حلم طفولي طويل

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د. طارق البكري | المصدر : www.arabicstory.net

الحلم الأول

حلم طفولي طويل

منذ أيام الطفولة وأحلامنا تأتي وتذهب.. وغالباً ما تضمحل وتزول مع مرور الأيام، لأنّ الأحلام ‏عادة ما تولد من وهم، وتنهار على أعتاب واقع.. وقد سمعت يوماً وأنا أعبر الطفولة إلى الشباب ‏رجلاً متوسطاً في السن يقول: كلّما كبرنا صغُرت أحلامنا.. ‏
لم أصدّق مقولته ولم أطمئن إليها.. فقد كانت الحياة أمامي واسعة وسع سماء.. كبيرة مثل بحر.. ‏شاسعة مثل فضاء.. ‏
فكيف لتجربة مهما كانت أن تحدّ من أحلامي؟!‏
أن تمنع طائراً من التحليق في سماء لا حدود لها.. ‏
فليقل ما يشاء ولنؤمن بما نشاء.. من هو ليؤطر لي أفكاري وتطلعاتي.. ‏
ومضيت في طريقي غير عابئ به وبأمثاله.. لستُ متشائماً على الإطلاق.. لاهو ولا غيره يملك ‏تسيير أفكاري.. ولا أظنّه يقصد ذلك.. غير أنّ مقولته تفاعلت في نفسي واستفززتني من واقعي.. ‏لكنّها لم ولن تسيّج أحلامي بأفكار مقلقة.. ‏
لكنّ الحياة كلها مجموعة أحلام، وهي عندما تتحقق في بعض جوانبها، نصرّ على أنّها حلم، ‏ونظل نحلم ونحلم ونحلم، حتى نظن الواقع جزئاً من الأحلام..‏
وقد كنتُ مثل كثيرين غيري - وما زلت – كملايين، وربما كمليارات من البشر، أصرّ على أنْ ‏أعيش الأحلام وأنْ أبادر إليها، وربما أنسج أحلاماً أخرى من واقع، ولو كانت على حساب ‏الحقيقة..‏
أمّا هي، فلم تكن مثلي.. مع أنّها كانت تأتي في سويعات من خيالات لا تنتهي..‏
تسري في تفاصيلي، في مشاهد يوميّة دائمةً لا تنقطع، مرأى حتمي، كأنه واقع ملموس، مع ‏افتراضه نسيجاً من روح ودم - وبالطبع – إنّها خيالات (واقعية) لا تتوقف عن نبض في قلب ‏دافئ يتدفق بالحياة..‏
هكذا عرفتها في عمق أحلامي.. ضوءاً يمشي على بساط سحري ممتد.. آخره الأفق وأوله هنا ‏داخل صدري.. في أعماق حجيرات قلبي.‏
كانت تسكب فيّ أحلاماً وتمضي.. ‏
تزرع في حنايايا صفاءً ونقاءً.. تسطع في فضائي المظلم حين يملّ الليل جفونه، والحزن دموعه.. ‏والبحر ماءه.. فتنقضّ على مشاعري تفترس ما في دواخلي من بقايا إنسان..‏
كانت تأتي في أوقات عزّ زمانها ومكانها.. ‏
ترسم في أفق الوجود قصراً من رمال.. ‏
تبدعه لحناً على أوتار فرح باق رغم الفقد.. ‏
وظلّت تعيش في فضاء ما.. ووقت ما.. راسخة في قلب خفوق، ينبض مع وميض ثغرها ‏الوضيء...‏
كانت تشغل نفسي بسنا ضوء لا يتوقف.. استجمع كل قواي لأفكر فيها.. بل لم تكن تنتظرني ‏لأفكر.. فهي تأتي كبرق في سحابة.. أو كنسمة في فضاء.. ‏
أيام وأيام.. كانت خليلة كل أحلامي.. سر بقائي.. ‏
سنوات على مَرِّ الحياة ومُرِّها، لا أعرفُ لها عداً ولا من يعدون... ‏
تقاسمتُ مع تقاسيمها تفاصيل وجودي.. ‏
لو ضحكتْ أضحك بطيفها المطبوع مثل ومض في خاطري.. مثل ورد باسم.. مثل عشق متوج ‏بالغار..‏
ومضينا في أيامنا وأحلامنا.. حتى كادت كل الأحلام والأيام تتلاشى معاً.. ‏
لكنها بقيت مورقة مزهرة بهيّة كما هي.. ‏
تصنع من تفاصيلي انتصارات حياة.. ‏
تغزل من انكساراتي وشاح قوّة يشعل في نفسي شرارتها.. فأعود معها منتصراً.. مع كل خسارة.. ‏
وتبقى نجمة بريّة تلمع في سماء..‏
كانت حلماً بعيداً بعيداً .. كصبح دافئ في ثلج شتاء.. ‏
كنبتة حيرى في أرض موات..‏
كلمسة عطف في فيض شقاء..‏
تسطع كنجمة راقصة في ليل صيف احترق نهاره.. ‏
فتبسم في شوق تلطَّف رمضُه...