لا أحد يولد مصاص دماء
الناقل :
mahmoud
| الكاتب الأصلى :
سمية البوغافرية
| المصدر :
www.arabicstory.net
أين قلبي؟؟ متى ضاع مني؟؟
أحس أنه استؤصل من جسدي على حين غفلة مني...
شراييني أقصاب جوفاء يعربد فيها الهواء…
العطش إلى الدماء بلغ بي حد الموت... انقضضت على رقبة الرايس، ربان قاربنا... رويت عطشي فألقيت به بين فكي الحوت… تمزق جسده، وتلون البحر حوله بلون الحياة... حزنت... حزنت أن يضيع دمه هدرا في الماء المالح وجسدي أحوج إليه.. آآآه، لو يتحول العالم حولي إلى بحر من الدماء لأشرب حتى أرتوي… اندفعت لأسطو وأشارك الحوت المأدبة وأرافقه إلى الأبد... لكن الأمواج والرياح وأذرع الرفاق جرت بما لا تشتهي سفني... شيعت سفني والعيون حولي تعزف سمفونية الفرحة والخلاص بصوت متهدج مثقل بالبكاء والتقزز من وجهي الملطخ بالدم ومن أسناني التي تلوك بلذة عارمة ما قضمته من رقبة الرايس…
هدأ الموج وطلع الفجر.. عاودتنا الحياة والهدوء... استشرى الضياء حولنا وفي أعماقنا، وأنا كما المستيقظ من حلم.. أتساءل وأبحث عن الإجابة في العيون المصفقة لي.. أين قلبي؟؟ أجس كما الأبله في كل جسدي علي أسمع همسه...دون جدوى.. أدور حول نفسي أبحث عن مفتاح خريطة نفسي... قاربنا نعش يطفو فوق الماء...أعناق مطرقة تسطر جنباته كأعجاز مبتورة الرؤوس...فساحة رهيبة في وسطه... عددت أشباه الأحياء المتبقين من الرفاق... اخترقتني تأوهات المفقودين كالسنان... صخب الضجيج في رأسي، ثقل، ترنحت، تماسكت أحدق في صورة الرايس التي ارتسمت أمام عيني كما الشبح: تكشيرته، انقضاضه على أطراف جسدنا، يده التي خطفت أخي سعيد الذي كان يحتل شقي الأيمن، قلبي الفاتر المبتور الذي لفظ نبضه الأخير واختفى مع أخي...
ضغطت على رأسي أرتب أوراقي المبعثرة... التقطت ورقة برزت على صفحة بحري... يوما ضاقت بنا البلاد… اشتد القيظ والحر والجفاف… وأضحى التراب رمادا حارقا… والسماء عقيمة إلا من أشعة شمس محرقة...فعزف لنا الرايس معزوفة الخلاص ودعانا إلى امتطاء الماء... رقصت قلوبنا وعانقنا فساحة البحر لنعانق الحياة هناك حيث اختلط الوهم بالحقيقة وناشدنا، تحت لحن قائدنا، السعادة ورغد العيش وشددنا عندها ما تبقى من حبال حياتنا…
لبسنا همومنا، تلحفنا السماء وامتطينا الماء... في قاربنا، الذي صنعناه بأيدينا...تلاحمنا في جسد واحد أودعناه في قبضة القدر ويد الرايس... تعانقت قلوبنا وآمالنا فلحنا في البحر أعذب الألحان…مضينا نغني غير آبهين بشيء وغير راغبين في شيء سوى نسيان لحظتنا وقطع التفكير في خطورة مغامرتنا… نسكر أنفسنا وندرأ نحيبنا بالغناء… شعرت لحظتئذ، أن قلبي أوسع من البحر والسماء، وأن نبضه يوصل غنائي من القطب إلى القطب…أسكنته المركب ورفاق المحنة ورفاقي الذين وعدتهم بأني سأرخي لهم حبال النجاة، وأسكنته موطني وهمومه.. وحتى الضفة الأخرى غزت قلبي بعدما كبرت وكبر سوادها معي... وكنت لا أرى في عبوري إليها غير جسر للانتقام لجدي…
تطوقنا الأهوال والخطوب، يحاصرنا الخوف والتيه، تهاجمنا الوساوس وتجردنا من جلودنا... تسطو أرواحنا المتحدة... نتلقفها بأيدينا وأحيانا تنزلق منا فتهجرنا كأطيار تحوم حولنا.. تعلو، تهبط، تعلو، فترسو في أقفاصها المشرعة المنافذ... يهتز قاربنا ثانية... يتعلق بين السماء والماء... تهتز أوتار الحياة والآمال لتقف على عتبة التفسخ والانقطاع... تتلقفنا أذرع الأمواج الصاخبة... تنتشلنا من أفواه الحيتان وتقذفنا في أحضان الرايس:
لا بد من التضحية يا إخوان..المركب ثقل على البحر ثقلكم على البر..
بوحدتنا وقوة إيماننا سيخف يا رايس، الجسد صار واحدا والقلب واحدا والمصير واحدا…
هاج الرايس وكشر.
غمغمنا في دواخلنا وعيوننا تغني روائع الاستعطاف..
لماذا يا رايس الخبير لا تقفز فأنت أثخننا وفيك أربع منا فيتنفس القارب ويشبع الحوت؟؟..
انقض الرايس واستل أخي ناصر الذي كان يحتل شقي الأيسر فعانق الموج قبل أن يصطدم بقاربنا وتبدأ المصارعة…رحل أخي وارتحل معه نصف قلبي.. ودعناه بعيون جاحظة هجرها الدمع وبلسان أخرسته الفاجعة في حين مضى رئيسنا يرقص ويعزف لنا على أوتار النسيان…
ألفنا الهجومات ومصارعة الأمواج والحيتان وألفتنا... أضحينا نلاعب المخاطر وتلاعبنا…إلا خطورة شرارة عيني الرايس لا سبيل إلى ملاعبتها أو إطفائها أو إحادة مسارها... لا تنطفئ إلا بالتضحية من أطراف جسدنا التي يسكت بها روع الحيتان كلما تحسس الخطر… هتفنا بعيون مثقلة بنظرات الموت والصدمة: من ذا الذي يسكت روعنا ويعيد إلينا ما ضاع منا تباعا في هذه الرحلة...
كثرت الأجساد المهداة للحيتان.. ضاعت معنى التضحية.. اتسع المكان في القارب وخف وتسرب إلى النفس البرد والخوف والضياع واللامعنى فاستبد بي العطش إلى الدماء… لا أرغب في شيء غير الدماء... الدماء فقط ولا شيء غير الدماء… أمسكت بيد الغدر، التي امتدت لتطفئ تمردي، بقوة جسدي المستأصل القلب وأهديته للبحر بعدما شطفت دمه ثم مضيت مع الثلة نلاعب الأهوال...أجل نلاعب الأهوال...
هدأ الموج، وانبلج الصباح ودنونا من بر الأمان أو من بر العراك وهدأت أمواج النفوس.. تبسمت لنا الشمس تزف إلينا تهانيها... حذت أقدامنا رمال الشاطئوصافحتها أصابع الموج معقدا معنا الصفح ومهنئا إيانا بالانتصار...ارتمى علي الرفاق يعانقونني ويقبلونني ويضمونني إلى صدورهم... تسربت حرارة دفئهم إلى أعماقي... سرت في كياني الجامد المتجمد رعشة الحياة فانهمرت عيناي تستقبل نبضا خافتا يرمش بين حنايا أضلعي..