التآخي و العصبية

الناقل : heba | المصدر : www.alhikmeh.com

 التآخي

التآخي الروحي

كان العصر الجاهلي مسرحا للمآسي والأرزاء، في مختلف مجالاته ونواحيه الفكرية والمادية.

وكان من أبشع مآسيه، ذلك التسيب الخلقي، والفوضى المدمرة، مما صيرهم يمارسون طباع الضواري، وشريعة الغاب والتناكر والتناحر، والفتك والسلب، والتشدق بالثأر والانتقام.

فلما أشرق فجر الإسلام، وأطل بأنواره على البشرية، استطاع بمبادئه الخالدة، ودستوره الفذ أن يُطب تلك المآسي، ويحسم تلك الأرزاء، فأنشأ من ذلك القطيع الجاهلي، ((خير أمة للناس))(1آل عمران:110) عقيدة وشريعة، وعلما وأخلاقا، فأحل الإيمان محل الكفر، والنظام محل الفوضى، والعلم محل الجهل، والسلام محل الحرب، والرحمة محل الانتقام.

فتلاشت تلك المفاهيم الجاهلية، وخلفتها المبادئ الإسلامية الجديدة، وراح النبي (صلى الله عليه وآله) يبني وينشأ أمة الأمم نظاما، وأخلاقا وكمالا.

وكلما سار المسلمون أشواطا تحت راية القرآن، وقيادة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، توغلوا في معارج الكمال، وحلقوا في آفاق المكارم، حتى حققوا مبدأ المؤاخاة بأسلوب لم تحققه الشرائع والمبادئ الأخرى، وأصبحت أواصر العقيدة أقوى من أواصر النسب، ووشائج الإيمان تسمو على وشائج القومية والقبلية، وغدا المسلمون أمة واحدة، مرصوصة الصف، شامخة الصرح، خفاقة اللواء، لا تفرقهم النعرات والفوارق.

((يا أيها الذين الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أن أكرمكم عند الله أتقاكم))(2الحجرات: 13).

وطفق القرآن الكريم يغرس في المسلمين مفاهيم التآخي الروحي، مركزا على بآياته العديدة وأساليبه الحكيمة الفذة.

فمرة شرع التآخي ليكون قانونا للمسلمين ((إنما المؤمنون أخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون)) (1الحجرات: 10).

وأخرى يؤكد عليه محذرا من عوامل الفرقة، ومذكرا نعمة التآلف والتآخي والإسلامي، بعد طول التناكر والتناحر الجاهليين، ((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء، فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا)) (2آل عمران:103).

وهكذا جهد الإسلام في تعزيز التآخي الروحي وحماه من نوازع الفرقة والانقسام بما شرعه من دستور الروابط الاجتماعية في نظامه الخالد.

وإليك نموذجا من ذلك:

تسامى بشعور المسلمين وعواطفهم، أن تسترقها النعرات العصبية، ونزعاتها المفرقة، ووجهها نحو الهدف الأسمى من طاعة الله تعالى ورضاه: فالحب والبغض، والعطاء والمنع، والنصر والخذلان، كل ذلك يجب أن يكون لله عز وجل، ولذلك تتوثق عرى المؤاخاة، وتتلاشى النزعات المفرقة، ويغدو المسلمون كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا.

وإليك قبسا من آثار أهل البيت عليهم السلام في هذا المقام:

عن الباقر (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ( ود المؤمن للمؤمن في الله، من أعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحب في الله ، وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله، فهو من أصفياء الله ) (3الوافي ج3 ص89 عن الكافي).

وقال الصادق(عليه السلام):(إن المتحابين في الله يوم القيامة، على منابر من نور، قد أضاء نورهم وجوههم، ونور أجسادهم، ونور منابرهم، كل شيء حتى يعرفوا به، فيقال هؤلاء المتحابون في الله) (1الوافي ج3 ص89 عن الكافي ).

وقال علي بن الحسين (عليه السلام): (إذا جمع الله عز وجل الأولين والآخرين، قام مناد ينادي بصوت يسمع الناس، فيقول: أين المتحابون في الله؟ قال: فيقوم عُنُق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنة بغير حساب.

قال: فتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: ؟إلى الجنة بغير حساب.

قال: فيقولون: فأي ضرب من أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابون في الله.

فيقولون: وأي شيء كانت أعمالكم؟ قالوا: كنا نحب في الله، ونبغض في الله.

قال: فيقولون: نعم أجر العاملين) (2البحار م15 ج1 ص283 عن الكافي).

وقال الصادق (عليه السلام): (كل من لم يحب على الدين، ولم يبغض على الدين فلا دين له) (3الوافي ج3 ص90 عن الكافي ).

وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: (إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا، فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصية الله، ففيك خير، والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته، فليس فيك خير، والله يبغضك، والمرء مع من أحب) (4الوافي ج3 ص90 عن الكافي).

رغب المسلمين فيما يؤلفهم، ويحقق لهم العزة والرخاء، كالتواصي بالحق، والتعاون على البر، والتناصر على العدل، والتكافل في مجالات الحياة الاقتصادية، فهم في عرف الشريعة أسرة واحدة، يسعدها ويشقيها ما يسعد أفرادها ويشقيهم.

دستورها ((محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)) (الفتح: 29).

وشعارها قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم) (1الوافي ج3 ص99 عن الكافي).

حذر المسلمين مما يبعث على الفرقة والعداء، والفحش والبذاء والاغتياب، والنميمة والخيانة والغش، ونحوها من مثيرات الفتن والضغائن، ومبدأهم في ذلك قول النبي (صلى الله عليه وآله):

(المؤمن من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم، والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر من هجر السيئات) (2الوافي ج14 ص48 عن الفقيه).

أتاح الفرص لإنماء العلاقات الودية بين المسلمين، كالحث على التزاور، وارتياد المحافل الدينية، وشهود المجتمعات الإسلامية، كصلاة الجماعة ومناسك الحج، ونحو ذلك.

16 ـ العصبية

هي: مناصرة المرء قومه، أو أسرته، أو وطنه، فيما يخالف الشرع، وينافي الحق والعدل.

وهي: من أخطر النزعات وأفتكها في تسيب المسلمين، وتفريق شملهم، وإضعاف طاقاتهم، الروحية والمادية، وقد حاربها الإسلام، وحذر المسلمين من شرورها.

فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:(قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية، بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) (3الوافي ج3 ص149 عن الكافي).

وقال الصادق (عليه السلام): (من تعصب عصبه الله بعصابة من نار) (4الوافي ج3 ص149 عن الكافي).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): (إن الله تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية، وتفاخرها بآبائها، ألا إن الناس من آدم ، وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم ) (1الوافي ج14 ص48 عن الفقيه).

وقال الباقر (عليه السلام): جلس جماعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينتسبون ويفتخرون، وفيهم سلمان. فقال عمر: ما نسبك أنت يا سلمان وما أصلك؟ فقال: أنا سلمان بن عبد الله،كنت ضالا فهداني الله بمحمد، وكنت عائلا فأغناني الله بمحمد، وكنت مملوكا فأعتقني الله بمحمد، فهذا حسبي ونسبي يا عمر.

ثم خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فذكر له سلمان ما قال عمر وما أجابه، فقال رسول الله: (يا معشر قريش إن حَسَب المرء دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، قال الله تعالى:((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم))

ثم أقبل على سلمان فقال له: (إنه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله عز وجل، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه) (2البحار م15 ج2 ص348 أمالي أبي علي الشيخ الطوسي).

وعن الصادق عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: (وقع بين سلمان الفارسي رضي الله عنه، وبين رجل كلام وخصومه، فقال له الرجل: من أنت يا سلمان؟ فقال سلمان: أما أولي وأولك فنطفة قذرة، وأما آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو الكريم،ومن خف ميزانه فهو اللئيم) (3 سفينة البحار ج2 ص348 عن أمالي الصدوق(رحمه الله)).

وأصدق شاهد على واقعية الإسلام، واستنكاره النعرات العصبية المفرقة، وجعله الإيمان والتقى مقياسا للتفاضل، أن أبا لهب ـ وهو من صميم العرب، وعم النبي ـ صرح القرآن بثلبه وعذابه ((تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى نارا ذات لهب)) وذلك بكفره ومحاربته لله ورسوله.

وكان سلمان فارسيا، بعيدا عن الأحساب العربية، وقد منحه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وساما خالدا في الشرف والعزة، فقال: (سلمان منا أهل البيت). وما ذلك إلا لسمو إيمانه، وعظم إخلاصه، وتفانيه في الله ورسوله.

حقيقة العصبية

لا ريب أن العصبية الذميمة التي نهى الإسلام عنها هي: التناصر على الباطل، والتعاون على الظلم، والتفاخر القيم الجاهلية.

أما التعصب للحق، والدفاع عنه، والتناصر على تحقيق المصالح الإسلامية العامة، كالدفاع عن الدين، وحماية الوطن الإسلامي الكبير، وصيانة كرمات المسلمين وانفسهم وأموالهم، فهو التعصب المحمود الباعث على توحيد الأهداف والجهود، وتحقيق العزة والمنعة للمسلمين، وقد قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام): (إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خير من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم) (1الوافي ج3 ص149 عن الكافي).

غوائل العصبية

من استقرأ التاريخ الإسلامي، وتتبع العلل والأسباب، في هبوط المسلمين، علم أن النزعات العصبية، هي المعول الهدام، والسبب الأول في تناكر المسلمين، وتمزيق شملهم، وتفتيت طاقاتهم، مما أدى بهم إلى هذا المصير القاتم.

فقد ذل المسلمون وهانوا، حينما تفشت فيهم النعرات المفرقة، فانفصمت بينهم عرى التحابب، ووهت فيهم أواصر الإخاء، فأصبحوا مثالا للتخلف والتبعثر والهوان، بعد أن كانوا رمزا للتفوق والتماسك والفخار، كأنهم لم يسمعوا كلام الله تعالى حيث قال:

((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمة الله إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها)) (2آل عمران: 103).