الحلم الأول حلم طفولي طويل منذ أيام الطفولة وأحلامنا تأتي وتذهب.. وغالباً ما تضمحل وتزول مع مرور الأيام، لأنّ الأحلام عادة ما تولد من وهم، وتنهار على أعتاب واقع.. وقد سمعت يوماً وأنا أعبر الطفولة إلى الشباب رجلاً متوسطاً في السن يقول: كلّما كبرنا صغُرت أحلامنا.. لم أصدّق مقولته ولم أطمئن إليها.. فقد كانت الحياة أمامي واسعة وسع سماء.. كبيرة مثل بحر.. شاسعة مثل فضاء.. فكيف لتجربة مهما كانت أن تحدّ من أحلامي؟! أن تمنع طائراً من التحليق في سماء لا حدود لها.. فليقل ما يشاء ولنؤمن بما نشاء.. من هو ليؤطر لي أفكاري وتطلعاتي.. ومضيت في طريقي غير عابئ به وبأمثاله.. لستُ متشائماً على الإطلاق.. لاهو ولا غيره يملك تسيير أفكاري.. ولا أظنّه يقصد ذلك.. غير أنّ مقولته تفاعلت في نفسي واستفززتني من واقعي.. لكنّها لم ولن تسيّج أحلامي بأفكار مقلقة.. لكنّ الحياة كلها مجموعة أحلام، وهي عندما تتحقق في بعض جوانبها، نصرّ على أنّها حلم، ونظل نحلم ونحلم ونحلم، حتى نظن الواقع جزئاً من الأحلام.. وقد كنتُ مثل كثيرين غيري - وما زلت – كملايين، وربما كمليارات من البشر، أصرّ على أنْ أعيش الأحلام وأنْ أبادر إليها، وربما أنسج أحلاماً أخرى من واقع، ولو كانت على حساب الحقيقة.. أمّا هي، فلم تكن مثلي.. مع أنّها كانت تأتي في سويعات من خيالات لا تنتهي.. تسري في تفاصيلي، في مشاهد يوميّة دائمةً لا تنقطع، مرأى حتمي، كأنه واقع ملموس، مع افتراضه نسيجاً من روح ودم - وبالطبع – إنّها خيالات (واقعية) لا تتوقف عن نبض في قلب دافئ يتدفق بالحياة.. هكذا عرفتها في عمق أحلامي.. ضوءاً يمشي على بساط سحري ممتد.. آخره الأفق وأوله هنا داخل صدري.. في أعماق حجيرات قلبي. كانت تسكب فيّ أحلاماً وتمضي.. تزرع في حنايايا صفاءً ونقاءً.. تسطع في فضائي المظلم حين يملّ الليل جفونه، والحزن دموعه.. والبحر ماءه.. فتنقضّ على مشاعري تفترس ما في دواخلي من بقايا إنسان.. كانت تأتي في أوقات عزّ زمانها ومكانها.. ترسم في أفق الوجود قصراً من رمال.. تبدعه لحناً على أوتار فرح باق رغم الفقد.. وظلّت تعيش في فضاء ما.. ووقت ما.. راسخة في قلب خفوق، ينبض مع وميض ثغرها الوضيء... كانت تشغل نفسي بسنا ضوء لا يتوقف.. استجمع كل قواي لأفكر فيها.. بل لم تكن تنتظرني لأفكر.. فهي تأتي كبرق في سحابة.. أو كنسمة في فضاء.. أيام وأيام.. كانت خليلة كل أحلامي.. سر بقائي.. سنوات على مَرِّ الحياة ومُرِّها، لا أعرفُ لها عداً ولا من يعدون... تقاسمتُ مع تقاسيمها تفاصيل وجودي.. لو ضحكتْ أضحك بطيفها المطبوع مثل ومض في خاطري.. مثل ورد باسم.. مثل عشق متوج بالغار.. ومضينا في أيامنا وأحلامنا.. حتى كادت كل الأحلام والأيام تتلاشى معاً.. لكنها بقيت مورقة مزهرة بهيّة كما هي.. تصنع من تفاصيلي انتصارات حياة.. تغزل من انكساراتي وشاح قوّة يشعل في نفسي شرارتها.. فأعود معها منتصراً.. مع كل خسارة.. وتبقى نجمة بريّة تلمع في سماء.. كانت حلماً بعيداً بعيداً .. كصبح دافئ في ثلج شتاء.. كنبتة حيرى في أرض موات.. كلمسة عطف في فيض شقاء.. تسطع كنجمة راقصة في ليل صيف احترق نهاره.. فتبسم في شوق تلطَّف رمضُه...