هندسة الغذاء.. داء أم دواء؟

الناقل : ام احمد | المصدر : www.islamonline.net

أثار التقرير الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) حفيظة العديدين، حيث اعتبرته مجموعة من المنظمات غير الحكومية المصرية ترويجا للهندسة الوراثية في مجال النباتات، وذلك على خلفية ما طرحه التقرير من حلول تكنولوجية لقضية الأمن الغذائي للمهمشين والفقراء.

استفز التقرير الصادر في 17 مايو 2005 العديد من الجهات، فعمدت إلى الرد بتقارير مضادة، صنفت الهندسة الوراثية كانتهاك لحقوق البشر في الغذاء النظيف والزراعة الآمنة، ومن بين التقارير ما أصدره "مركز الأرض لحقوق الإنسان" بمصر، والذي تناول الأثر السلبي للأغذية المهندسة على صحة الإنسان، وما تتسبب فيه من خلل بيئي، وقد اتسم الأسلوب العام لتقييم المركز بالهجوم الصرف، فظهر بصورة فحواها أن "المحاصيل والمنتجات المعدلة جينيا، تؤدي لانتهاك حقوق البشر في الغذاء النظيف والزراعة الآمنة".

نعم لهندسة الدواء.. لا الغذاء

وبالفعل انقسمت الآراء ما بين ملتزم للحياد ومدافع بشدة أو حتى متحفظ؛ فالمدافعون يرون أنه علينا ألا نغفل الجوانب الإيجابية للهندسة الوراثية، كاستخدامها في تشخيص الأمراض، والبحث عن سبل العلاج المختلفة، وهو ما تشدد عليه الدكتورة مها الدملاوي عميدة معهد الهندسة الوراثية بمدينة مبارك العلمية. وتضيف أن تدخل الهندسة الوراثية فيما يأكله الإنسان، والعمل على تعديل نظامها الرباني الذي خلقه الله، أمر لا يمكن الموافقة عليه وعلى دخوله لجسم الإنسان، وآثار مثل ذلك ستكون ضارة على المدى البعيد؛ نظرا لظهور مواد غير معروفة، تتميز بتأثيرها السام والضار بصحة الإنسان، بعد تراكمها في جسمه لفترات طويلة. وتنتج تلك المواد من انتقال بروتينات جديدة غير معروفة من طعام لآخر، واتحادها مع بعضها البعض.

وتدلل د. مها على رأيها بزيادة عدد المصابين بأمراض متعلقة بالطعام في أمريكا ليصلوا وفق آخر إحصائية إلى 76 مليون سنويا، وهو ما يشير إلى الدور الذي قد يلعبه الغذاء المهندس وراثيا في هذا الصدد. وإن كانت الأمانة العلمية تقتضي القول أن هذا الدور لم يتم تأكيده بعد ولكنه محل بحث ودراسة.

الخوف من المجهول

إلصاق تهمة تشويه الغذاء بالهندسة الوراثية

وبنفس المنطق يفتتح الدكتور أسامة الشيحي أستاذ الهندسة الوراثية بكلية الزراعة جامعة القاهرة حديثه، فيرى أن الاتهامات الموجهة للهندسة الوراثية لا دليل عليها، فمعظمها يدور في إطار الاجتهادات، كما سبق أن حدث مع بداية ظهور الميكروويف من إلصاق تهمة تسببه لتشوهات وغيرها، وكذلك مع ظهور الموبايل الذي قيل عنه إنه يصدر أشعة مغناطيسية تؤدي إلى السرطان.. ولكن: هل تم تسجيل أي حالات إصابة بتلك الأمراض كان سببها الميكروويف والموبايل؟ أستطيع أن أجزم "لا".. وذات الأمر مع الهندسة الوراثية، ودليل ذلك أن العالم كله بدأ يستخدم تقنية الهندسة الوراثية؛ فـ65% من الأغذية المباعة في الولايات المتحدة مهندسة وراثيا، إضافة إلى الأرز الذهبي الغني بفيتامين (A)، وفول الصويا المهندس وراثيا والذي يدخل في 200 مادة غذائية مهندسة هي الأخرى.

ويستطرد د. أسامة متسائلا: هل يعقل أن أنتج محصول بمواصفات كمية وشكلية مميزة، على حساب صحة البشر؟ الإجابة بالطبع لا؛ فنحن –العاملين- في هذا المجال لا نعتد بالمحصول إلا إذا تأكدنا من أنه غير ضار بصحة البشر، وعلى سبيل المثال أنتج مركز البيوتكنولوجي بكلية الزراعة جامعة القاهرة أرزا وقمحا، وحاول أن يراعي فيهما بعض الموصفات الخاصة ألا وهي التحمل العالي للملوحة، وهي ما تميز نباتات الغابات، فعمد إلى تهجينهما مع نبات الغاب لإكسابهم خاصية مقاومة الملوحة، حتى يتسنى زراعتهم بماء البحر وفي الأرض شديدة الملوحة، وهذا الإنتاج تم بالفعل سنة 1989، إلا أننا لم نستطع أن نقول إننا توصلنا إليه إلا سنة 2000، وذلك بعد أن أجرينا تجارب عديدة تأكدنا فيها أن السلالة الجديدة، غير ضارة بصحة الإنسان.. ولم نكتف بذلك بل أجرينا تجارب أخرى للتأكد من أن الورق الأخضر للنباتات غير ضار بأي كائن يتغذى عليه.

ويرى د. أسامة أنه يتوجب على المنظمات غير الحكومية تغيير إستراتيجيتها، وتتحول نحو تأييد هذا الغذاء؛ حيث إن مصلحة البسطاء تقتضي ذلك، إضافة إلى أننا لن نملك خيار رفض هذه المنتجات بعد تطبيق الجات.

اسمعوا وعوا

ولم يختلف الحال كثيرا عند د.تيمور نصر الدين وكيل معهد الهندسة الوراثية التابع لمركز البحوث الزراعية بمصر، فقد دافع هو الآخر بقوله: "من يرفض علم مكننا في مصر من إنتاج محاصيل مقاومة لآفات، كالبطاطس والشمام والكوسة، والتي كانت تقضي على المحصول وتضيع مجهود الفلاح". وأضاف أن هذه المحاصيل لم يتم إقرارها إلا بعد فحصها من اللجنة القومية للأمان الحيوي، وتتكون من مندوبين من وزارات الصحة والزراعة والبيئة، للتأكد من أنها غير ضارة بصحة الإنسان والبيئة".

ويرجع الهجوم الذي تتعرض له الهندسة الوراثية إلى نقص الوعي؛ فالكثير لا يفرق بين معالجة الغذاء بالهندسة الوراثية أو بالهرمونات لتكبير حجمه، وهنا تكمن الخطورة، إضافة لعدم قيام وسائل الإعلام بتوضيح الصورة كما يجب، كأن تنشر إحدى الصحف خبرا أن دولة نامية شديدة الاحتياج للمعونة الغذائية قامت برفضها لأنها مهندسة وراثيا، مما يؤكد المعلومات المضللة في أذهان الناس عن ضرر تلك المنتجات، بالرغم أن الموضوع أسبابه سياسية أكثر من كونها صحية، والدليل أن الشعب الأمريكي نفسه يتناول تلك المنتجات.

للتحوير حدود وشروط

وبعيدا عن الدفاع أو الهجوم على الأغذية المهندسة وراثيا فإن الدكتور مصطفى نوفل أستاذ علوم الأغذية بكلية الزراعة جامعة الأزهر يتبنى رأيا محايدا، أساسه الرقابة الصحية على سلامة الأغذية المهندسة وراثيا؛ فلا يرى مانعا في استخدام هذه الأغذية طالما توفرت الرقابة، وحتى تكون تلك الرقابة فعالة؛ لا بد أن تستند في رأي د. مصطفى إلى ثلاث نقاط رئيسية:

أولا: ضرورة التزام منتجي ومستوردي الأغذية بتوضيح نوعية المواد الغذائية المحورة وراثيا على بطاقة عبواتها وإهمال ذلك يعني خداع المستهلك والإضرار بصحته.

ثانيا: وضع قواعد التحليل والرقابة الصحية المناسبة، حتى يمكن تقدير مدى صلاحية المنتجات الغذائية المهندسة وراثيا للاستهلاك الآدمي، وتعتمد هذه القواعد على تقدير الصفات الطبيعية والكيميائية والبيولوجية للبروتين في الأغذية المعدلة وراثيا، ومن ثم مقارنة هذه الصفات مع البروتينات الغذائية المعتادة، والاهتمام ليس فقط بدراسة تتابع الوحدات الأمينية المكونة لبروتينات الأغذية المعدلة وراثيا، بل أيضا بمدى تأثر هذه البروتينات بعمليات الهضم في الجسم، ومدى ثباتها تحت الظروف المختلفة للتصنيع الغذائي، وذلك في حال عدم تناول الأغذية مباشرة على صورتها الطازجة، وتقدير مدى احتمال تسبب بروتينات تلك الأغذية في الإصابة بالحساسية الغذائية، إضافة إلى تطبيق هذه القواعد على المكونات الأخرى التي تمثل التركيب الرئيسي للأغذية مثل الدهون والنشويات.

ثالثا: جمع المعلومات عن تفاصيل التغيير والتطوير المحتمل حدوثه في تركيب وصفات الأغذية التي ستنتج بالهندسة الوراثية، ومعرفة المصادر التي يتم الحصول منها على الجينات المستخدمة في هذه التكنولوجيا، وهدف هذه المعلومات هو المساعدة في صياغة إستراتيجية مبكرة لتطوير قواعد التحليل والمراقبة الصحية التي ستتعامل فيما بعد مع هذه المنتجات الغذائية.

وفي النهاية، لا بد أن سيثور تساؤل: إلى من ننحاز؟ هل نصدق من يدعوننا إلى تناول الغذاء المهندس وراثيا دون خوف؟ أم نصدق من يدعوننا إلى هجره؟ الإجابة بالطبع صعبة؛ لأن كلا منهم له مبرراته، وإن كانت تلك المبررات تستند في معظمها إلى اجتهادات علمية ينقصها الدليل العلمي القاطع.. وإلى أن يوفر كل منهم ذلك الدليل الذي يساعدنا على الإجابة فإن النفس البشرية تميل بالطبع إلى تفضيل ما تعرفه وتعودت عليه.