قــلق

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : سلطان العزري | المصدر : www.arabicstory.net

 

قــلق

 

 

 

 

 

لهث شهر يوليو صباحاته رطوبة وحرارة، كانت أشجار الظل تنتصب في خط مواز لجدار الوزارة، تظلل مواقف سيارات موظفيها المزدحمة.

 

 بالنسبة للمدير حميد يعتبر منتصف النهار الفرصة الوحيدة للخروج من مكتبه، كان تدخين سيجارة الصباح تحت ظل شجرة عملاقة في المواقف المقابلة لمدخل الوزارة متعته المفضلة، ينسل من مكتبه، عشر دقائق فقط وربما أقل، يلتهم سيجارة ومن ثم يعود أدراجه، ذات صباح، قلب بصره في أغصان الشجرة أعلاه، تابع تشعب الفروع، كانت هناك بعض الأعشاش، طيور تزقزق، تصاعد دخان سيجارته ليصطدم بالأوراق الكثيفة لتلك الشجرة، أعجبته فكرة تسلل الدخان بين الأوراق، أعاد نفث دخانه عدة مرات، سمع طنين نحل، ثم لاحظ وجود خلية نحل كبيرة بين الأوراق الكثيفة، تذكر طفولته، تذكر وجهه المتورم من جراء لسعات النحل في قريته البعيدة، بلع ريقه متمنيا أن يرشف ذلك العسل، تخيل أنه يفند رائحة العسل الجبلي من رائحة عسل السمر (الأكاسيا)، تذكر نزوله لبئر مزرعة الشايب عبيد وسرقته لخلية النحل من جوفها، تذكر شجرة الليمون بضاحية نخيل ( الهنقري) حمد، بقي فوق جذعها مختبئا ثلاث ساعات، تفاجأ وهو فوق شجرة الليمون، كان الوقت ليلا ، سمع صوت نزول الفلج للضاحية، تأكد عندما شاهد الهنقري يحمل القنديل بيده اليمنى وبالأخرى يحمل مجزا ينظف به الساقية من الأعشاب ويوسد مردات الماء بالتراب، كان هو متعلقا فوق الشجرة، لو رفع الهنقري رأسه للشجرة لشاهده هناك متعلقا وبيديه عدة قص خلية العسل، ستكون سرقة، ستكون فضيحة، تيبس في مكانه، حاول قطع أنفاسه، كانت دقات قلبه الخائف تعلو، مرت ثلاث ساعات ، كان الماء قد غطى ضاحية النخيل كلها، تابع حركات صاحب الضاحية كل تلك الساعات ، تبادرت في ذهنه أفكار وأسئلة ومخاوف عدة ، ماذا لو . . ؟ ماذا لو . .؟ ، هبط على أطراف قدميه عندما شاهد القنديل المحمول يبتعد عن الضاحية ، تسلق جدار الضاحية وأطلق رجليه كالريح هربا.

 

 ابتسم " لقد كانت ذكريات جميلة " ردد تلك العبارة وهو يسحب آخر نفس من سيجارته، داس على عقب السيجارة، كان الوقت قد تجاوز العشر دقائق المخصصة له، أنسحب سريعا ودخل لمبنى الوزارة بينما كان يفكر في الطريقة التي سوف يقص بها تلك الخلية، يستخرج العسل الطازج والنقي من المواد المضافة من دون أن يلاحظ أحدا أن المدير حميد هو من تسلق الشجرة وقام بقص العسل وأخذه لمنزله، ستكون فضيحة لو أن أحدهم شاهده ، ثم ماذا لو . . ؟ كانت الكثير من الأسئلة تطرق رأسه.

 

 

 

منذ أن أكتشف الخلية قدِم المدير حميد كل صباح باكرا، قبل الموظفين الآخرين، تجاهل الموقف المخصص له، عمد إلى الوقوف بسيارته تحت تلك الشجرة في المواقف العمومية، يطمئن على وجود الخلية في مكانها كل صباح، يدور عقله حول الطريقة التي سوف يقص بها الخلية من دون إزعاج الآخرين، كان قد بدأ في رسم الخطة، سوف ينتظر لنهاية الأسبوع، سيخرج من مكتبه متأخرا بنصف ساعة أو ساعة، عندها يكون جميع الموظفين غادروا مبنى الوزارة، سيكونون متلهفين لإجازة نهاية الأسبوع، سوف يطلب مصعدا جيدا من عمال النظافة، سوف يحضر معه أدوات القص، السكين والخيط والوعاء، سيستعيد بعض ذكرياته القديمة.

 

 

 

في العمل، كان المدير حميد قد استحوذت على فكره وجود خلية النحل، الطريقة المناسبة لإنهاء العملية بأقل التكاليف الممكنة، كان يبدو مشوشا، يصمت لدقائق طوال، يتظاهر بتقليب الأوراق، متابعة عمل موظفيه بين ساعة وأخرى، كانت احتمالات ان يشاهده أحد ما كبيرة ، كان خائفا في سريرة نفسه، تعاوده الذكريات، ذكريات تسلقه الجبال بحثا عن العسل، ذكريات سرقاته للعسل من مزارع وآبار الآخرين ، ليلا أو منتصف الظهر، عندما يأخذ الناس قيلولتهم، زادت نوبات خروجه للتدخين، كانت حجة مميزة لمتابعة تلك الخلية، تقدير حجمها، إنها كبيرة، تزيد على قنينتين كبيرتين، إنها تستحق المغامرة، فكر إنه سيبيع القنينة بثمانين ريالا كعادته لأصحاب الإبل، سيكون مكسبا ، سيتبقى أيضا الكثير من العسل له، سيتناوله مع الخبز كل صباح ، سوف يستعيد بعضا من صحته التي أنهكتها المدينة والعمل.

 

 

 

كانت نهاية الأسبوع تقترب ، لم يتبق إلا ثلاثة أيام ، كانت أحاسيس الخوف والقلق من أن يشاهده أحدا ما تزداد كل يوم باقتراب اليوم المحدد، نهاية الأسبوع، كان في طريقه للعمل، في ذروة الازدحام المروري الصباحي يقول لنفسه " سأصرف النظر عن الخلية "، كانت الأسئلة المقلقة قد بدأت تنتابه في نومه، يتقلب كثيرا في فراشه حتى يستطيع أن ينام، كانت فكرة الاستحواذ على الخلية تنمو في مخيلته، ينمو معها الخوف من أن يشاهد أيضا، يزداد الأرق ، ماذا لو شاهده أحد حراس الوزارة ؟ ماذا لو شاهده أحد عمال النظافة أو الصيانة ؟ كيف سيتصرف ؟ ، بالتأكيد سوف ينتشر الخبر، الأخبار السيئة سريعة الانتشار ، سوف يُضخم خبر قصِه خلية النحل، سيصل للمسئولين بأن المدير حميد قد سرق شيئا، لن يفاجئه خبر محرف يقول بأنه سرق سيارة الوزارة، دائما الأخبار السيئة تحرف وتضخم، سوف يكتب عنه في الانترنت، سيزيد آخرون في خبر سرقته لسيارة الوزارة أو لأي شيء آخر، لن يصدقه المسئولون عندما سيحكي لهم عن خلية النحل، ستكون هناك العيون والأفواه التي تترقب قرارات العقوبة، ستضخمها وتمارس لعبة الاستمتاع بإلصاق كافة النعوت والتهم على المعاقب، ستكون فضيحة كبيرة، مدير يسرق الوزارة أو خلية نحل الوزارة، سيرد آخر مستفسرا من هو ؟ وستكون الإجابة سريعة من أحدهم إنه المدير حميد . . .

 

 

 

كانت تلك المخاوف تتلاشى عندما يقترب المدير حميد من الوزارة ، يدخل سيارته للمواقف ويتجه للمواقف العمومية ، يوقف سيارته تحت تلك الشجرة التي تحتضن خلية النحل، يعدل من وضع مصره، يرش قليلا من العطر على ثوبه ناصع البياض، يتأكد من وجود الخلية ثم يتجه لمكتبه، كانت ثلاثة أيام تفصل عن نهاية الأسبوع، لم تمض ربع ساعة على وصوله للعمل عندما أتصل به المسئول المباشر عنه، طلب منه التوجه مباشرة إلى أحدى المناطق البعيدة عن المدينة، متابعة موضوع يتعلق بالفرع هناك ، سوف يستغرق عملهم يومين أو ثلاثة ، كان الأمر إلزاميا وعاجلا، حاول المدير حميد أن يجد منفذا لبقائه ، أحس بضرورة الترتيب الجيد للعملية، كان مطالبا بتسليم تقرير بصورة سريعة عن تلك الزيارة التي لم يجد منها مفر، سوف يُوفر لهم سائق من العمل، ترك سيارته مركونة في موقفها .

 

 

 

في اليوم الثالث عاد المدير حميد من تلك المهمة ، كان الوقت قد آذن بنهاية العمل، كانت نهاية الأسبوع قد اقتربت، ساعة فقط وينتهي عمل لذلك اليوم، بدا مرتبكا ومشوشا، هل سينفذ خطته ؟ العدة والأدوات موجودة في مؤخرة سيارته، ليس علية سوى انتظار ساعة أخرى بعد نهاية العمل ، ستمشي الأمور بسلالة ويسر، كانت فكرة أنها خلية نحل فقط العبارة التي تطفئ نار الخوف والارتباك بداخله، لن يتضرر أحد ما من هذه العملية، هناك عمليات أكثر خطورة، هناك تجاوزات قانونية حقيقية لم يعاقب عليها أصحابها، عمليات يعرفها الفراش والحارس والمدير والمسئول كانت تُغطى، تُختلق لها المبررات والأسباب اختلاقا، توجد لها مسارب ومنافذ تصريف، وتموت مع الزمن ، لماذا ستكون فضيحة إذا شاهده أحد ما وهو يقص خلية نحل من شجرة في مواقف الوزارة ؟

 

 

 

        مرت الساعة التي أعقبت نهاية العمل، كان المدير حميد قد وجد كتابة التقرير النهائي لمهمته سببا وجيها لتأخره تلك الساعة، خرج من بوابة الوزارة متوجها للمواقف، كانت المواقف العمومية حيث أوقف سيارته قبل ثلاثة أيام فارغة من السيارات، استكشف الموجودات ببصره وهو يتجه إلي سيارته، بدأ قلبه بالخفقان، كانت كل خطوة يخطوها لسيارته تزيد من خفقان قلبه، نز العرق من جبهته ثم من رقبته، لاحظ أن حارس بوابة الوزارة يراقبه، فتح باب سيارته وخلع المصر الذي يرتديه، تظاهر بأجراء اتصال هاتفي، غاص في جوف سيارته وأدار المحرك، فتح مكيف السيارة، ماذا يريد ذاك الحارس الغبي ليراقبني ؟، تذكر إنه نسي أخبار عامل النظافة أو الصيانة بإحضار وتجهيز المصعد، أحس بخدر يتسلل لجسده، كانت عيناه ترتفعان بصورة آلية وتتابع جذع الشجرة أمامه، ترتفع إلى الفروع ثم الأغصان، اتسعت وتوقفت بقعتا عينيه فجأة، كانت الخلية قد قصت، لقد اختفت، هكذا ببساطة، أحدهم سبقه إلى قصها ، دارت لحظتها أسئلة كثيرة في ذهنه ، كيف ؟ من ؟ لماذا ؟ لو ؟ . .، حرك سيارته متجها لبوابة الخروج، لا بد أن الحراس يعلمون من قص الخلية، توقف أمام البوابة وضغط على مزمار السيارة، خرج الحارس وبيديه بقايا أرز ومرق

 

 

 

- أهلا سعادة المدير ، تفضل

 

- كنتُ قد أوقفت سيارتي لمدة ثلاثة أيام تحت تلك الشجرة ، من عبث بمقدمة سيارتي وجعلها تبدو موحلة هكذا ؟ أنظر ( أشار بيده لمقدمة السيارة حيث استعملت كمصعد للوصول للخلية )

 

- ما أعرف، أنا اليوم بدأت عملي، بس كانوا الشباب يقولوا، والله تراني سمعت، أنا . . أنا غير متأكد ، سمعت أنه المسئول الكبير من قص خلية النحل وكانت سيارتك مصعد للعامل الذي كلف بقص الخلية