ملائكة الأدراج.

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : ناجي طاهر | المصدر : www.arabicstory.net

 

ملائكة الأدراج.
 

 

 

 

الشارع هو نفسه . المارة  يمروّن ، و صاحب البقالة قبالتهم ، لا يزال منشغلاً ببيع الزبائن . الساعة التي كانت معلقة في وسط الحوض الفاصل بين طريقي الذهاب و الإيآب ، لا تلبث هي الأخرى تواظب على تكات عملها كالمعتاد . السيارات تسير. بدا العالم من حوله كله على حالته المعهودة .

 

 "ربما الحيّز الذي تشغله قدماي من هذا العالم  فقط ، هو الذي  يترجرج !. فيما الأبنية لا تبرح ثابتة في أمكنتها " . سأل نفسه .

 

  المارة الذين  يمرون  ،  كان بعضهم يلتفت . علامات الأسى و الأسف التي حملتها وجوههم ، لم تمنعهم من مواصلة طريقهم .

 

"  عليّ أن  أواصل طريقي ، أن  أتماسك ، و أن لا تخذلني ، قدماي ، هاتان اللتان حملتاني طويلاً !."

 

رجى نفسه و توسل قوته أن لا تخذله . انتظر زوجته حائراً  ريثما تطفأ الغاز و تلبس عليها ما تيسر ، و تحضر ابنتهما الصغيرة ، فقد حدث كل شيء بغتة .. و بسرعة خاطفة قلبت سواء الواقع الذي يحسب أنه يعرفه ، و تلبدت غيوم نهاره دفعة واحدة .

 

 في الطريق :

 

- أمسكي بيديه ، حدثيه يا حبيبتي !

 

- احذر السيارات القادمة !

 

- لا تخافي ! حدثيه أرجوك ، لا تتركيه يغيب عن الوعي !

 

كغريق كانت عيناه تصغران و تغوصان بعيداً . لكنها طمأنته :

 

- إنه يشد على أصبعي ، يا الله ، أنقذه يا ربي ! يا حبيبي!

 

و كادت تجهش ببكاء محبوس .

 

" صرخة زوجتي اليتيمة ، كانت كافية في بلادنا ليلتئم ناس حيّنا عن بكرة أبيهم ، الأطفال ، النساء الشباب ، و لكنت سوف لا أعرف ماذا سأفعل أيضاً ؟ و لا كيف سأمر بين الجموع ؟."

 

كان يرسم لنفسه مكاناً آخراً لمشهده .

 

 ترى لامبالاة الألمان ، كانت في جانبه ، هذه المرة !  الطرق جميعها بدت مفتوحة أمامه ، حتى تلك التي تجمعّّت سياراتها عند تلك الإشارة ، قبيل مفرق المستشفى ،  التي لم  يتأخر في معالجتها ، بأن سار بعكس تيار سيرها القادم ، مُشعلاً كل الأنوار في السيارة ،  ضاعطاً بيديه على الزمور ، الذي ربما يستعمله للمرة الأولى هنا . كأنه كان يعوّض ، أو ينتقم ! .. لكن كل همه ، كان الوصول . السائقون القادمون ، كانوا يتذمرون و لا يفهمون ما يحصل ، زوجته كذلك بدت أكثر عقلانية منه ، كونها بنت هذه البلاد ، تربية و لغة و درايةً بالقوانين ، و إن كان دمها مثل دمه عربياً .

 

كمتهور أرعن ، يسير بسيارته . عسى تبدل السرعة  وقع الواقع و هدأته ! ...  زوجته تفكر و هو ينفعل .. و السيارات تسير ، و المارة يمروّن ... 

 

 

 

لم يعرف كيف وصل . و لا كم من إشارات سير حمراء قطع ، التي في العادة ، قطعُ واحدة منها في هذه البلاد التي تتزمت الى أبعد الحدود في تطبيق القوانين ، تكون كافية لحرمان مرتكبها رخصة القيادة .

 

ركن السيارة على عجل ، و كيفما أتفق .  هرع الى الموظفة في غرفة الإستعلام الخارجية يسألها عن الوجهة :

 

- المبنى رقم 6 !

 

يعرف بيروقراطيتهم ، لم تنهض حتى من مكانها ، و اكتفت أن كلمتهم عبر الميكروفون . مضوا مُسرعين ، جابت عيناه كل الآرمات الموجودة ، و التقطت عدستاهما ، الرقم بسرعة .. إنطلقوا . تجاوزوا  المباني الواحد تلو الآخر ، وصلوا ملهوفين ، مخطوفي اللون و القدرة .

 

اعتقد أنهم سوف يأخذون الصبي على عجل ، كما يفعلون في حالات الطوارىء ، لكنه تفآجأ ، بأن أرشدتهم موظفة الإستقبال الى غرفة ، لينتظروا  فيها ، ريثما تنتهي الدكتورة من الحالة التي تعاينها .

 

في غرفة الإنتظار . بدا كل شيء يسير وفق ترتيب مُسبق . الممرضات يروحون و يجيئون . زوجته تتحدث مع واحدة منهن .

 

- ثمة بعض الإسئلة سنملأها على الكونتوار!

 

قالت الممرضة . موجهة كلامها الى زوجته .

 

فتقدم هو نحوها . لا يريد لزوجته أن تفقد تركيزها عن الصبي . فيما كان يضم ابنته ، الى صدره بقوة ، و كأن أحداً يهدد بسلخها عنه أو أن ينتزعها منه .

 

أجاب عن أسئلتها الروتينية ، بعد أن أعطاها بطاقة الإستشفاء الممغنطة ، التي يُدوّن عليها كل شيء عادةً ، لكنها راحت تعيد تأكيد بعض الأسئلة زيادة في الحرص ، كالإسم ، و العنوان ، إذا ما كان لا يزال هو نفسه ، و رقم الهاتف ...

 

 نظر الى صغيرته ، التي كانت تتذمر ، تريد الإنفكاك من طوق يديه . لتذهب الى حيث كانت العاب الأطفال موضوعة .

 

 الألمان قوم يحبون الأطفال بعامة ، لهذا تجد ألعاب الأطقال موجودة في كل مكان حللت فيه ، في المشافي و البنوك و حتى مكاتب السيارت..

 

سأل الموظفة الإستعجال في الكشف عليه . فقالت :

 

- الدكتورة ستأتي حالما تنتهي من معالجة الطفل الآخر .

 

- أتفّهم ذلك ، و لكنه وقع على أكثر من عشر درجات من البلاط الصلب ، و قد نزف دماً من أنفه ، و نحن خائفون يا سيدتي ، أرجوك أن تفعلي شيئاً ! .

 

ارتخت عضلات وجهها قليلاً ، فبانت ملامح عطف كانت محجوبةً خلف شاشة الحاسوب الذي أمامها . ثم قالت :

 

- أعرف ذلك ، و قد أخبرتني زوجتك ، و نحن نعاين كل يوم حالات مشابهة ، و خاصة من تلك الكراّجة الخطيرة ، عليكما رميها ، و إنذار العائلات الأخرى لفعل ذلك ، أما أنت يا مُشاغبة !

 

موجهة كلامها للبنت :

 

- عليك أن لا تفعلي ذلك ثانية ، و أنتما يجب أن تنتبها للأبواب ، أن لا تكون في متناول الأولاد ، فهذا شيئ خطير!

 

انقبضت أساريريه و تراجع بعد أن شكرها ، و أنزل ابنته الى الأرض . و راح يفكر في كلامها .

 

 " ماذا تراها أخبرتهم زوجتي ؟  أتراها تتستر عليّ ! هذه الزوجة الكبيرة ، الأم ، التي تمسك بزمام عاطفتها ، جامحة عقالها ، تاركة لسوآء عقله التحكم بالأمور ؟ و الله ما كنت لأقول غير الحقيقة ، لو سألوني ! و أنا حتى لم أفكر بالأمر . لو كان إعدامي ، أو تأنيبي ، يكفيان أن يقوم من كبوته ، لما تأخرت لحظة !."

 

 ثم راح يستدرك الأمر ، بعد أن راحت البنت تلعب على الحصان المتأرجح :

 

" بلى ، لا شك أنها قالت لهم أن ابنتنا الصغيرة ، هي من فتحت الباب ، فخرج هو ، بشهوره الثمانية ، في كراجاته المنحوسة ، و هوى على الدرج بعد أن عجز أن يوقفها .  نعم ، هي تعرف قوانين بلادها الجديدة ، لو أخبرتهم بما جرى بالفعل ، لأختلف الأمر كثيراً ، و لأستدعى ذلك ربما ، إجراء تحقيق في إهمال الأب ، أو الأبوين ، و ربما آل هذا ، الى منعنا من حضانتهما ، و إناطة هذا الأمر بالدولة !؟

 

.. الان أدركت ، مدى حماقتي و استهتاري ، و بدأت أعنف نفسي أكثر من السابق .. و رحت أرد الأمور كلها ، الى شرودي الدائم ..و عدم إنتباهي لكثير من التفاصيل ، التي كنت أحسبها ، مخطئاً ،   قليلة الشأن ..

 

.. لم تكن مسألة وضع الحقيبة على الطاولة تستأهل مني أن أنسى الباب مفتوحاً ، لكي أعود و أحضنه ، بعد أن تلقفت أخته و حملتها بين ذراعي ، نظر ، اليّ بأسى ، نظرات لن أنساها ما حييت . تراه أراد معاقبتي ، على تجاهلي لإشتياقه و محبته لي ! لا أعرف تراني أُعظّم الأمور ! فهو ولد صغير .. لكنه وقع بسببي . "

 

راح يدخن في الردهة الخارجية ، فيما ظلّ نظره شاخصاً الى الغرفة ، التي كانت الزوجة و الولدان ينتظرون فيها ..

 

" بلى ، إنه يعاقبني ، و أنا أستحق العقاب . الان علمت بوجوده الغالي ، الآن عرفت قيمته ، لو ترجع اللحظات ، ساعة الى الوراء ، لا أريد أكثر !"

 

مضى يحمل على نفسه .

 

"ماذا كنت ستفعل ! لو رجع الزمان ساعة! "

 

هتف صوت مهيب .

 

" أستحضنه ، قبل أخته ؟ و الحقيبة ؟ كانت ستقع ، أرسم المشهد من جديد ، كان في كراجته ينظر اليك بلهفة ، عيناه كانت في عينيك ، و لكنك أشحت عنهما بعد لحظة ، كانت البنت قد أصبحت أقرب اليك ، قبّلته على عجل ، و لم ترفعه من الكراجة ، فالحقيبة لا تزال بعد معلقة في كتفك ، أليس كذلك ؟ "

 

- بلى ، قبلته على عجل ، قبلة واحدة لا غير ، و مضيت و أخته الى داخل الغرفة ، وضعت الحقيبة على الطاولة ، أردت أن آخذ نقود الفكة من المزهرية الصغيرة ، لأذهب و أشتري علبة السجائر ، فالنقود التي كانت بحوزتي لم تكن كافية ، و بطاقة الإعتماد اللعينة ، كانت كذلك فارغة ، كيف تفسر كل هذه العوامل ، الصدفة ! .. و قبل أن أمسك النقود من المزهرية ، سمعنا صوت شيء يرتطم بقوة ، و صرخ صرخة وحيدة ، عرفنا أنه هو ، و كدنا نتساقط أنا و زوجتي على الدرج .. و نحن مذهولين ، و مفجوعين .

 

أجاب الصوت ،كطفل يدلي بإعترافات أمام محكمة كونية كبرى . و هو يلف الأمتار القليلة ، التي يمكن من خلالها أن تبقى الغرفة التي فيها الزوجة و الولدين تحت نظره .

 

" كذلك كيف تفسر عدم قيامك بوضع عازل خشبي على الباب ، عندما تقدم الصغير قبل أيام ، لملاقتك الى خارج الباب ، و تنبهت حينها الى خطر هذا الأمر ، و نظرت الى الدرج و رسمت مشهد وقوعه في رأسك ، لكنك لم تفعل شيئاً ! ، ستقول أن العائق الخشبي ، كان غير عملي ، حسناً ، و لكن كيف تفسر ، أنك و رغم حديثك المتكرر حول عدم رغبتك بهذه الكراجة ، إلاّ إنك رغم ذلك أبقيت عليها ؟ "

 

كاد الصوت يخرج من رأسه و يطرحه أرضاً .

 

- بلى ، قلت هذا و شاهدت كل ذلك و لكني لم أفعل شيئاً . ماذا تريد أن تقول ، أنني في لاوعي ، كنت أخطط لقتل ابني ، يا شيطان عقلي ! دعني و شأني! . قد أفعل أي شيء أحمق الان، و لكن ماذا يعني ذلك غير الهروب، إن كان ذلك سيرجع ما كان، فأنا لن أتردد لحظة ؟.

 

 

 

 
" لا أعرف و لكني أسألك ؟ كيف تفسر قلّة حبك له ؟ و لماذا لا تنفك تستذكر دائماً ، أمنية زميلك لك ، أن تنجب ابنتين ، مثله ، و كيف تفسر كلام زوجتك لك ، أنك لا تُبدي لهفة كبيرة حيال الصبي ، على عكس أكثر الآباء ، و بأنك تهمله ، و كأنه غير موجود ؟ .."

 

عاد الصوت متحايلاً و لكنه أشد خبثاً ، و صرامةً من ذي قبل ، كأنه قاضٍ إلهي :

 

- كنت أريده أن يكون قوياً في هذا العالم ، و أن لا يكون مائعاً ، أن يكون رجلاً يتحمل أعباء و مشاق هذه الحياة القاسية .

 

" و هل كنت تفعل ذلك مع ولد لم يتجاوز شهوره الثمانية بعد ! ، أم أن كلام تلك المرأة ، عن جماله ، الذي يشبه جمال الفتيات ، جعلك تنفر منه ؟ "

 

- لا ! دعني يا شيطان عقلي ! لقد وقع كل شيء في وميض لحظةٍ كالبرق . أنا لا أنسى الباب عادة ، و كنت أحرص أن لا أتركه مفتوحاً لثانية أبداً ، و نحن نغلقه أيضاً من الداخل بالترباس لكي لا تفتحه الصغيرة .. لا أعرف لحظة الشيطان المدبرة هذه ، كيف وقعت ؟ النقود ، البنك ، الحقيبة ، عدم تركيزي .. كلها أمور لا أعرف إن كان عليّ تحمل مسؤوليتها وحدي ، و لكني سوف أفعل ! ..

 

كانت الدكتورة قد دخلت الى الغرفة .. قالت بعد أن عاينته من الخارج :

 

- سوف نبقيه هنا لأربعٍ و عشرين ساعة على الأقل ، تحت المراقبة ، لنر كيف تسير حالته .

 

في هذه الأثناء كان الصغير قد بدأ يستعيد بعض عافيته ، و لكن الألم الذي قرب أنفه كان يؤلمه .. و بدأ يتحرك و لكن ليس كما قبل .

 

في الطابق الثاني ، أتت ممرضة تملأ أوراقاً جديدة .. الألمان شعب مولع بالأوراق و السجلات ، لهذا ربما ، كان مخترع الطباعة واحداً منهم ! ..

 

شيئاً فشيئاً كان يتعافى ، دون دواء أو أي شيء آخر . سوى الإهتمام الذي انصب عليه ، و عليه وحده دفعةً واحدة ، و كذلك القبلات التي انهمرت عليه كسيل حلّ في صحراء كانت جدباء ، قاحلة ..

 

زانته الممرضة و قاست حرارته و علّقت دكتورة أخرى جهازاً على صدره موصولاً بآلة ، تُصدر إنذاراً عند أي تغيير شديد يطرأ على دقات قلبه .

 

 خرج ليدخن ثانيةً ، هذه المرة لم يكن بإمكانه أن براقب الغرفة التي وضعوه فيها .. راح يلّف نفس الخطوات التي خطاها من قبل .. و عاد رأسه للدوران .. و عاد الصوت .. يهتف من جديد :

 

" ألم تستعد دائماً يوم ولادته .. عندما هبطت دقات قلبه بسرعة و كادت تخفت ، مع محاولات طلق زوجتك الأولى ، و أسرعت الدكتورة في الممشى تسأل زوجتك ، أسئلة مستعجلة .. و هم يسرعون بها الى غرفة العمليات .. أولم يكن رأيك دائماً ، أن الذين يولدون بمبضع جراح ، لا يستطيعون فهم حقيقة هذا العالم ، و أن الذين لا يخرجون الى هذا الوجود مخضبين بالدماء ، بعد أن يفتقوا رحم أمهم ، لن يفهموا معنى الخلق و أنهم بالتالي لا يستحقون الحياة !؟ و ذلك برأيك ، لأنهم لم يخبروا معنى المعاناة و آلآم مخاض الولادة ، كما فعلت ابنتك التي صارعت لإيام ثلاث ، و خرجت زرقاء ، قاتمة ، لثمها الدكتور بيده على خدها ، و طمئناك بعدما سألته عنها، و كنت تظن في نفسك ، أنها لن تعيش ! أليس هذا كلامك؟ أليس هذا ما دار في خلدك ؟ "

 

كانت الكلمات تنهال على رأسه كحجارة جبل مُحمّاة ،كان يحبل ببركان فانفجر ..

 

هرب من الحجارة الى داخل المستشفى ، مذهولاً يعدو ، طلب المصعد ، فجاء . صعد ، كان ظله في المرآة ينعكس في كل إتجاه . و هو يتمتم :

 

- نعم ،كنت أقول الحياة كفاح و صراع ، من خلف غشاء الرحم .. حتى رفات الأديم .. و لكن كان رأسه كبيراً ، يا سلطان رأسي ، كان طفلاً كبيراً ، قالت الدكتورة ذلك ..

 

" بلى ولادة طبيعية صعبة ، قالت ، لكنها مع ذلك جربت ، و قاسوا حجم رأسه بآلاتهم ، و قاسوا رحمها ، و قالوا ، بوضع ولادة مناسب . و بعض الجهد و التحمل قد يخرج رأسه ، كما فعلت أخته ، ألم يقولوا ذلك ؟ "

 

قال الصوت يلاحقه ..وضع يديه على أذنيه ، عسى ينقطع السمع !  خرج من المصعد . غار الصوت و انقطعت الحجارة عن السقوط في هاوية عقله .

 

في الغرفة كان وضعه يتحسن ، و قد عادت اليه روح اللعب . الى جانبه في سرير آخر ، رقد طفل آخر ، راحا يتهامسان ، يزقزقان كطيرين ، قبّله ، كما لم يفعل مرةً من قبل .

 

في اليوم التالي :

 

- حمته الملائكة !

 

قالت الممرضة تطمئنهم .

 

 " بلى حمته الملائكة ! ، ملائكة الأطفال ، تلك التي تحوم حول الأدراج اللعينة و تسهر على غفلات الآباء.. و ربما اسمه كذلك حماه ! هذا الذي ترددت كثيراً بشأنه . على اعتبار أننا نعيش في بلاد غريبة ، يخشى المرء أن ينعكس الإسم على صاحبه سلباً ، إضافة لأوضاع بلادنا ، حيث لكل إسم الكثير من الشحنات الفكرية و السياسية و حتى الدينية التي تشوبه ، فأردت أن أجنبه مخاطر هذه التبعات كلها ، و لكن أمي و زوجتي ، أصرتا على هذا الإسم ، الأولى ، لأنه اسم والدي ، و الثانية ، لأننا اتفقنا عليه ، لحظة عرفنا بجنس المولود ، و كنا كلما فكرنا بإسم آخر ، يحدث شيء ، كأن تنتكس صحتها ، أو ما شابه ، فترد الأمر معللةً ، لمسألة تقلبنا في إختيار الإسم .."

 

 قال في سره ، كأنه يستعرض شريطاً كان يدور في لوحة عينيه .

 

- بلى ! حماه الله .

 

أردفت زوجته موافقة ، وإن بدت مصوّبةً أكثر . فهو يعرف رأيها ، أن الله فوق الملائكة و فوق جميع الكائنات .. غير أن ما أثار دهشته هو كلام الممرضة عن الملائكة ، الذي ربما يكون مثلاً معروفاً عندهم ، اذ كان يعتقد ؛ أنهم لا يؤمنون ، سوى بالعقل و الآلة .

 

" ترى الملائكة موجودة هنا أيضاً .. و ليس في بلادنا فقط !.." . قال في نفسه .

 

 قبل أن ينهال على الكراجة ضرباً و تكسيراً ، أراد إعادة تمثل المشهد ، فتركها تنزلق على الدرج ، فتشقلبت عدة مرات رأساً على عقب ، قبل أن تستقر في أسفل الدرج .. كان المشهد مخيفاً ، و إن كان تدحرجها و هي فارغة ، غيره عندما يكون بداخلها ولد ما ..

 

 .. انهال عليها ، كأنه يضرب جبلاً من الأخطاء و الآثام ، مزقها إرباً إرباً .

 

بعد أيام ، عاد الصغير لمرحه . لكن الدرج كان لا يزال في موقعه ، وشماً في صدر البناء لا مفرّ منه ، و لا سبيل سواه .

 

كذلك ، كان الصوت ، لا يزال يدور في غابات رأسه كطنين .. كبعوضة تحوم فوق سرير الليل .. و إن كان قد كفّ منذ عودتهم الى المنزل ، عن الترهيب .. تراه يتحين باباً و كراجة جديدين قبل أن ينقض على فريسته !