بداية تجمع الصحابة حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة ، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته(صلى الله عليه وسلم) ـ الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال ـ لم يكادوا يرون تغير الموقف ، أو يسمعوا صوته(صلى الله عليه وسلم) حتى أسرعوا إليه ، لئلا يصل إليه شيء يكرهونه ، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ما لقي من الجراحات ـ وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات ، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم ، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو ، ورد هجماته . وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت : قال أبو بكر الصديق : لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فكنت أول من فاء إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه ، قلت : كن طلحة ، فداك أبي وأمي ، كن طلحة ، فداك أبي وأمي ، [ حيث فاتني ما فاتني ، فقلت : يكون رجل من قومي أحب إلي ] فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح ، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني ، فدفعنا إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ، فإذا طلحة بين يديه صريعاً ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) : " دونكم أخـاكم فقـد أوجب "، وقد رمي النبي(صلى الله عليه وسلم) في وَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته ، فذهبت لأنزعهما عن النبي(صلى الله عليه وسلم) فقال أبو عبيدة : نشدتك بالله يا أبا بكر ، إلا تركتني ، قال: فأخذ بفيه فجعل ينَضِّـضه كراهية أن يؤذي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم استل السهم بفيه ، فنَدَرَت ثنية أبي عبيدة ، قال أبو بكر : ثم ذهبت لآخذ الآخر ، فقال أبو عبيدة : نشدتك بالله يا أبا بكر ، إلا تركتني ، قال : فأخذه فجعل ينضضه حتى اسْتَلَّه ، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ، ثم قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : "دونكم أخاكم، فقد أوجب "، قال : فأقبلنا على طلحة نعالجه ، وقد أصابته بضع عشرة ضربة . وفي تهذيب تاريخ دمشق : فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر ، بين طعنة ورمية وضربة ، وإذا قد قطعت إصبعه ، فأصلحنا من شأنه .
وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي(صلى الله عليه وسلم) عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة ، ومصعب بن عمير ، وعلى بن أبي طالب ، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري ، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنية ، وقتادة ابن النعمان ، وعمر بن الخطاب ، وحاطب بن أبي بلتعة ، وأبو طلحة .
تضاعف ضغط المشركين
كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن ، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين ، حتى سقط رسول الله (صلى الله عليه وسلم)في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها ، فجُحِشَتْ ركبته ، وأخذه علي بيده ، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوي قائماً ، وقال نافع بن جبير : سمعت رجلاً من المهاجرين يقول : شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) وسطها ، كل ذلك يصرف عنه ، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ : دلوني على محمد ، فلا نجوت إن نجا ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى جنبه ، ما معه أحد ، ثم جاوزه ، فعاتبه في ذلك صفوان ، فقال : والله ما رأيته ، أحلف بالله إنه منا ممنوع ، خرجنا أربعة ، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله ، فلم نخلص إلى ذلك .
البطولات النادرة
وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة ، لم يعرف لها التاريخ نظيراً .
كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ويرفع صدره ليقيه سهام العدو .
قال أنس : لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له ، وكان رجلاً رامياً شديد النزع ، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا ، وكان الرجل يمر معه بجَعْبَة من النبل فيقول : ( انثرها لأبي طلحة ) ، قال : ويشرف النبي (صلى الله عليه وسلم)ينظر إلى القوم ، فيقول أبو طلحة : بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم ، نَحْرِي دون نحرك .
وعنه أيضاً قال : كان أبو طلحة يتترس مع النبي(صلى الله عليه وسلم) بترس واحد ، وكان أبو طلحة حسن الرَّمْي ، فكان إذا رمي تشرف النبي (صلى الله عليه وسلم)، فينظر إلى موقع نبله .
وقام أبو دجانة أمام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فَتَرَّسَ عليه بظهره ، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك .
وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص ـ الذي كسر الرَّباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حتى طرح رأسه ، ثم أخذ فرسه وسيفه ، وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إلا أنه لم يظفر به ، بل ظفر به حاطب .
وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة الأبطال ، بايع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الموت ، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين .
وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يباشر الرماية بنفسه ، فعن قتادة بن النعمان : أن رسول الله رمى عن قوسه حتى اندقت سِيتُها ، فأخذها قتادة بن النعمان ، فكانت عنده ، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وَجْنَتِه ، فردها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بيده ، فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهُما .
وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر ، أصابه بعضها في رجله فعرج .
وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته(صلى الله عليه وسلم) حتى أنقاه ، فقال : ( مُجَّه ) ، فقال : والله لا أمجه ، ثم أدبر يقاتل ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) : " من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا "، فقتل شهيداً .
وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين ، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف ، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها ، لكن كانت عليه درعان فنجا ، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً .
وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة ، يدافع عن النبي(صلى الله عليه وسلم) هجوم ابن قمئة وأصحابه ، وكان اللواء بيده ، فضربوه على يده اليمني حتى قطعت ، فأخذ اللواء بيده اليسرى ، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى ، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل ، وكان الذي قتله هو ابن قمئة ، وهو يظنه رسول الله ـ لشبهه به ـ فانصرف ابن قمئة إلى المشركين ، وصاح : إن محمداً قد قتل .
إشاعة مقتل النبي (صلى الله عليه وسلم)
ولم يمض على هذا الصياح دقائق ، حتى شاع خبر مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم) في المشركين والمسلمين .
وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين ، الذين لم يكونوا مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وانهارت معنوياتهم ، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد ، وعمتها الفوضى والاضطراب ، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين ، لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم ، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين .
الرسول(صلى الله عليه وسلم) يواصل المعركة وينقذ الموقف
ولما قتل مصعب أعطي رسول الله اللواء على بن أبي طالب ، فقاتل قتالاً شديداً ، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة ، يقاتلون ويدافعون .
وحينئذ استطاع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق ، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أبشروا ، هذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فأشار إليه أن اصمت ـ وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون ـ إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين ، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاً من الصحابة .
وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل ، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين ، واشتد المشركون في هجومهم ، لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام .
تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو يقول : لا نجوت إن نجا . وقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لمواجهته ، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر ، فنازله الحارث بن الصِّمَّة ، فضرب على رجله فأقعده ، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه ، والتحق برسول الله(صلى الله عليه وسلم) .
وعطف عبد الله بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الحارث بن الصِّمَّة ، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل المغامر ذو العصابة الحمراء ـ على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه .
وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله ، كما تحدث عنه القرآن . قال أبو طلحة : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً ، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه .
وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ في انسحاب منظم ـ إلى شعب الجبل ، وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون ، فتلاحق به في الجبل ، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) .
مقتل أبي بن خلف
قال ابن إسحاق : فلما أسند رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول : أين محمد ؟ لا نجوتُ إن نجا . فقال القوم : يا رسول الله ، أيعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( دعوه ) ، فلما دنا منه تناول رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الحربة من الحارث بن الصمة ، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض ، ثم استقبله وأبصر تَرْقُوَتَه من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة ، فطعنه فيها طعنة تدأدأ ـ تدحرج ـ منها عن فرسه مراراً . فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم ، قال : قتلني والله محمد ، قالوا له: ذهب والله فؤادك ، والله إن بك من بأس ، قال : إنه قد كان قال لي بمكة : ( أنا أقتلك ) ، فوالله لو بصق على لقتلني . فمات عدو الله بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة .
وفي رواية أبي الأسود عن عروة ، وكذا في رواية سعيد بن المسيب عن أبيه : أنه كان يخور خوار الثور ، ويقول : والذي نفسي بيده ، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً .
طلحة ينهض بالنبي(صلى الله عليه وسلم)
وفي أثناء انسحاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل ، فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع ، لأنه كان قد بَدَّنَ وظاهر بين الدرعين ، وقد أصابه جرح شديد . فجلس تحته طلحة بن عبيد الله ، فنهض به حتى استوي عليها ، وقال : ( أوْجَبَ طلحةُ ) ، أي : الجنة .
آخر هجوم قام به المشركون
ولما تمكن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين .
قال ابن إسحاق : بينا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل ـ يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد ـ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : " اللّهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا " ، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل .
وفي مغازي الأموي : أن المشركين صعدوا على الجبل ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لسعد : ( اجْنُبْهُمْ ) ـ يقول : ارددهم ـ فقال : كيف أجْنُبُهُمْ وحدي ؟ فقال ذلك ثلاثاً ، فأخذ سعد سهماً من كنانته ، فرمي به رجلاً فقتله ، قال : ثم أخذت سهمي أعرفه ، فرميت به آخر، فقتلته ، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته ، فهبطوا من مكانهم ، فقلت : هذا سهم مبارك ، فجعلته في كنانتي . فكان عند سعد حتى مات ، ثم كان عند بنيه .
تشويه الشهداء
وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً ـ بل كانوا على شبه اليقين من قتله ـ رجعوا إلى مقرهم ، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة ، واشتغل من اشتغل منهم ـ وكذا اشتغلت نساؤهم ـ بقتلي المسلمين ، يمثلون بهم ، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج ، ويبقرون البطون . وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة فلاكتها ، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، واتخذت من الآذان والأنوف خَدَماً ـ خلاخيل ـ وقلائد
مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة
وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال ، ومدى استماتتهم في سبيل الله :
1. قال كعب بن مالك : كنت فيمن خرج من المسلمين ، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت ، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول : استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم . وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته ، فمضيت حتى كنت من ورائه ، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري ، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة ، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا ، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين ، ثم كشف المسلم عن وجهه ، وقال : كيف ترى يا كعب ؟ أنا أبو دجانة .
2. جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة ، قال أنس : لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم ، وإنهما لمشمرتان ـ أرى خَدَم سوقهما ـ تَنْقُزَانِ القِرَبَ على متونهما ، تفرغانه في أفواه القوم ، ثم ترجعان فتملآنها ، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم . وقال عمر : كانت [ أم سَلِيط من نساء الأنصار ] تزفر لنا القرب يوم أحد .
وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن ، لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة ، أخذت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم : هاك المغزل ، وهلم سيفك . ثم سارعت إلى ساحة القتال ، فأخذت تسقي الجرحى ، فرماها حِبَّان ـ بالكسر ـ بن العَرَقَة بسهم ، فوقعت وتكشفت ، فأغرق عدو الله في الضحك ، فشق ذلك على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهماً لا نصل له ، وقال : ( ارم به ) ، فرمى به سعد ، فوقع السهم في نحر حبان ، فوقع مستلقياً حتى تكشف ، فضحك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى بدت نواجذه ، ثم قال : ( استقاد لها سعد ، أجاب الله دعوته ) .
بعد إنتهاء الرسول (صلى الله عليه وسلم)إلى الشعب
ولما استقر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في مقره من الشِّعب خرج على أبي طالب حتى ملأ دَرَقَته ماء من المِهْرَاس ـ قيل : هو صخرة منقورة تسع كثيراً . وقيل : اسم ماء بأحد ـ فجاء به إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ليشرب منه ، فوجد له ريحاً فعافه ، فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه وهو يقول : "اشتد غضب الله على من دَمَّى وجه نبيه " .
وقال سهل : والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ومن كان يسكب الماء ، وبما دُووِي ؟ كانت فاطمة ابنته تغسله ، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها ، فألصقتها فاستمسك الدم .
وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ ، فشرب منه النبي(صلى الله عليه وسلم) ودعا له بخير ، وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح ، وصلى المسلمون خلفه قعوداً .
شماتة أبي سفيان
ولما تكامل تهيؤ المشركين للانـصراف أشـرف أبو سفـيان على الجبل ، فـنادي أفيكم محمد ؟ فلم يجيبوه . فقال : أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجبيبوه . فقال : أفيكم عمر بن الخطاب ؟ فلم يجيبوه ـ وكان النبي(صلى الله عليه وسلم) منعهم من الإجابة ـ ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم . فقال : أما هؤلاء فقد كفيتموهم ، فلم يملك عمر نفسه أن قال : يا عدو الله ، إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله ما يسوءك .
فقال : قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني .
ثم قال : أعْلِ هُبَل.
فقال النبي(صلى الله عليه وسلم): ( ألا تجيبونه ؟ ) فقالوا : فما نقول ؟ قال : ( قولوا : الله أعلى وأجل ) .
ثم قال : لنا العُزَّى ولا عزى لكم .
فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) : ( ألا تجيبونه ؟ ) قالوا : ما نقول ؟ قال : ( قولوا : الله مولانا ، ولا مولي لكم ) .
ثم قال أبو سفيان : أنْعَمْتَ فَعَال ، يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال .
فأجابه عمر ، وقال : لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار .
ثم قال أبو سفيان : هلم إلى يا عمر، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( ائته فانظر ما شأنه ؟ ) فجاءه ،
فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً ؟ قال عمر : اللّهم لا . وإنه ليستمع كلامك الآن . قال : أنت أصدق عندي من ابن قَمِئَة وأبر .
مواعدة التلاقي في بدر
قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل .
فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لرجل من أصحابه : ( قل : نعم ، هو بيننا وبينك موعد ) .
التثبت من موقف المشركين
ثم بعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) علي بن أبي طالب ، فقال : "اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون ؟ وما يريدون ؟ فإن كانوا قد جَنَبُوا الخيل ، وامْتَطُوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة ، والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ، ثم لأناجزنهم ". قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، ووَجَّهُوا إلى مكة .
تفقد القتلى والجرحى
وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرف قريش . قال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يوم أحد أطلب سعد بن الربيع . فقال لي : ( إن رأيته فأقرئه مني السلام ، وقل له : يقول لك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : كيف تجدك ؟ ) قال : فجعلت أطوف بين القتلى ، فأتيته وهو بآخر رمق ، فيه سبعون ضربة ، ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم ، فقلت : يا سعد ، إن رسول الله يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : أخبرني كيف تجدك ؟ فقال : وعلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) السلام ، قل له : يا رسول الله ، أجد ريح الجنة ، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وفيكم عين تطرف ، وفاضت نفسه من وقته .
ووجدوا في الجرحى الأُصَيرِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير ، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه ، فقالوا : إن هذا الأصيرم ما جاء به ؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر ، ثم سألوه : ما الذي جاء بك ، أحَدَبٌ على قومك ، أم رغبة في الإسلام ؟ فقال : بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله ورسوله ، ثم قاتلت مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى أصابني ما ترون ، ومات من وقته ، فذكروه لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال : ( هو من أهل الجنة ) . قال أبو هريرة : ولم يُصَلِّ لله صلاة قط .
ووجدوا في الجرحى قُزْمَان ـ وكان قد قاتل قتال الأبطال ، قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ـ وجدوه قد أثبتته الجراحة ، فاحتملوه إلى دار بني ظَفَر ، وبشره المسلمون فقال : والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ، ولولا ذلك ما قاتلت ، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه . وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقول ـ إذا ذكر له : ( إنه من أهل النار ) ـ وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوي إعلاء كلمة الله ، وإن قاتلوا تحت لواء الإسلام ، بل وفي جيش الرسول والصحابة.
وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة ، قال لقومه : يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق . قالوا : إن اليوم يوم السبت . قال :لا سبت لكم . فأخذ سيفه وعدته ، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد . يصنع فيه ما شاء ، ثم غدا فقاتل حتى قتل . فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( مُخَيرِيق خير يهود ) .
جمع الشهداء ودفنهم
وأشرف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الشهداء فقال : " أنا شهيد على هؤلاء ، إنه ما من جريح يُجْرَح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة ، يَدْمَي جُرْحُه ، اللون لون الدم ، والريح ريح المِسْك " .
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة فأمر أن يردوهم ، فيدفنوهم في مضاجعهم وألا يغسلوا ، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود . وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد ، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد ، ويقول : " أيهم أكثر أَخْذًا للقرآن ؟ " فإذا أشاروا إلى الرجل قدمه في اللحد ، وقال : "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة " .
ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة .
وفقدوا نعش حنظلة ، فتفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء ، فأخبر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أصحابه أن الملائكة تغسله ، ثم قال : ( سلوا أهله ما شأنه ؟ ) فسألوا امرأته ، فأخبرتهم الخبر . ومن هنا سمي حنظلة : غسيل الملائكة.
ولما رأى ما بحمزة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه ، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة ، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ابنها الزبير أن يصرفها ، لا ترى ما بأخيها ، فقالت ولم ؟ وقد بلغني أن قد مُثِّلَ بأخي ، وذلك في الله ، فما أرضانا بما كان من ذلك ، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله ، فأتته فنظرت إليه ، فصلت عليه ـ دعت له ـ واسترجعت واستغفرت له . ثم أمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بدفنه مع عبد الله بن جحش ـ وكان ابن أخته ، وأخاه من الرضاعة .
قال ابن مسعود : ما رأينا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب . وضعه في القبلة ، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نَشَع من البكاء ـ والنشع : الشهيق .
وكان منظر الشهداء مريعاً جداً يفتت الأكباد . قال خباب : إن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة مَلْحَاء ، إذا جعلت على رأسه قَلَصَت عن قدميه ، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه ، حتى مدت على رأسه ، وجعل على قدميه الإِذْخَر .
وقال عبد الرحمن بن عوف : قتل مصعب بن عمير وهو خير مني ، كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي رجلاه بدا رأسه ، وروي مثل ذلك عن خباب ، وفيه : فقال لنا النبي(صلى الله عليه وسلم) : "غطوا بها رأسه ، واجعلوا على رجليه الإذخر ".
الرسول(صلى الله عليه وسلم) يثني على ربه عز وجل ويدعوه
روى الإمام أحمد : لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون ، قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : " استووا حتى أثني على ربي عز وجل " ، فصاروا خلفه صفوفاً ، فقال :
" اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما باعدت ، ولا مبعد لما قربت . اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك . اللهم إني أسألك النعيم المقيم ، الذي لا يحُول ولا يزول . اللهم إني أسألك العون يوم العيلة ، والأمن يوم الخوف . اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا . اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين . اللهم توفنا مسلمين ، وأحينا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين . اللّهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ، ويصدون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك . اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب ، إله الحق ".
الرجوع إلى المدينة ونوادر الحب والتفاني
ولما فرغ رسول الله من دفن الشهداء والثناء على الله والتضرع إليه ، انصرف راجعاً إلى المدينة ، وقد ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات ، كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة .
لقيته في الطريق حَمْنَة بنت جحش ، فَنُعِي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب ، فاسترجعت واستغفرت ، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير ، فصاحت وولوت ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : "إن زوج المرأة منها لبِمَكان " .
ومر بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد ، فلما نعوا لها قالت : فما فعل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ؟ قالوا : خيراً يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين ، قالت : أرونيه حتى أنظر إليه ، فأشير إليها حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جَلَلٌ ـ تريد صغيرة .
وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو ، وسعد آخذ بلجام فرسه ، فقال : يا رسول الله ، أمي ، فقال : "مرحباً بها "، ووقف لها ، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ . فقالت : أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها ـ ثم دعا لأهل من قتل بأحد ، وقال : " يا أم سعد ، أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً ، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً ". قالت : رضينا يا رسول الله ، ومن يبكي عليهم بعد هذا ؟ ثم قالت : يا رسول الله ، ادع لمن خلفوا منهم ، فقال : " اللّهم أذهب حزن قلوبهم ، واجبر مصيبتهم ، وأحسن الخَلفَ على من خُلِّفُوا " .
الرسول(صلى الله عليه وسلم) في المدينة
وانتهى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مساء ذلك اليوم ـ يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ ـ إلى المدينة .
فلما انتهى إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة ، فقال : ( اغسلي عن هذا دمه يا بنية ، فو الله لقد صدقني اليوم )، وناولها على بن أبي طالب سيفه ، فقال : وهذا أيضاً فاغسلي عنه دمه ، فو الله لقد صدقني اليوم ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : " لئن كنت صدقت القتال ، لقد صدق معك سهل بن حُنَيف وأبو دُجَانة " .
قتلى الفريقين
اتفقت جل الروايات على أن قتلى المسلمين كانوا سبعين ، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار ، فقد قتل منهم خمسة وستون رجلاً ، واحد وأربعون من الخزرج ، وأربعة وعشرون من الأوس ، وقتل رجل من اليهود .
وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط .
وأما قتلى المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلاً ، ولكن الإحصاء الدقيق ـ بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير ، والتي تتضمن ذكر قتلى المشركين في مختلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلى المشركين سبعة وثلاثون ، لا اثنان وعشرون ، والله أعلم .
حالة الطوارئ في المدينة
بات المسلمون في المدينة ـ ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ بعد الرجوع من معركة أحد ـ وهم في حالة الطوارئ ، باتوا ـ وقد أنهكهم التعب ، ونال منهم أي منال ـ يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها ، ويحرسون قائدهم الأعلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خاصة ، إذ كانت تتلاحقهم الشبهات من كل جانب .
غزوة حمراء الأسد
وبات الرسول(صلى الله عليه وسلم) وهو يفكر في الموقف ، فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في أنهم لم يستفيدوا شيئاً من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال ، فلا بد من أن يندموا على ذلك ، ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مرة ثانية ، فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي .
قال أهل المغازي ما حاصله : إن النبي(صلى الله عليه وسلم) نادى في الناس ، وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدو ـ وذلك صباح الغد من معركة أحد ، أي يوم الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ ـ وقال : ( لا يخرج معنا إلا من شهد القتال ) ، فقال له عبد الله بن أبي : أركب معك ؟ قال : ( لا ) ، واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد ، والخوف المزيد ، وقالوا : سمعاً وطاعة . واستأذنه جابر بن عبد الله ، وقال : يا رسول الله ، إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك ، وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك ، فأذن له .
وسار رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ، على بعد ثمانية أميال من المدينة ، فعسكروا هناك .
وهناك أقبل مَعْبَد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأسلم ـ ويقال : بل كان على شركه ، ولكنه كان ناصحاً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)لما كان بين خزاعة وبني هاشم من الحلف ـ فقال : يا محمد ، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله عافاك . فأمره رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يلحق أبا سفيان فَيُخَذِّلَه .
ولم يكن ما خافه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من تفكير المشركين في العودة إلى المدينة إلا حقاً ، فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة تلاوموا فيما بينهم ، قال بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئاً ، أصبتم شوكتهم وحدهم ، ثم تركتموهم ، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم .
ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحياً ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهم تقديراً صحيحاً ، ولذلك خالفهم زعيم مسئول [ صفوان بن أمية ] قائلاً : يا قوم ، لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج ـ أي من المسلمين في غزوة أحد ـ فارجعوا والدولة لكم ، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم . إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة ، وأجمع جيش مكة على المسير نحو المدينة ، ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن أبي معبد الخزاعي ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه ، فقال : ما وراءك يا معبد ؟ فقال معبد ـ وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة : محمد قد خرج في أصحابه ، يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقاً ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما ضيعوا ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط . قال أبو سفيان : ويحك ، ما تقول ؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ـ أو ـ حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة . فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم . قال : فلا تفعل ، فإني ناصح .
وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي وأخذه الفزع والرعب ، فلم ير العافية إلا في مواصلة الانسحاب والرجوع إلى مكة ، بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي ، لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة ، وطبعاً فهو ينجح في تجنب لقائه . فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة ، فقال : هل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة ، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة ؟ قالوا : نعم . قال : فأبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة ، لنستأصله ونستأصل أصحابه .
فمر الركب برسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ، وهم بحمراء الأسد ، فأخبرهم بالذي قال له أبو سفيان ، وقالوا : " إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ " ـ أي زاد المسلمين قولهم ذلك ـ " إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ "[آل عمران: 173، 174] .
أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بحمراء الأسد ـ بعد مقدمه يوم الأحد ـ الإثنين والثلاثاء والأربعاء ـ 9، 10، 11 شوال سنة 3 هـ ـ ثم رجع إلى المدينة ، وأخذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قبل الرجوع إلى المدينة أبا عَزَّة الجمحي ـ وهو الذي كان قد منّ عليه من أسارى بدر ، لفقره وكثرة بناته ، على ألا يظاهر عليه أحداً ، ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النبي(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ، كما أسلفنا ، وخرج لمقاتلتهم في أحد ـ فلما أخذه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قال : يا محمد أقلني ، وامنن علي ، ودعني لبناتي ، وأعطيك عهداً ألا أعود لمثل ما فعلت ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمداً مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " ، ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه .
كما حكم بالإعدام في جاسوس من جواسيس مكة ، وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان لأمه ، وذلك أنه لما رجع المشركون يوم أحد جاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه فاستأمن له عثمان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتله . فلما خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثر من ثلاث يتجسس لحساب قريش ، فلما رجع الجيش خرج معاوية هارباً ، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) زيد بن حارثة وعمار بن ياسر ، فتعقباه حتى قتلاه .
ومما لا شك فيه أن غزوة حمراء الأسد ليست بغزوة مستقلة ، وإنما هي جزء من غزوة أحد ، وتتمة لها وصفحة من صفحاتها .
تلك هي غزوة أحد بجميع مراحلها وتفاصيلها ، وطالما بحث الباحثون حول مصير هذه الغزوة ، هل كانت هزيمة أم لا ؟ والذي لا يشك فيه أن التفوق العسكري في الصفحة الثانية من القتال كان للمشركين ، وأنهم كانوا مسيطرين على ساحة القتال ، وأن خسارة الأرواح والنفوس كانت في جانب المسلمين أكثر وأفدح ، وأن طائفة من المؤمنين انهزمت قطعاً ، وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي ، لكن هناك أمور تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح .
فمما لا شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلال معسكر المسلمين ، وأن المقدار الكبير من الجيش المدني لم يلتجئ إلى الفرار ـ مع الارتباك الشديد والفوضي العامة ـ بل قاوم بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته ، وأن كفته لم تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي ، وأن أحداً من جيش المدينة لم يقع في أسر الكفار ، وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين ، وأن الكفار لم يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل في معسكره ، وأنهم لم يقيموا بساحة القتال يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام ـ كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان ـ بل سارعوا إلى الانسحاب وترك ساحة القتال قبل أن يتركها المسلمون ، ولم يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب الذراري والأموال ، مع أنها على بعد عدة خطوات فحسب ، وكانت مفتوحة وخالية تماماً .
كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة نجحوا فيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين ، مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة الجيش الإسلامي بعد عمل التطويق ـ وكثيراً ما يلقي الفاتحون بمثل هذه الخسائر التي نالها المسلمون ـ أما أن ذلك كان نصراً وفتحاً فكلا وحاشا .
بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في الانسحاب والانصراف أنه كان يخاف على جيشه المعرة والهزيمة لو جرت صفحة ثالثة من القتال ، ويزداد ذلك تأكداً حين ننظر إلى موقف أبي سفيان من غزوة حمراء الأسد .
وإذن فهذه الغزوة إنما كانت حرباً غير منفصلة ، أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والخسارة ، ثم حاد كل منها عن القتال من غير أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لاحتلال العدو ، وهذا هو معني الحرب غير المنفصلة .
وإلى هذا يشير قوله تعإلى: " وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ " [النساء: 104]، فقد شبه أحد العسكرين بالآخر في التألم وإيقاع الألم ، مما يفيد أن الموقفين كانا متماثلين ، وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب .
القرآن يتحدث حول موضوع المعركة
ونزل القرآن يلقي ضوءاً على جميع المراحل المهمة من هذه المعركة مرحلة مرحلة ، وصرح بالأسباب التي أدت إلى هذه الخسارة الفادحة ، وأبدى النواحي الضعيفة التي لم تزل موجودة في طوائف أهل الإيمان بالنسبة إلى واجبهم في مثل هذه المواقف الحاسمة ، وبالنسبة إلى الأهداف النبيلة السامية التي أنشئت للحصول عليها هذه الأمة ، والتي تمتاز عن غيرها بكونها خير أمة أخرجت للناس .
كما تحدث القرآن عن موقف المنافقين ، ففضحهم وأبدي ما كان في باطنهم من العداوة لله ولرسوله ، مع إزالة الشبهات والوساوس التي كانت تختلج في قلوب ضعفاء المسلمين ، والتي كان يثيرها هؤلاء المنافقون وإخوانهم اليهود ـ أصحاب الدس والمؤامرة ـ وقد أشار إلى الحكم والغايات المحمودة التي تمخضت عنها هذه المعركة .
نزلت حول موضوع المعركة ستون آية من سورة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة : " وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ " [ آل عمران: 121 ] ، وتترك في نهايتها تعليقاً جامعاً على نتائج هذه المعركة وحكمتها ، قال تعالى : " مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ " [آل عمران: 179] .
الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة
قد بسط ابن القيم الكلام على هذا الموضوع بسطاً تاماً .
وقال ابن حجر : قال العلماء : وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة ، منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية ، وشؤم ارتكاب النهي ، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول(صلى الله عليه وسلم) ألا يبرحوا منه .
ومنها أن عادة الرسل أن تبتلي وتكون لها العاقبة ، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائماً دخل في المؤمنين من ليس منهم ، ولم يتميز الصادق من غيره ، ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة ، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب ، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفياً عن المسلمين ، فلما جرت هذه القصة ، وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحاً ، وعرف المسلمون أن لهم عدواً في دورهم ، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم .
ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضـماً للنفس ، وكسراً لشـماختها ، فلما ابتلي المؤمنـون صـبروا ، وجـزع المنافقون .
ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل فى دار كرامته لا تبلغها أعمالهم ، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها .
ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم .
ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه ، فقيض لهم الأسباب التى يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين ، ومحق بذلك الكافرين