمعت كلامك- تركتك تكمل الثانوية وتدخل الجامعة .. خطبت لك البنت التي تريدها … قاطعتها: وأنت الآن تريدين هدم كل شيء؟!
تلك الليلة لم أنم فصوت أمي ما زال يرن في إذني، فصرخت: كفي .. كفي يا أمي.
جاءت أمي مهرولة على صراخي: ماذا بك؟ إنك ترتعش!
كانت الرعشة قد وجدت طريقها إلى جسدي .. أجبت: أنا خائف يا أمي.
شاهدتها تبتسم رغم الظلام الشديد: خائف .. آخ خائف منه. أذهب وأقتله لكي يذهب خوفك منه.
أسرعت بالقول: أنا خائف منك يا أمي.
استدارت عائدة إلى الغرفة بوجه غاضب .. شعرت بأني أريد البكاء فقد ارتكبت حماقة في حق أمي وأنا أعرفها لن تسامحني بسهولة، فقفزت من فراشي وذهبت إليها ورأيتها جالسة وكأنها تنتظرني .. فقلت لها: أمي أنا آسف لم أقصد أن أؤذيك، كنت أقصد أن أقول: إني خائف لأجلك. لكنها قاطعتني ومدت لي البندقية: اذهب واقتله إذا كانت تريد رضاي.
كان لعينيها الآن بريق مخيف مما أخافني، أمسكت البندقية وركضت إلى الخارج .. متجها إلى منزل قاتل أبي، شعرت بقلبي وكأنه سيفر من ضلوعي، بعد لحظات كنت قد وصلت ورأيته جالساً بين أبنائه على سقف المنزل يتسامرون سعداء بخروج والدهم من السجن .. صوبت البندقية وصرخت لأقطع فرحتهم: يا قاتل أبي هذا من أجلك.
أطلقت الرصاص ووجوههم ذاهلة وخائفة في آن واحد، عدت إلى البيت بعد أن سمعت صرخة وارتطام جسمه على الأرض أيقنت بأني قتلته وإن لم يمت برصاصتي فإنه سيموت بارتطامه على الأرض. استقبلتني أمي .. عند الباب كما تستقبل الأم ابنها العريس انهالت علي بقبلات لا تنتهي .. ولأول مرة سمعتها تقول بصوت عذب: بطل .. بطل رفعت رأسي عاليا أمام أهل القرية.
لكنني دفنت رأسي على صدرها ورحت أبكي، وقلت: وما الفائدة يا أمي؟ إنهم سيثأرون لوالدهم.
قالت بنبرتها المعتادة: لا .. لن يفعلوا ذلك، الجميع في القرية يعرفون أنه القاتل .. قاتل أبيك .. أقسمت أنه لابد من الثأر أمام الجميع .. والثأر واجب علينا حتى بعد خمسين سنة. بعد نصف ساعة سمعنا ضجيجاً وصراخاً .. أطلت أمي من النافذة وقالت: إنهم أهالي القرية قادمون إلينا وأضافت مبتسمة: جاءوا ليهنئونا .. لا .. لا، فجأة تغيرت ملامح وجه أمي وصرخت: هذا جني .. جني.
رأيت بعض الرجال قادمين إلينا يحملون قناديل تضيء لهم الطريق وعلى أكتافهم بنادقهم .. ويتقدمهم رجل يحمل جثة، ورفعت رأسي وصعقت .. لم يكن حامل الجثة سوى قاتل أبي، شعرت بيد أمي تهزني بعنف وصاحت بي : لقد قتلت أبنه البكر، وأضافت وعيناها تتطلعان إليهم: والقادمون ليسوا أهالي القرية .. إنهم أهالي القتيل جاءوا من أجل .. من أجل، ولم تكمل.
فقلت ودقات قلبي أسرع من خطواتهم: لقتلي!! وما ذنبي؟
وضع الرجل ابنه الميت على الأرض وحل من كتفه بندقيته وصاح منادياً: هيا اخرج بسلاحك ليموت أحدنا وننهي الثأر.
فأسرعت أمي لتقول لي: إن كانت الطلقة الأولى اخطأته فالثانية ستقتله، ومدت لي البندقية.
فقلت هائجاً: كفى يا أمي .. سيقتلني .. هل تريدين أن يفعل ذلك؟
صاحت: لا .. أريدك أن تفعل أنت ذلك .. إن لم تخرج الآن لتصرعه .. فإنه قد يقتلك غدراً.
نظرت إليهم - جميعهم مسلحون ينتظرون خروجي ليثـقبوا جسدي بالرصاص وسمعت أمي تقول: اخرج .. واقتله.
قلت بإصرار: لن يقتلني وأنا أعزل ..
فقالت بحدة كحدة السيف: لقد قتلت ابنه وهو أعزل.
فقلت مستخفاً بها: ابتعدي يا أمي .. فالثأر يجري في عروقك أنت فقط.
فقلبت شفتيها ورمت البندقية وقالت: ابق أنت هنا، وسترى أن الثأر يجري في عروق كل الناس.
قالت ذلك وخرجت وأغلقت الباب خلفها – بعد ثوان سمعت عدة طلقات نارية، فصرخت: أمي .. أمي، وفتحت الباب وهوت أمي على صدري وقد لمحت على وجهها الحزين ابتسامه جميلة لأول مرة وقالت: هذه هي الحياة، ثم أغمضت عينيها ببطء إلى الأبد .. وضعتها بلطف على الأرض ورحت أبكي بمرارة إذ شعرت بأني السبب في موتها .. واقترب مني قاتل أبي وأمي ومدّ لي البندقية قائلا: لقد جاء دورك الآن لتنهي هذا الثأر اللعين .. ولنكن متعادلين. وكأنه يطلب مني قتله .. وزاد عدد الناس عن عدد القناديل التي بدأ ضوؤها يخبو قليلاً .. قليلاً، وكانوا قد علقوا بنادقهم على أكتافهم .. ووضعت فوهة البندقية على جبينه وبي رغبة شديدة لقتله .. كنت أدرك لو قتلته الآن لن يتجرأ أحدهم على قتلي.
أغمض الرجل عينيه .. انطفأت أضواء القناديل.. مرت سحابة سوداء على القمر .. فغبنا عن عيون الكون لحظات في ظلمة الليل