الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
قصة أم معبد :
أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، ننتقل إلى حديث أم معبد .
قصة أم معبد وردت في كتب السيرة ، النبي عليه الصلاة والسلام في طريق الهجرة إلى المدينة ، أو في القسم الأخير من الرحلة مر بخيمة أم معبد الخزاعية ، وكانت امرأة جذة ، الحياة في البادية قاسية جداً ، والمرأة في البادية تكون أيضاً قاسية ، تحتبي والاحتباء كما قالوا : حيطان العرب ، أي أن الإنسان في الخيمة ليس هناك جدران يستند إليها يضع يديه أمام ركبتيه ـ هكذا ـ فيتوازن ، لذلك قالوا : الاحتباء حيطان العرب ، ثم تطعم ، وتسقي من يمر بها ، وهذا مِن عادات كرم ، لذلك العرب كان في الجاهلية كرماء جداً ، وكانوا شجعان ، وكانوا شرفاء ، هم في الجاهلية .
***
فائدة دعوية : الاهتمام بمن فيهم خيرٌ :
هناك قصص رائعة جداً ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه إنسان كان مشركا ًوأسلم يقول له :
(( أسلمت على ما أسلفت من خير )) .
[متفق عليه عن حكيم بن حزام ] .
وكان يقول عليه الصلاة والسلام :
(( خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا )) .
[ رواه البخاري عن أبي هريرة ] .
ماذا يفيدنا هذا الكلام ؟ أنت أيها الأخ المسلم إن رأيت صديقاً لك أو زميلاً أو قريباً لا يصلي ، وليس ملتزماً إطلاقاً ، لكنه لا يكذب ، لكنه يحب خدمة الناس ، لكنه لا يخون ، لا يأخذ ما ليس له ، تعجبك صفاته ولا تعجبك عبادته ، لا يصلي ، أنا أنصحك : هذا الإنسان اهتم به ، لأن أخلاقه الفاضلة هذه سوف تقوده إلى الإيمان ، لذلك قال النبي الكريم :
وقال :
والذين أسلموا مع رسول الله ، وكانوا أبطلاً كانوا في الجاهلية أخلاقيين ، إذاً اِطمع واعتني بكل من حولك ممن كان أخلاقياً ، وقد ورد في القرآن الكريم آية دقيقة ، بعضهم يفهمها بشكل دقيق ، قال تعالى :
( سورة الأعراف ) .
الصالح الذي لا يكذب ، والذي يرحم الناس ، والذي لا يخون ، والذي يحب أن يقدم خدمات للناس هذا إنسان صالح ، لو لم يعجبك دينه فهذا سينتهي به صلاحه إلى الإيمان ، لذلك اعتنِ به .
كرم أم معبد ومعجزة النبي في حلب الشاة العجفاء :
فأم معبد وزوجها أبو معبد كانوا كرماء ، وكانوا يطعمون كل من يمر بهم يسألها النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر ، هل عندك شيء نشتريه منك ؟ مسافة طويلة ، الآن تركب سيارة مكيفة ، والسرعة 180 كيلومترا ، تحتاج إلى أربع ساعات ونصف ، أما المسافة فيقطعها الراكب على ناقة في 12 يوماً ، فقالت : والله لو عندنا شيء ما بخلنا به عليكم ، والشاء عازب ، أيْ ليس في ضرعها حليب ، وكانت سنة شهباء قاحلة ، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة ، أيْ في طرف الخيمة ، فقال : ما هذه الشاة ؟ قالت : خلّفها الجهد ، فمن شدة هزالها وضعفها لم تستطع أن تذهب مع أخواتها إلى المرعى ، خلّفها الجهد عن الغنم ، فقال : هل بها من لبن ؟ قالت : هي أجهد من ذلك ، قال : أتأذنين لي أن أحلبها ؟ ما هذا الأدب ؟! أيام يدخل إنسان يجلس على الطاولة مكان صاحب البيت يستخدم الهاتف مكالمة خارجية ، ولا يستأذنه ، قال لها : أتأذنين لي أن أحلبها ؟ قالت : نعم بأبي أنت وأمي ، إن رأيت بها حليب فاحلبها ، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها ، وسمّى الله ، ودعا الله فتفاجت عليه ودرّت ، فدعا بإناء لها فحلب فيه حتى عَلَته رغوة ، فسقاها فشربت حتى روَت ، وسقا أصحابه حتى رووا ، ثم شرب هو .
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم :
متى شرب ؟ آخر الناس شرباً ، كان عليه الصلاة والسلام في خدمة أصحابه ، وكان واحداً منهم ، وكان يقدمهم عليه ، ومرة كان مع أصحابه في سفر وأرادوا أن يعالجوا شاة ، فقال أحدهم : عليّ ذبحها ، وقال الثاني : عليّ سلخها فقال الثالث : عليّ طبخها ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعليّ جمع الحطب ، فقالوا له : نكفيك ذلك يا رسول الله ، قال : أعلم أنكم تكفونني ، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أصحابه .
كان إذا دخل عليه أعرابي لا يعرف من هو محمد ، ماذا تستنبطون ؟ يجلس مع أصحابه على الأرض من دون أي تميز ، فهذا السؤال له روايتان ، الرواية الأولى :
قال الأعرابي : أيكم محمد ؟ فقال أحد الصحابة القريبين منه : ذاك الوضيء الذي به وضاءة في وجهه .
الرواية الثانية : قال النبي الكريم : قد أصبت ، أنا .
إذاً كان متواضعاً ، كان مع أصحابه قال : أعلم أنكم تكفونني ، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه .
مرة وهو قائد الجيش ، وزعيم الأمة ، ونبي الأمة ، وآخر الرسل ، وبعد الإسراء والمعراج سيد ولد آدم ، سيد الخلق ، وحبيب الحق ، في بدر الرواحل قليلة والصحابة أكثر من ثلاثمئة ، فقال :
(( كل ثلاثة على راحلة ، وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة ـ سوى نفسه كجندي في هذه المعركة ـ فركب الناقة ، وانتهت نوبة النبي في ركب الناقة ، أراد أن ينزل فتوسلا صاحباه أن يبقى راكباً ، فقال كلمة والله لو رددتها ألف مرة لا أرتوي منها ، قال : ما أنتما بأقوى مني على السير )) .
( أحمد )
كان يتمتع بلياقة عالية جداً .
(( المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيف )) .
[ رواه مسلم عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه ] .
(( ما أنتما بأقوى مني على السير ، ولا بأغنى منكما على الأجر )) .
أنا أريد أجر المشي .
أحيانا يطلق الله لسانَ الإنسان فيترفّع عن أي عمل صالح يراه تافهاً ، هو للدعوة فقط ، لإلقاء الكلمات ، ليجلس في الصف الأول دائماً ، ليُحترم ، ليقوم الناس له ، أما أن يطعم قطة مثلاً ، أو أن يسعف كلباً مقطوعاً ، أو أن يقوم بخدمة مسجد فهذه هو فوق ذلك ، سيد الأمة ، وحبيب الحق ، قال : ولا أنا بأغنى منكما عن أجر المشي ، أريد أن أمشي كي أكسب الأجر مثلكم ، هذا التواضع .
إنّ أيّ داعية أيها الإخوة لا يقلد النبي عليه الصلاة والسلام في سيرته مع أصحابه لا يفلح ، فإذا كان ثمة إنسان على الأرض يستحق أن نخدمه بلا مقابل كان هو رسول الله ، ومع ذلك خدمه سيدنا ربيعة ، وفي اليوم السابع قال : يا ربيعة : سلني حاجتك ، قال : أمهلني يا رسول الله ، فأمهله ، فلما سأله ثانية قال : ادعُ الله لي أن أكون معك في الجنة ، قال له : من علّمك هذا ؟ النبي يقصد حاجة مادية ، لأنه خدمه ، شعر النبي عليه الصلاة والسلام أن خدمة ربيعة له دَين عليه ، هناك من يقول : لي عليكم فضل ، تعالوا قدموا لي خدماتكم ، هذا بعيد عن أصول الدعوة بُعْد الأرض عن السماء ، يجب أن تكون في خدمة إخوانك ، يجب أن تكون آخرهم شرباً ، سقى أم معبد ، وسقى أهل البيت ، وسقى أصحابه ، ثم شرب آخر واحد منهم .
إخواننا الكرام ، معركة الخندق كانت من أقسى المعارك ، أصحابه جاعوا جوعاً شديداً ، وبردوا برداً شديداً ، والخطر كبير جداً ، والإسلام قضية ساعات ، وينتهي حتى أن بعض الذي كان مع رسول الله قال : أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟ كأنه انسلخ من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم .
( سورة الأحزاب ) .
الجوع شديد جداً ، والبرد شديد ، والخوف شديد ، والخطر شديد ، وجاءت قريش ومن لف لفها ليستأصلوا الإسلام كلياً ، الإسلام بقي له ساعات ، صحابي جليل يحب النبي حباً جما انسلّ إلى بيته عنده شاة صغيرة ، وأمر أهله أن تذبحها ، وأن تطبخها ليأكل النبي صلى الله عليه وسلم .
أنا تساءلت : هل يعقل أن يأكل النبي وحده أو مع صاحبيه ؟ مستحيل ، وألف ألف ألف مستحيل ، فهو جاء بها سراً ، وقال : يا رسول الله ، كل هذه أنت وصاحبك ، فنادى لكل أصحابه ، وكان في معركة ، هذه من معجزاته الحسية ، ما بقي واحد إلا وأكل ، سبحان الله !!! المغزى أنه لا يمكن لنبي أن يتميز على من معه ، أبداً ، هو واحد منهم ، لذلك قال بعضهم :
يا من جئت الحياة وأعطيت ولم تأخذ ، يا من ملكت القلوب ، يا من قدست الوجود كله ، ورعيت قضية الإنسان ، يا من زكيت سيادة العقل ، ونهنهت غريزة القطيع يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً فوق الجميع ، يا من كانت الرحمة مهجتك ، والعدل شريعتك ، والحب فطرتك ، والسمو حرفتك ، ومشكلات الناس عبادتك .
وجوب محبة النبي عليه الصلاة والسلام :
إن الذين افتدوه بأرواحهم لهم الرابحون ، هؤلاء عرفوا قدره ، فإذا عرفت قدر رسول الله فلا بد من أن تهيم به حباً .
واللهِ إنّ هذا الذي رسم النبي عليه الصلاة والسلام بصور لا تليق بمؤمن حينما يكشف له الغطاء يوم القيامة أنا أتصور أنه يقول لله عز وجل : يا رب لإرسالك بي إلى النار أهون علي مما ألقى ، لا يحتمل ، أعلمت من رسمت ؟ رسمت سيد الخلق وحبيب الحق ، رسمت الذي أقسم الله بعمره الثمين ، رسمت الذي عفا عن خصومه .
(( ما تظنون أني فاعل بكم قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء )) .
[ رواه ابن أبي شيبة عن صفية بنت شيبة ]
إخواننا الكرام ، محبة رسول الله جزء من الدين ، قال : والله يا رسول الله ـ سيدنا عمر ـ إني أحبك أكثر من أهلي ، وأولادي ، ومالي ، إلا نفسي التي بين جنبي ، فقال النبي الكريم : لما يكمل إيمانك يا عمر ، إلى أن جاءه ثانية وقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي ، وأهلي ، وأولادي ، ومالي ، قال : الآن يا عمر .
( سورة النساء ) .
أحد أركان الإيمان أن تحب النبي العدنان ، محبتك له دليل إيمانك ، لأن الرحيم يحب الرحيم ، والكريم يحب الكريم .
رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بأصحابه :
مرة أحد الصحابة ، اقبلوا مني هذه القصة ، مع أنها غريبة جداً ، كتب إلى قريش اسمه حاطب بن بلتعة : إن محمداً سيغزوكم ، سرب معلومات ، قبل الغزو ، فاخذوا حذركم ، فجاء النبي الوحي ، وأخبره بما فعل حاطب ، فطلب النبي الكتاب الذي أرسله حاطب مع امرأة خرجت من المدينة إلى مكة ، تبعها صحابيان ، وصلا إليها ، أين الكتاب ؟ فأنكرت ، فقال أحدهما : لنأخذنّ الكتاب أو لننزعن الحجاب ، خافت فأعطتهم الكتاب ، فتح الكتاب ، حاطب بن بلتعة يقول : إن محمداً سيعزوكم فخذوا حذركم ، جاؤوا بالكتاب إلى النبي الكريم ، واستدعى حاطبًا ، هذه بالتعبير الحديث خيانة عظمى ، بكل الدول والشعوب والتاريخ والحاضر والماضي والمستقبل عقابها الإعدام ، فإذا شاء الله في القريب العاجل أنْ هيأنا خطة لفتح القدس فرضاً ، وسرّب واحد الخبر أن ثمة خطة ، ماذا يفعل به ؟ إعدام ، قال له : ما هذا يا حاطب ؟ فبكى ، قال له : والله ما كفرت ، ولا ارتدت ، ولكنني لصيق بقريش ، وأنا واثق أنا الله سينصرك ، أردت بهذا الكتاب أن يكون لي عند قريش أحمي بها أهلي وأولادي ومالي ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن صدقته فصدقوه ، ولا تقولوا فيه إلا خيراً .
هذه أخلاق أنبياء .
جاءه عكرمة ، من أبوه ؟ فرعون قريش ، عكرمة بن أبي جهل أبو جهل أكفر كفار قريش ، وألد أعداء النبي ، ولم يدع أسلوباً في التنكيل لرسول الله إلا فعله ومات عكرمة ، قتل ، جاء ابنه مسلماً ، فقال عليه الصلاة والسلام : جاءكم عكرمة مسلماً فإياكم أن تسبوا أبا ، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت .
إذا كان أخ من إخوانك أبوه كان بعيدًا عن الدين بُعدًا كثيرًا فلا تحرجه ، لا تحمر وجهه ، ولا تقل : أبوك ما كان مؤمنًا ؟ ما كان يصلي ؟ كن لطيفاً ، عتّم على الموضوع .
فلذلك من رأى النبي عليه الصلاة والسلام بديهة هابه ، ومن عامله أحبه .
صحبة الصالحين أحد الوسائل القرب من الله :
بعض الصحابة خدم النبي عليه الصلاة والسلام حينما تنتهي مدة خدمته يقول له النبي : انصرف بعد العشاء ، من شدة تعلقه برسول الله يبقى نائماً على طرف الباب ، هذه الكمال ، لو التقيتم بإنسان موصول بالله تجدون فيه الأنس ، والروحانية ، والمحبة ، والكلام الجيد ، والتعليقات اللطيفة ، تشعر بأنس لله عز وجل ، لذلك قالوا : صحبة الصالحين أحد الوسائل القرب من الله .
( سورة المائدة الآية : 35 ) .
صحبة الصالحين وسيلة من وسائل القرب من الله عز وجل ، يؤكد هذا أن سيدنا حنظلة كان في أحد طرق المدينة يبكي ، رآه النبي عليه الصلاة والسلام ، قال له : ما لك يا حنظلة تبكي ؟ قال : نافق حنظلة ، قال له : ولمَ ؟ قال نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين ، فإذا عافسنا الأهل ننسى .
حال المؤمن بالجامع حال متألق ، يحس بإقبال ، وبأنس ، وبمحبة لله ، يعقد نيات طيبة جداً ، فسيدنا الصديق من كماله قال له : أنا كذلك يا أخي .
أحيانا يشكو لك إنسان ابنه ، فتقول له : لا ، أنا ابني الحمد لله راقٍ جداً ، وفهيم ، خفف عنه قليلاً ، قل له : والله هذه مشكلة عامة .
قال له : أنا كذلك يا أخي ، انطلق بنا إلى رسول الله ، فلما عرضا على النبي هذه المشكلة قال عليه الصلاة والسلام : أما نحن معاشر الأنبياء فتنام أعيننا ، ولا تنام قلوبنا ، أما أنتم يا أخي فساعة وساعة ، لو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحكتم الملائكة ولزارتكم في بيوتكم .
( الترمذي عن حنظلة )
فأنت حينما تأتي إلى المسجد لتستمع إلى درس علم ، إنك تُشحن كما يُشحن الهاتف الخلوي .
والحمد لله رب العالمين