كان مشهدا غريبا، إذ لم يكن مستحيلا أن يدخل أحدهم بخيله إلى السوق، ليشتري البرسيم، حيث ندرة الخيول في ذلك المكان، ولأن الخيول غير متاحة، لغلائها، ولحاجتها للعناية، ولنفقاتها، وعندما تموت تحتاج إلى دفن، عمال لحفر قبرها، تحمل في سيارة محترمة، ثم تدفن باحترام، الخيل تعني الكثير، لذلك عندما تبختر شنون بائع السكاكين المشحوذة متباهيا بها أمام الجميع في السوق، بدا المشهد مفارقا، غريبا ومزعجا، مشهد لا يحتمل كما قال أحدهم، شنون الضعيف، الأفريقي . . العجوز يمتلك خيلا ذات شلاشل وحلي فضية، تتبختر في السوق، ربط الأخير خطامها في زاوية بجانب مواقف السيارات، بدأ البعض بالانسحاب ومواصلة أعمالهم، ظل آخرون يراقبون المشهد، كانت ضحكات شنون مع بائعي البرسيم عالية، فرحا بامتلاكه الخيل، لم يصرح أبدا بالقصة التي حدثت له، بسر تملكه لخيل دهماء، ظل ثلاثين عاما أو أكثر يبيع السكاكين التي يشحذها جيدا، وفجأة، بدون بوادر أو تمهيد، يمتلك خيلا تقلدت شلاشل وحلي فضية في نحرها وعلى جانبيها. ذلك اليوم، أرسلت الشمس الحياة صافية في السوق، عند الساعة التاسعة، شخصت عيون الجميع، ليراقبوا المشهد، التجار أمام محلاتهم التجارية، أصحاب الماعز والأغنام، الباعة المتجولون اصطفوا أيضا لمتابعة المنظر، باعة البرسيم، باعة السمك، اللحامون، المنادون بالسوق، كان مشهدا استثنائيا، توقف العمال الآسيويون عن عملهم ، إنه شنون، يعرفه الجميع . . بعضهم يذكره منذ أن عقل، شنون الرجل الهرم، العجوز الخرف الذي يبيع السكاكين المشحوذة جيدا، شنون ذو السحنة الأفريقية، شنون الذي يجلس يوميا في زاوية بالسوق، زاوية شنون، لا يزال حصيره المطوي وتلك الصخرة الضخمة تمتلكان ذلك المكان، إنه مكان شنون، يأتي الأخير باكرا ويغادر متأخرا، كل يوم منذ ثلاثين عاما أو أكثر. لكن ذلك اليوم كان مختلفا، خرجت النساء اللواتي يبعن الحناء والورس والزعفران البلدي من محلاتهن أيضا لمشاهدة شنون، كانت الساعة التاسعة صباحا، ارتدى شنون دشداشة بيضاء جديدة، تطرزها خطوط سوداء، أعتمر عمامة بيضاء أيضا، يتأرجح أمامه الخنجر المربوط بوسطه النحيل، تهز يده اليمنى خيزران في طرفيها فضة، في يده اليسرى خطام خيل تتبعه، خيل دهماء، تمشي بهدوء، خطام جلدي ينتهي بشلاشل[1] في فم الخيل، يسمع وقع حوافرها في إسفلت السوق، طق . . طق . . طق، هز شنون عصاه وهو يمشي أمام محلات الجملة الكبيرة، أمام التجار الأغنياء، أمام العمال البسطاء، داخل عيون الكبار والصغار، كان مزهوا بتلك الخيل، قصد بائعي البرسيم بالسوق. لم يكن مهما أن الخيل حيث ربط خطامها بجانب المواقف العامة قد بعرت كثيرا، أو أنها تركت بعرها على وجه سيارة الشرطة التي ركنت خلفها، لم يكن مهما كذلك أن شنون أشترى حزمتين كبيرتين من البرسيم، حملها عمل آسيوي له، مشى خلف الخيل التي كان شنون يقودها من خطامها وهو يغادر السوق، ما كان مهما هو أن شنون الحداد بات يمتلك خيلا يفاخر بها، خيلا حقيقة، خيلا أرادها أن تغيظ الأغنياء والشيوخ، شعر ساعتها بأنه تساوى معهم، شنون الحداد أصبح معهم، إنه يمتلك خيلا حية رغم هزالها. منذ الفجر، قدم شنون للخيل برسيما وماءا صافيا قبل أن يتباهى بها في السوق، نظفها بالصابون والماء، أسرجها بسرج عماني أصيل، اشتراه منذ سنوات، حافظ عليه داخل مندوس[2] كبير، مغطى ونظيف، كان سرجا جميلا، تتدلى منه ما يشبه الفصوص الكبيرة، حمراء وخضراء وسوداء وبيضاء، زهى نحر الخيل بسلاسل الفضة، إنها عروس ، يجب أن تتزين، خطمها وتعمد عدم امتطائها. نجح السرج والزينة الفضية في أخفاء بعض العيوب، كانت حقيقة، خيلا هزيلة، سقطت بعض ضروسها، كانت أيضا خيلا عجوزا متعبة، الذي يمتلك خيلا سيعرف ذلك عندما يشاهدها، ولكن من يمتلك خيلا هم القلة، العامة لا يمتلكون خيولا، إلا فيما ندر، لم يسبق لكثير من الناس أن لمسوا خيلا في حياتهم أو اقتربوا منها كثيرا. في البداية ، حقق شنون هدفه في بادئ الأمر، المفاخرة، أنتشر الخبر في المكان، كان الهشيم كبيرا والنار انتشرت بسرعة، الجميع عرف أن شنون الحداد يمتلك خيلا، خيلا يتبختر بها في السوق، ظهرت بعض الدعابات في أوقات لاحقة ( سوف يشارك بها في مسابقة جمال الخيل) ، ( سوف ينافس بها في السباقات الدولية للتحمل والقدرة )، (يقال إنها من سلالة عربية أصيلة ) ، ( لم يرض أن يبيعها بخمسين ألفا عرضت عليه ). حافظ شنون على تماسكه، ظهر بوجه جديد، يجيد امتطاء الخيل المتبخترة ، يدخل بها السوق مرتين في اليوم الواحد، ضحى وبعد صلاة العصر، بات المشهد مألوفا نوعا ما، كان كل يوم وهو يساوم على ثمن البرسيم يقرأ مطلع سورة العاديات " والعاديات ضبحى، فالموريات قدحا ، . . " بصوت واضح، كما إن قصائد قديمة باتت تتردد على لسانه، أجاد شنون ترديدها على طول درب السوق " وخيولهم مثل الرياح . . تسقي الخصم وتخوض دم . . شبان يا كبار الشيم . . أهل الخيول الصافنات " ، بعد مرور ثلاثة أسابيع حفظ المارة وأصحاب المحلات والعمال وحتى الشرطة شنون وخيله، لم يعد شنون يبيع السكاكين المسنونة أو المشارط، لقد نسي الفراش المطوي والزاوية التي يجلس بها، أو تناساها، لم تعد ثيابه بالية أو وسخة، لم يعد يجالس الباعة البسطاء أمثاله، كان يفكر بالخيل التي يمتلكها، بالسمعة التي أصبحت له، برأي الناس فيه، سوف يغير قدره، سيحترمه الناس، لن يموت وهو بائع سكاكين مشحوذة، سيموت كفارس يمتطي خيلا دهماء. باءت محاولات شنون كبت سر امتلاكه للخيل طوال الوقت بالإخفاق، بدأ الخبر ينتشر، في الحارة التي يسكن بها، في السوق، في شوارع تلك المدينة، لذا عرف الجميع، الجميع يستمتعون بالأخبار، بالإشاعات، في البداية أثاروا بعض الأسئلة، ثم أنهم كانوا يطلقون الدعابات القاسية على شنون الذي تنكر لأصله، الحداد الحالم بأن يصبح فارسا لزمانه على خيل سقطت ثلة من ضروسها الأمامية. كان شنون قد قدم لجهة حكومية توزع خيولها بعد انتهاء خدمتها للناس الذين يقدمون طلبات رغبتهم باقتنائها، شريطة إطعامها جيدا والعناية بها، وذلك بدلا من قتلها بالرصاص، كان طلب شنون قديما، قبل سنوات بعيدة، لذلك عندما أتاه الخبر كان قد أعد العدة جيدا، لقد جهز السرج والحلي والزينة والجلود والأخطمة للخيل القادمة، كما تعلم كيف يعتني بها، قسّم منزله الصغير ذو الغرفتين والبراح الصغير، زرع أشجار ظل، أضاف عند الزاوية في منزله غرفة من سعف النخيل، أعد البراح بأكداس رمل كبيرة دحاها لتستوي وترتاح فيها الخيل، كان سعيدا جدا، لم يهتم بتعليقات الآخرين على هزال خيله وكبر سنها، أو على حركتها البطيئة التي ازدادت مع مرور الأيام وضوحا، أو بسبب الصيف الذي عاد لموسمه سريعا، الصيف الذي أنهكها أكثر، كانت خيلا عجوزا تحتاج للراحة بعد سنواتها الطويلة في الخدمة، السنوات التي جعلتها أشبه بخيل . في البداية، مع صعوبة أخفاء تلك المشكلات التي تواجهه، أصبح يخرجها يوما من المنزل ويوما آخر يبقيها فيه، ثم بات واضحا إنها لم تعد ترى بالمساء، شح نظرها، الخيل العجوز المسكينة، ظل شنون ثابتا، لم تؤثر به كل تلك الأشياء، تغافل عنها، إنه لا يريد أن يفقد امتيازات امتلاك خيل في نظر الآخرين. . . عندما، لم تجدي تهكمات الناس، النكت، الأمثال التي قيلت فيه، قصص شنون وخيله الدهماء، أعتاد الأطفال أن يترصدوا بالخيل عندما تخرج من المنزل، كان شنون يسير أمامها، في أحيان قليلة شوهد وهو يمتطيها، الأطفال الصغار في البداية ثم الأكبر منهم، صاحوا وصرخوا خلفه، رموهما بالحصى، حمل شنون بندقيته وحزام الرصاص بعد حادثة نخس الخيل بعصا طويلة في إحدى المرات الأخيرة، حلف بالأيمان الغليظة بأنه سيرد بالرصاص، تورع الأطفال عن ملاحقتهم، كان جادا، سيقتل أحدهم، أنتاب الناس القلق والخوف من حالة التوحد بالخيل لدى شنون، ظل بعض الأطفال يصرخون من بعيد عندما يشاهدون شنون والخيل الدهماء العجوز. ذات مساء ، طرق أحدهم باب بيت شنون، كان صاحب سيارة شحن كبيرة، تحمل أكياس سردين مجفف، أنزل مئة وعشرين كيسا كبيرا في براح بيت شنون، إنها مرسلة من عند خاله ناصر، الأخير يعيش في مدينة تبعد عنه أكثر من مئة كيلومتر، كانت الساعة تشير إلى الثانية عشر ليلا، أستلمها شنون، تقلب كثيرا تلك الليلة في فراشه وهو يفكر في أكياس السردين الجافة المرسلة له، لماذا ؟ كانت رائحة البيت تمتلئ برائحة السردين المجفف، انتشرت الرائحة لتعم البيوت القريبة كلها، لم يستطع شنون النوم من طغيان الرائحة في المكان، حتى الخيل كانت تدور حول مربطها، لم تنم، بعد صلاة الفجر، وبعد فتح الدكاكين[3] قبل السابعة صباحا، اشترى شنون بطاقة هاتف عمومي، اتصل بخاله ناصر، خاله الذي يكبره بسنوات كان مصابا بالصم، أشرقت الشمس، طلبة المدارس تجمعوا بجانب المطعم انتظارا لحافلات مدارسهم، دبت الحياة في الساحة، شنون يصرخ في الهاتف العام الوحيد في الحارة بجانب المطعم الذي يتجمع الطلبة بجانبه، كانوا يعرفون شنون وخيله المشهورة، أطلقت مجموعة منهم صهيلا جماعيا عندما سكت شنون منتظرا صوت خاله ناصر في الجانب الآخر - لقد وصلتني بالليل مئة وعشرين جونية[4] من العومة[5]، ليش راسلهن ؟؟ _ .... - والله العظيم انا ما اتصلت بك وطلبت العومة، ويش أريد بها ؟ - ... - أنا عندي خيل ما عندي بقرة، العومة للبقر . . . كم؟ - الجونية بريال ونصف . . دفعت مئة وثمانين ريالا . . أنا ما عندي . .أنا ما أريد عومة. - . .. - أولآد القحباء أتصلو بك وأنت صدقت أني أنا وأريد عومة حال البقرة إللي عندي . . . كان حوارا مكشوفا، قصة مئة وخمسين شوالا من السردين لشنون لإطعام بقرته، تعالت ضحكات مجموعة من الطلبة المراهقين، أغلق شنون سماعة الهاتف العام، لم يلتفت لصهيل المراهقين خلفه، أتجه لمنزله، ردد أحدهم تهكما خلف شنون (بقرة شنون تأكل عومة) بعد دقائق، دوت طلقتي رصاص من بيت شنون .