غزوة الأحزاب
الناقل :
mahmoud
| المصدر :
www.rasoulallah.net
عاد الأمن والسلام، وهدأت الجزيرة العربية بعد الحروبوالبعوث التي استغرقت أكثر من سنة كاملة ، إلا أن اليهود ـ الذين كانوا قد ذاقواألواناً من الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتهم ودسائسهم ـ لم يفيقوا منغيهم ، ولم يستكينوا ، ولم يتعظوا بما أصابهم من نتيجة الغدر والتآمر . فهم بعدنفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين من خلال المناوشات التي كانت قائمةبين المسلمين والوثنيين ، ولما تحول مجرى الأيام لصالح المسلمين ، وتمخضت اللياليوالأيام عن بسط نفوذهم ، وتوطد سلطانهم ـ تحرق هؤلاء اليهود أي تحرق .
وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين ، وأخذوا يعدونالعدة ، لتصويب ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها . ولما لم يكونوايجدون في أنفسهم جرأة على قتال المسلمين مباشرة ، خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة .
خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلىقريش بمكة ، يحرضونهم على غزو الرسول(صلى الله عليه وسلم)، ويوالونهمعليه ، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم ، فأجابتهم قريش ، وكانت قريش قد أخلفت موعدهافي الخروج إلى بدر ، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها .
ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان ، فدعاهم إلى ما دعا إليهقريشاً فاستجابوا لذلك ، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له مناستجاب ، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي(صلى الله عليه وسلم)
والمسلمين .
وعلى إثر ذلك خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهلتهامة ـ وقائدهم أبو سفيان ـ في أربعة آلاف ، ووافاهم بنو سليم بمَرِّ الظَّهْرَان، وخرجت من الشرق قبائل غطفان : بنو فَزَارة ، يقودهم عُيينَة بن حِصْن ، وبنومُرَّة، يقودهم الحارث بن عوف ، وبنو أشجع ، يقودهم مِسْعَر بن رُحَيلَةِ ، كماخرجت بنو أسد وغيرها .
واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانتقد تعاقدت عليه .
وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عَرَمْرَم يبلغ عدده عشرةآلاف مقاتل ، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيانوالشباب والشيوخ .
ولو بلغت هذه الأحزاب والمحزبة والجنود المجندة إلى أسوارالمدينة بغتة لكانت أعظم خطراً على كيان المسلمين مما يقاس ، وربما تبلغ إلىاستئصال الشأفة وإبادة الخضراء ، ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة ، لم تزلواضعة أناملها على العروق النابضة ، تتجسس الظروف ، وتقدر ما يتمخض عن مجراها ، فلمتكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها بهذاالزحف الخطير .
وسارع رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
إلى عقدمجلس استشاري أعلى ، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة ، وبعد مناقشاتجرت بين القادة وأهل الشورى اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي رضيالله عنه . قال سلمان : يا رسول الله ، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرناخَنْدَقْنَا علينا . وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك .
وأسرع رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
إلى تنفيذهذه الحظة ، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً ، وقامالمسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم)
يحثهمويساهمهم في عملهم هذا . ففي البخاري عن سهل بن سعد ، قال : كنا مع رسول اللهفي الخندق ، وهم يحفرون ، ونحن ننقل التراب على أكتادنا ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
" :
اللهم لا عَيشَ إلا عيشُ الآخرة ، فاغفر للمهاجرين والأنصار" .
وعن أنس : خرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
إلى الخندقفإذا المهاجرين والأنصار يحفرون في غداة باردة ، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم ،فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال :
اللهم إن العيش عيش الآخرة
فاغفـر للأنصـار والمهـاجرة
فقالوا مجيبين له :
نحـن الذيـن بايعـوا محمـداً
على الجهـاد ما بقيـنا أبداً
وفيه عن البراء بن عازب قال : رأيته(صلى الله عليه وسلم)
ينقل منتراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه ، وكان كثير الشعر ، فسمعته يرتجزبكلمات ابن رواحة ، وهو ينقل من التراب ويقول
:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
فأنزلن سكينـة علينـا
إنالألى بغـوا علينـا
ولا تصـدقنـا ولا صلينــا
وثبت الأقـدام إن لاقينـــا
وإن أرادوا فتـنـة أبينـــا
قال : ثم يمد بها صوته بآخرها ، وفي رواية :
إن الألى قـد بغـوا علينـا
وإن أرادوا فـتنـة أبينـا
كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوعما يفتت الأكباد ، قال أنس : كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير ، فيصنعلهم بإهَالَةٍ سنخة توضع بين يدي القوم ، والقوم جياع ، وهي بشعة في الحلق ولها ريح.
وقال أبو طلحة : شكونا إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
الجوع ،فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ، فرفع رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
عن حجرين.
وبهذه المناسبة وقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، رأى جابر بن عبد الله في النبي(صلى الله عليه وسلم)
خمصاًشديدًا فذبح بهيمة ، وطحنت امرأته صاعاً من شعير ، ثم التمس من رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
سراً أن يأتي في نفر من أصحابه ، فقام النبي(صلى الله عليه وسلم)
بجميع أهلالخندق ، وهم ألف ، فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا ، وبقيت بُرْمَة اللحم تغط به كماهي ، وبقي العجين يخبز كما هو .
وجاءت أخت النعمان بن بشير بحَفْنَة من تمر إلى الخندقليتغدى به أبوه وخاله ، فمرت برسول الله(صلى الله عليه وسلم)
، فطلب منهاالتمر ، وبدده فوق ثوب ، ثم دعا أهل الخندق ، فجعلوا يأكلون منه وجعل التمر يزيد ،حتى صدر أهل الخندق عنه ، وإنه يسقط من أطراف الثواب .
وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابر قال : إنا يومخندق نحفر ، فعرضت كُدْية شديدة ، فجاءوا النبي(صلى الله عليه وسلم)
فقالوا :هذه كدية عرضت في الخندق . فقال : ( أنا نازل ) ، ثم قام وبطنه معصوب بحجرـ ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقاً ـ فأخذ النبي(صلى الله عليه وسلم)
المِعْوَل ،فضرب فعاد كثيباً أهْيل أو أهْيم ، أي صار رملاً لا يتماسك .
وقال البراء : لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندقصخرة لا تأخذ منها المعاول ، فاشتكينا ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وسلم)
، فجاءةوأخذ المعول فقال :
"
بسم الله
"
، ثم ضرب ضربة ، وقال :
"
الله أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأنظر قصورها الحمرالساعة
"
،ثم ضرب الثانية فقطع آخر ، فقال :
"
الله أكبر ، أعطيت فارس ، والله إني لأبصرقصر المدائن الأبيض الآن
"
، ثم ضرب الثالثة ، فقال :
"
بسمالله
"
،فقطع بقية الحجر ، فقال :
"
الله أكبر ، أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصرأبواب صنعاء من مكاني".
وروى ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي الله عنه .
ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين منالنخيل من كل جانب سوي الشمال ، وكان النبي(صلى الله عليه وسلم)
يعلم أن زحفمثل هذا الجيش الكبير ، ومهاجمته المدينة لا يمكن إلا من جهة الشمال ، اتخذ الخندقفي هذا الجانب .
وواصل المسلمون عملهم في حفره ، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهم في المساء ، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة ، قبل أنيصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة .
وأقبلت قريش في أربعة آلاف ،حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرْف وزَغَابَة ، وأقبلت غَطَفَان ومنتبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بذَنَبِ نَقْمَي إلى جانب أحد .
"وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُواهَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَازَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" [الأحزاب: 22] .
وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذاالجيش"وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌمَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا"[ الأحزاب: 12] .
وخرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
في ثلاثةآلاف من المسلمين ، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سَلْع فتحصنوا به ، والخندق بينهم وبينالكفار . وكان شعارهم : [ حم لا ينصرون ] ، واستحلف على المدينة ابن أممكتوم ، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة .
ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة ،وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها ، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين ،بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم ، إذ كانت هذه الخطة ـ كما قالوا ـمكيدة ما عرفتها العرب ، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً .
وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً ، يتحسسون نقطةضعيفة ، لينحدروا منها ، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين ، يرشقونهمبالنبل ، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه ، ولا يستطيعوا أن يقتحموه ، أو يهيلواعليه التراب ، ليبنوا به طريقاً يمكنهم من العبور .
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوى فيترقب نتائج الحصار ، فإن ذلك لم يكن من شيمهم ، فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبدوُدّ وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم ، فتيمموا مكاناً ضيقاً من الخندقفاقتحموه ، وجالت بهم خيلهم في السَّبْخة بين الخندق وسَلْع ، وخرج علي بن أبي طالبفي نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، ودعا عمرو إلىالمبارزة ، فانتدب له علي بن أبي طالب ، وقال كلمة حمي لأجلها ـ وكان من شجعانالمشركين وأبطالهم ـ فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي ، فتجاولاوتصاولا حتى قتله علي رضي الله عنه ، وانهزم الباقون حتى اقتحموا الخندق هاربين ،وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو .
وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحامالخندق ، أو لبناء الطرق فيها ، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة ، ورشقوهمبالنبل ، وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم .
ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلواتعن رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
والمسلمين ، ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه : أن عمربن الخطاب جاء يوم الخندق ، فجعل يسب كفار قريش . فقال : يا رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
،ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم)
: (وأنا والله ما صليتها ) ، فنزلنا مع النبي(صلى الله عليه وسلم)
بُطْحَان ،فتوضأ للصلاة ، وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب.
وقد استاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
لفوات هذهالصلاة حتى دعا على المشركين ، ففي البخاري عن على عن النبي(صلى الله عليه وسلم)
أنه قال يومالخندق : "ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً ، كما شغلونا عن الصلاةالوسطى حتى غابت الشمس".
وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصروالمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً . قال النووي : وطريق الجمع بين هذه الروايات أنوقعة الخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض الأيام ، وهذا في بعضها . انتهى .
ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين ، والمكافحةالمتواصلة من المسلمين ، دامت أياماً ، إلا أن الخندق لما كان حائلاً بين الجيشينلم يجر بينهما قتال مباشر أو حرب دامية ، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة .
وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين ، يعدون على الأصابع
:
ستة من المسلمين ، وعشرة من المشركين ، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف.
وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطعمنه الأكْحَل ، رماه رجل من قريش يقال له : حَبَّان بن العَرِقَة ، فدعا سعد :اللّهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه ،اللّهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم ، فإن كان بقي من حرب قريش شيءفأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك ، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها .وقال في آخر دعائه : ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة .
وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركةكانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها ، تريد إيصال السم داخل أجسادهم : انطلقكبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة فأتى كعب بن أسد القرظي ـسيد بني قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم ، وكان قد عاقد رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
على أنينصره إذا أصابته حرب ، كما تقدم ـ فضرب عليه حيي الباب فأغلقه كعب دونه ، فما زاليكلمه حتى فتح له بابه ، فقال حيي : إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طَامٍ ،جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رُومَة ، وبغطفانعلى قادتها وسادتها ، حتى أنزلتهم بذَنَب نَقْمَي إلى جانب أحد ، قد عاهدونيوعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه .
فقال له كعب : جئتني والله بذُلِّ الدهر وبجَهَامٍ قدهَرَاق ماؤه ، فهو يرْعِد ويبْرِق ، ليس فيه شيء . ويحك يا حيي ! فدعني وما أناعليه ، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً.
فلم يزل حيي بكعب يفْتِلُه في الذِّرْوَة والغَارِب ، حتىسمح له على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقاً : لئن رجعت قريش وغطفان ، ولم يصيبوامحمداً أن أدخل معك في حصنك ، حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرئمما كان بينه وبين المسلمين ، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين .
وفعلاً قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب . قال ابنإسحاق : كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت ، وكان حسان فيه معالنساء والصبيان ، قالت صفية : فمر بنا رجل من يهود ، فجعل يطيف بالحصن ، وقدحاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
، وليسبيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم)
والمسلمونفي غور عدوهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت ، قالت : فقلت : ياحسان ، إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن ، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنامَنْ وراءنا مِنْ يهود ، وقد شغل عنا رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
وأصحابه ،فانزل إليه فاقتله .
قال : والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ، قالت :فاحتجزت ثم أخذت عموداً ، ثم نزلت من الحصن إليه ، فضربته بالعمود حتى قتلته ، ثمرجعت إلى الحصن وقلت : يا حسان ، انزل إليه فاسلبه ، فإنه لم يمنعني من سبله إلاأنه رجل ، قال : ما لي بسلبه من حاجة .
وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول(صلى الله عليه وسلم)
أثر عميق فيحفظ ذراري المسلمين ونسائهم ، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصون في منعةمن الجيش الإسلامي ـ مع أنها كانت خالية عنهم تماماً ـ فلم يجترئوا مرة ثانيةللقيام بمثل هذا العمل ، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين بالمؤن ، كدليل عمليعلى انضمامهم إليهم ضد المسلمين ، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملاً .
وانتهى الخبر إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
وإلىالمسلمين فبادر إلى تحقيقه ، حتى يستجلي موقف قريظة ، فيواجهه بما يجب من الوجهةالعسكرية ، وبعث لتحقيق الخبر السعدين ، سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وعبد الله بنرواحة وخَوَّات بن جبير ، وقال : "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاءالقوم أم لا ؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ، ولا تَفُتُّوا في أعضادالناس ، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس" .
فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون ، فقد جاهروهمبالسب والعداوة ، ونالوا من رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
.
وقالوا : من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ، ولا عقد . فانصرفوا عنهم ،فلما أقبلوا على رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
لحنوا له ،وقالوا : عَضَل وقَارَة ، أي إنهم على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب الرَّجِيع .
وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر ،فتجسد أمامهم خطر رهيب .
وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون ، فلم يكن يحول بينهم وبينقريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف ، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوايستطيعون الانصراف عنه ، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غيرمنعة وحفظ ، وصاروا كما قال الله تعالى : "وَإِذْزَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِالظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا
"
[الأحزاب:10، 11]
ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال : كان محمد يعدناأن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط .وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه : إن بيوتنا عورة من العدو ، فأذن لنا أننخرج ، فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة . وحتى همت بنو سلمة بالفشل ، وفيهؤلاء أنزل الله تعالى :
"
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِيقُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواوَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌوَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا
"
[الأحزاب: 12، 13] .
أما رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
فتقنع بثوبهحين أتاه غَدْر قريظة ، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء ، ثم نهضمبشراً يقول :
"
الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح اللهونصره
"
، ثمأخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن ، وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة ،لئلا يؤتى الذراري والنساء على غرة ، ولكن كان لابد من إقدام حاسم ، يفضي إلى تخاذلالأحزاب ، وتحقيـقاً لهــذا الهـدف أراد أن يصالـح عُيينَة بن حصن والحارث بن عوفرئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة ، حتى ينصرفا بقومهما ، ويخلو المسلمون لإلحاقالهزيمة الساحقة العاجلة بقريش التي اختبروا مدى قوتها وبأسها مراراً ، وجرتالمراودة على ذلك ، فاستشار السعدين في ذلك ، فقالا : يا رسول الله ، إنكان اللهأمرك بهذا فسمعاً وطاعة ، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه ، لقد كنا نحنوهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرةإلا قِرًي أو بيعاً ، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهمأموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف ، فَصَوَّبَ رأيهما وقال :
"
إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة
"
.
ثم إن الله عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أمراً من عنده خذل بهالعدو وهزم جموعهم ، وفَلَّ حدهم ، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقالله: نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي رضي الله عنه جاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
فقال : يارسول الله ، إني قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني ما شئت ، فقال رسولالله(صلى الله عليه وسلم)
: ( إنما أنت رجل واحد ، فَخذِّلْ عنا ما استطعت ، فإن الحرب خدعة) ، فذهب من فوره إلى بني قريظة ـ وكان عشيراً لهم في الجاهلية ـ فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم ، وخاصة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت . قال : فإنقريشاً ليسوا مثلكم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون أنتتحولوا منه إلى غيره ، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه ، وقدظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فإن أصابوا فرصة انتهزوها ، وإلالحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم ، قالوا : فما العمل يا نعيم ؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن . قالوا : لقد أشرت بالرأي .
ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم : تعلمون ودي لكمونصحي لكم ؟ قالوا : نعم، قال : إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقضعهد محمد وأصحابه ، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ، ثميوالونه عليكم ، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم ، ثم ذهب إلى غطفان ، فقال لهم مثلذلك .
فلما كانت ليلة السبت من شوال ـ سنة 5هـ ـ بعثوا إلى اليهود: أنا لسنا بأرض مقام ، وقد هلك الكُرَاع والخف ، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً ،فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت ، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوافيه ، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن ، فلما جاءتهم رسلهم بذلكقالت قريش وغطفان : صدقكم والله نعيم ، فبعثوا إلى يهود إنا والله لا نرسل إليكمأحداً ، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً ، فقالت قريظة : صدقكم والله نعيم .فتخاذل الفريقان ، ودبت الفرقة بين صفوفهم ، وخارت عزائمهم .
وكان المسلمون يدعون الله تعالى : ( اللهم استر عوراتناوآمن روعاتنا ) ، ودعا رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
على الأحزاب، فقال:
"
اللّهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اللّهم اهزمهموزلزلهم
"
.
وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين ، فبعد أن دبت الفرقة فيصفوف المشركين وسرى بينهم التخاذل أرسل الله عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوضخيامهم ، ولا تدع لهم قِدْرًا إلا كفأتها ، ولا طُنُبًا إلا قلعته ، ولا يقر لهمقرار ، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم ، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف .
وأرسل رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
في تلكالليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم ، فوجدهم على هذه الحالة ،وقد تهيأوا للرحيل ، فرجع إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
، فأخبرهبرحيل القوم ، فأصبح رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
وقد رد اللهعدوه بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفاه الله قتالهم ، فصدق وعده ، وأعز جنده ، ونصرعبده ، وهزم الأحزاب وحده ، فرجع إلى المدينة .
وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصحالقولين ، وأقام المشركون محاصرين رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
والمسلمينشهراً أو نحو شهر . ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار كانت فيشوال ونهايته في ذي القعدة ، وعند ابن سعد أن انصراف رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
من الخندقكان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة .
إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر ، بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير ، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام ، تمخضتعن تخاذل المشركين ، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوةالصغيرة التي تنمو في المدينة ، لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتتبه في الأحزاب ، ولذلك قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
حين أجلىالله الأحزاب : "الآن نغزوهم ، ولا يغزونا ، نحن نسير إليهم"
.