مقاطعة المشركين لرسول الله

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : محمد راتب النابلسى | المصدر : www.quran-radio.com

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، واليوم ننتقل إلى المقاطعة ، ودخول المسلمين في شِعب أبي طالب ، وقبل أن أبدأ عن تفاصيل هذه المقاطعة يجب أن تعلموا علم اليقين أن الإنسان هو الإنسان في أي مكان وزمان ، وأن المؤمن هو المؤمن ، وأن الكافر هو الكافر ، وأن أعداء الحق هم أعداء الحق ، وأن التاريخ يعيد نفسه ، ألا تُستخدم المقاطعة اليوم كإجراء كيدي من المسلمين ؟ .

المقاطعة أسلوب من أساليب معركة الحق والباطل التي هي أزلية أبدية ، والإنسان أيها الإخوة حينما يتوقع المتوقع لا يفاجئ ، أنا أتمنى على كل أخ مؤمن أن علم اليقين أن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية ، هكذا شاءها الله عز وجل ، ليرقى المسلم إلى أعلى عليين ، قال تعالى :

 

( سورة محمد الآية : 4 ) .

أضرب لكم بعض الأمثلة :

لو أن إنساناً عنده مطعماً يبيع الخمر ، وتاب إلى الله توبة نصوحًا ، الذي يحصل أن الدخل لهذا المطعم يقلّ إلى العشر ، أليس الله قادراً أن يجعل الدخل يتضاعف بعد        التوبة ؟ شيء بديهي ، ولكن حكمة الله جل جلاله تقتضي أن يدفع هذا التائب ثمن قراره البطولي ، ليكون هذا الثمن وسام شرف له يرقى به في أعلى عليين ، كان من الممكن عقب توبته أن يتضاعف دخله ، ولكن الذي يحصل أن الدخل يهبط إلى العشر ، أولاً : هو امتحان   ، أنت تريد إرضاء الله أم تريد تضخيم دخلك ؟ ثانياً : ليكون هذا الثمن ثمن توبته ، وليكون هذا الثمن ثمن قراره البطولي ، هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى :

( سورة التوبة الآية : 28 ) .

إذاً منع المشركون من دخول بيت الله الحرام ، وهذا المنع بالمنظور الاقتصادي هو حصار ، هذا المنع يقلل العوائد ، والآن السياحة في معظم بلاد العالم تعبد من دون الله من أجل السياحة نضحي بأخلاقنا ، وبأعراضنا ، وبقيمنا ، وبمبادئنا ، فالله عز وجل يقــول : ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ﴾ ما النتائج ؟ .

( سورة التوبة الآية : 28 ) .

أي فقراً .

( سورة التوبة الآية : 28 ) .

وكأن هذه الآية تبين أن دفع الثمن لا بد منه ، ولكن بعد ذلك حينما يعلم الله من هذا التائب الصدق والإصرار ، وحينما يضحي هذا التائب بدخله الكبير إرضاءاً لربه العظيم ، عندئذٍ يفتح الله عليه ، ويعوض له هذه الخسارة ، ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ ﴾ ، بعد حين ، ﴿ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ .

إذاً الإنسان إذا وقف موقفاً بطولياً ، وقف موقفاً يرضي الله ربما يكلفه هذا الموقف ثمناً باهظاً ، هذا الثمن هو ثمن قراره البطولي ، فأنت حينما توطن نفسك على أن البطولة في دفع الثمن باهظاًَ ، عندئذٍ لك الجنة التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فالإنسان هو الإنسان ، والمؤمن هو المؤمن ، والكافر هو الكافر ، والمنافق هو المنافق ، وملة الكفر واحدة .

لماذا كانت المقاطعة ؟ ذلك لأن قريشاً حينما أرسلت وفداً إلى النجاشي ، وكانت الهجرة إلى الحبشة موضوع الدرس السابق ، حينما أرسلت وفداً إلى النجاشي ، يطلب من النجاشي أن يعيد هؤلاء المهاجرين إلى قريش لينكلوا بهم ، منعهم النجاشي ، وحماهم ، وأمّنهم في بلده ، فأخفقوا ، وحينما أسلم سيدنا الحمزة خفت حدة الإيذاء للمسلمين ، وحينما أسلم سيدنا عمر بن الخطاب استطاع المسلمون أن يصلُّوا في بيت الله الحرام ، فالمسلمون في مكة آمنون بسبب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأن حمزة رضي الله عنه أسلما ، وكانا من كبراء قريش ، والمؤمنون في الحبشة بقوا آمنين مطمئنون ، يمنعهم النجاشي من أن يعتدي أحد عليهم ، لذلك فكرت قريش بموضوع المقاطعة .

وقد ذكر البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد مكان خيف بني كنانة موضعاً تقاسمت فيه قريش ؛ أي أقسمت على أن تناهض هذا الدين ، وعلى أن تبقى على كفرها وشركها ، وتحالفت على مقاطعة بني هاشم ، بنو هاشم تعاطفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، هم أهله ، فلما تعاطفت بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وسلم اتخذت قريش قراراً بمقاطعتهم جميعاً ، إلا أنه لم تثبت رواية في تفاصيل حادثة مقاطعة قريش للمسلمين  ، وفي تفاصيل دخول المسلمين شعب أبي طالب ، على الرغم من أن أصل الحادث ثابت   ، حدث المقاطعة ثابت ، لكن التفاصيل التي وردت في كتب السيرة أسانيدها ضعيفة لم تثبت بعد ، كما أن ذلك لا يعني عدم وقوع تفاصيل الحادث تاريخياً ، الحادث حادث المقاطعة ثابت تاريخياً ، والموضع التي تمت فيه قرارات المقاطعة ثابت أورده البخاري في صحيحه ، لكن التفاصيل موجودة ، إلا أن الأحاديث التي أوردتها لا ترقى إلى مستوى الصحة .

ولقد وردت الأخبار عن المقاطعة ، ودخول المسلمين الشِعب في مراسيل عروة بن الزبير ، وتلاميذه الزهري ، وأبي الأسود ، أما عن تاريخ بداية الحصار فإنه وقع بعد إخفاق قريش في استعادة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة ، فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كثروا ، وعزوا بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، وأن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً ، وأن النجاشي منع المسلمين وأمنهم ، وأن الإسلام بدأ ينتشر في القبائل هاجها الأمر ، واشتد بلائها على المسلمين في مكة ، وعزمت قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد ذكرت لكم من قبل أن عمير بن وهب قال لصفوان : لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها ، ولولا أولاد صغار أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت ، وقتلت محمداً ، وأرحتكم منه ، فقال له صفوان : أما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر ، وأما ديونك فهي علي بلغت ما بلغت ، فامضِ بما أردت ، فلذلك عمر بن وهب سقى سيفه سماً ، وامتطى راحلته ، وتوجه إلى المدينة المنورة ليقتل محمداً صلى الله عليه وسلم ، وصل إلى المدينة رآه عمر ، فقال : هذا عدو الله عمير جاء المدينة يريد شراً ، وقيده بحمالة سيفه ، وساقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، دخل على النبي ، وهو يقوده مقيداً ، قال له عليه الصلاة والسلام : أطلقه يا عمر ، قال عمر : هذا عدو الله جاء يريد شراً ، قال : يا عمر أطلقه ، فأطلقه ، قال : ابتعد عنه ، فابتعد عنه ، قال : ادنُ مني يا عمير ، فدنا منه ، قال : اجلس ، فجلس ، قال : سلم علينا ، فقال عمير : عمت صباحاً يا محمد ، قال له : قل : السلام عليكم ، قال : لست بعيد عهد بسلام الجاهلية ، هذا سلامنا ، قال له النبي الكريم : يا عمير ، ما الذي جاء بك إلينا ؟ بقلب كبير ، قال : جئت أفك ابني من الأسر ، قال : وهذا السيف الذي على عاتقك ؟ قال : قاتلها الله من سيوف ، وهل نفعتنا يوم بدر ؟ قال : يا عمير ، ألم تقل لصفوان : لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها ، ولولا أولاد أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه ؟ وقف عمير ، وقال : أشهد أنك رسول الله ، لأن الذي قلته لصفوان كان بيني وبينه ، ولا يعلمه أحد إلا الله ، وأنت رسول الله ، وأسلم .

أما صفوان بن أمية فكان يتوقع خبراً ساراً للمشركين ، كان ينتظر على أبواب مكة يسأل الركبان عن خبر سار ، وهو قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبر أن عمير بن وهب قد أسلم .

أيها الإخوة ، النبي عليه الصلاة والسلام كان خبيراً بقلب العدو إلى صديق ، بينما هناك أناس ببساطة بالغة يحولون أصدقائهم إلى أعداء ، قلبه كبير ، نفسه مشرقة ، يأنس الإنسان به بل يأنس عدوه به .

أيها الإخوة ، الشيء الذي قد نفاجأ به أن قريشاً هاجها الأمر ، واشتد بلائها على المسلمين ، وعزمت على قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا قرارها ، فأجمع بنو عبد المطلب أمرهم على أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ، وأن يحموه ، فدخلوا الشعب جميعاً مسلمهم وكافرهم ، ولم يشذ عن ذلك إلا أبو لهب بن عبد المطلب ، فقد انحاز إلى كفار قريش وظاهرهم .

في هذه المناسبة ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لقد أوذيت في الله ، وما يؤذى أحد ، وأخفت في الله ، وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة ، وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال )) .

[ رواه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن أنس ] .

وقد يسأل أحدكم : ما ذنب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو المعصوم أن يذوق الخوف والأذى ، والجوع ؟ الجواب : النبي قدوة لنا ، قدوة لنا في السراء ، وقدوة لنا في الضراء   .

مثلاً : النبي صلى الله عليه وسلم  ذاق الفقر ، كان إذا دخل البيت يسأل : (( أعندكم        طعام ؟ يقال له : لا ، يقول : فإني صائم )) .

[مسلم عن عائشة]

النبي صلى الله عليه وسلم ذاق الغنى ، عقب بعض الغزوات سأله أمير من أمراء العرب : لمن هذا الوادي من الغنم ؟ قال : هو لك ، قال : أتهزأ بي ؟ قال : لا والله ، هو لك ، قال : أشهد أنك رسول الله ، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، ذاق الفقر ، فكان قدوة في الصبر ، وذاق الغنى ، فكان قدوة في العطاء ، وذاق النبي النصر في فتح مكة ، دخل مكة ، وقد كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره ، فكان متواضعاً ، وذاق القهر في الطائف ، فقال : (( يا رب ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى )) .

[السيرة النبوية لابن هشام]

ذاق الفقر فكان قدوة ، وذاق الغنى فكان قدوة ، وذاق النصر فكان قدوة ، وذاق القهر فكان قدوة ، وذاق موت الولد دمعت عيناه : (( إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا ، وَإنَّا بِفِرَاقِكَ يا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ )) .

[ رواه البخاري عن أنس رضي الله عنهما ] .

وذاق تطليق ابنتيه ، وذاق أن يقول الناس عن زوجته الطاهرة : زانية ، حديث الإفك فصبر ، وذاق الهجرة ، اقتلع من جذوره ، وبعض أصحابه وصف له مكة في أيام الربيع ، فدمعت عينه ، وقال : لا تشوقنا يا أُصيل ، ذاق الهجرة ، وذاق موت الولد ، وذاق تطليق البنات ، وذاق الفقر ، وذاق الغنى ، وذاق النصر ، وذاق القهر فكان قدوة ، لذلك يقول الله عز وجل :

( سورة الأحزاب ) .

فأجمعت قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأراد بنو عبد المطلب أن يحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأدخلوه شعبهم ، وحموه بذلك ، فدخلوا الشعب جميعاً مسلمهم وكافرهم ، ولم يشذ عن ذلك إلا أبو لهب ، فقد انحاز إلى كفار قريش وظاهرهم ،وأجمع مشركو قريش أمرهم ، وائتمروا بينهم على ألا يجالسوا بني هاشم وبني عبد المطلب ، وألا يخالطوهم ، وألا يبيعوهم ، وألا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا ، حينما حوصرت بعض البلاد الإسلامية أقول لكم نتائج المحاصرة :

راتب أعلى رتبة في الجيش وصل لمستوى علبة من علب البيض ، حينما تكون المحاصرة يكون بلاء كبير ، اسألوا الله العافية ، لذلك قال النبي الكريم : (( لقد أوذيت في الله ، وما يؤذى أحد ، وأخفت في الله ، وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال )) .

[ رواه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن أنس ] .

الآن قريش قاطعت بني هاشم ، وبني عبد المطلب ، لا يبيعونهم ، ولا يشترون منهم ، ولا يجالسونهم ، ليضغطوا عليهم كي يضغطوا على محمد صلى الله عليه وسلم ، فيعود عن هذه الدعوة ، بل كان شرطهم قاسياً جداً ، هذه المقاطعة لا تنتهي حتى يسلموا محمداً ليقتلوه ، هذا الثمن ، تبقى المقاطعة مستمرة إلى أن يسلم بنو هاشم وبنو عبد المطلب محمداً إلى قريش ليقتلوه ، وكتبوا بهذه المقاطعة صحيفة علقوها في جوف الكعبة المشرفة ، في هلال المحرم عام سبع من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، في السنة السابعة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم تمت هذه المقاطعة .

أيها الإخوة ، جزم بعض كتاب السيرة أن المقاطعة استمرت ثلاث سنين ، صمد خلالها المسلمون ، ومن شايعهم من بني هاشم ، وبني عبد المطلب ، واشتد عليهم البلاء والجهد والجوع ، ولم يكن يأتيهم من الأقوات إلا خُفية ، يعني تهريباً ، وكان ممن يصلهم حكيم بن خزام ، وهشان بن عمر العامري ، وزهير ابن أبي أمية ، والمطعم بن عدي ، وزمعة بن الأسود ، وأبو البحتري بن هشام ، وكانت تربطهم ببني هاشم وبني عبد المطلب صِلات كثيرة ، ما الذي حدث بعد هذه المقاطعة ؟ اشتد البلاء .

بالمناسبة أيها الإخوة ، كل محنة وراءها منحة من الله ، وكل شِدةٍ وراءها شَدةٌ إلى الله ، ومن سياسة ربنا جل جلاله أنه إذا امتحن المؤمن ، ونجح في الامتحان فله بعد الامتحان مكافئة كبيرة ، حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف ، وحينما بالغ أهل الطائف في إيقاع الأذى به ، بل ضربوه ، وسخروا منه ، وكذبوه ، ورفع يديه إلى السماء وقال : (( يا رب ، إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا رب المستضعفين ، إلى من تكلني ؟ إلى صديق تجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبة حتى ترضى ، لكن عافيتك أوسع لي )) .

[ رواه الطبراني عن عبد الله بن جعفر ] .

ما الذي حدث بعد الطائف ؟ الذي حدث كان الإسراء والمعراج ، وقد بلغ النبي سدرة المنتهى ، وقد أعلمه الله عز وجل أنه سيد ولد آدم ، وأنه سيد الأنبياء والمرسلين   ، دققوا في هذا الكلام ، المؤمن الصادق المستقيم ، إذا ابتلاه الله بابتلاء وصبر ، بعد هذا الابتلاء منحة كبيرة ، وإذا شدد الله عليه فصبر بعد هذه الشِدة شَدةٌ إلى الله عز وجل .

((عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنّ أَمْرَهُ كُلّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاّ لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرّاءُ شَكَر َ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرّاءُ صَبَرَ ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِ المُؤْمِنِ)) .

[ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أبي يحيى صهيب بن سنان ] .

بل إن هذه الشدائد التي تصيب المؤمن وردت في القرآن الكريم على أنها نعم باطنة ، قال تعالى :

( سورة لقمان الآية : 20 ) .

هي نعم باطنة ، فلما كان رأس ثلاث سنين ، بعد سنوات ثلاث من هذه المقاطعة تلاوم رجال من قريش ، يعني لام بعضهم بعضاً على ما حدث ، واجمعوا على نقل الصحيفة ، وقد أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبقَ فيها سوى كلمات الشرك والظلم ، وهكذا انتهت المقاطعة ، وكان خروج المسلمين من الشِعبِ السنة العاشرة من البعثة ، استمرت هذه المقاطعة ثلاث سنين .

بالمناسبة أيها الإخوة ، الطاعات ، والابتلاءات تنقضي ، وتبقى ثمرتها ، والدنيا بمباهجها وشهواتها تنقضي أيضاً ، وتبقى تبعاتها ، يعني الشر ينتهي ، ويبقى أجر الصبر   ، والخير ينتهي ، وتبقى تبعة التفلت ، لذلك سأل ملك وزيره : أنبئني بحكمة إن كنت فرحاً أحزن ، وإن كنت حزيناً أفرح ، فقال له : كل حال يزول .

( سورة النحل الآية : 127 ) .

( سورة الإنسان ) .

( سورة الضحى ) .

( سورة هود ) .

  لما خرج قارون على قومه بزينته :

( سورة القصص ) .

إخوتنا الكرام ، شاءت حكمة الله أن يكون الإنسان عجولاً ، لأنه إذا اختار الآخرة اختار شيئاً بعد الموت ، قاوم رغبته ، وقاوم جبلته ، ولهذا يرقى .

أيها الإخوة ، وعلى الرغم من المقاطعة ، وما أصاب المسلمين من جرائها من معاناة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوقف عن الدعوة ، فقد كان يخرج في الموسم يلتقي من يقدم إلى مكة للحج ، ويعرض عليهم الإسلام ، كما كان يعرض ذلك على كل من يتصل به من مشركي قريش ، فلإنسان المؤمن لا يغير ولا يبدل ، هدفه ثابت ، وقيمه ثابتة ، وسلوكه ثابت ، والله سبحانه وتعالى يقول :

( سورة الأحزاب ) .

ولكن بعض الناس في معركة الخندق يقول بعضهم : أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ، لذلك قال الله تعالى :

( سورة الأحزاب ) .

ثم يقول الله عز وجل :

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ .

المقاطعة هي موضوع هذا الدرس ، وملة الكفر واحدة ، والمقاطعة تتكرر من حين لآخر على بلاد المسلمين ، ونسأل الله السلامة ، وأن نصبر ، وأن نحتسب ، وأن نصطلح مع الله عز وجل ، لأنه إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً ، فقد اصطلح مع الله .

والحمد لله رب العالمين