إسلام سيدنا عمر بن الخطاب

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : محمد راتب النابلسى | المصدر : www.quran-radio.com

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أيها الإخوة ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، ووصلنا في فقرات السيرة النبوية إلى إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه .

بادئ ذي بدء كان عليه الصلاة والسلام يقول : (( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)).

[الترمذي]

ويقصد عمر بن الخطاب ، وعمرو بن هشام ( أبو جهل ) ، ولا بد من وقفة متأنية في شرح هذا الحديث :

النبي عليه الصلاة والسلام طلب النخبة تقدم ، بينما غير النخبة لا تقدم ، بل تأخذ  النخبة تحمل معك ، وغير النخبة ينبغي أن تحملهم ، النخبة كالأعمدة للحق ، بينما غير النخبة غثاء كغثاء السيل ، والذي يؤلم الآن أشد الألم المسلم مع الاحترام البالغ لأية حرفة ، لكن لماذا المسلم في أدنى درجة ؟ ولماذا غير المسلم في أعلى درجة ؟ الاختصاصي باختصاص نادر غير مسلم ، المهندس البارع غير مسلم ، الطبيب الأول غير مسلم ، مع أن الله سبحانه وتعالى وزع القدرات بين كل الشعوب والأمم توزيعاً عادلاً .

أيها الإخوة ، حينما قال عليه الصلاة والسلام : (( تناكحوا ، تكاثروا ، تناسلوا ، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة )) .

[ رواه عبد الرزاق والبيهقي عن سعيد بن أبي هلال ] .

والله الذي لا إله إلا هو لا أصدق ثانية واحدة أن يكون التباهي بالعدد ، والدليل الأمة الإسلامية اليوم يزيد تعدادها على مليار و300 مليون مسلم ، ثلث سكان الأرض  ، ويتربعون على ربع إحطايطي نفط في العالم ، ويحتلمون أكبر موقع استراتيجي في العالم ، وعندهم ثروات لا يعلمها إلا الله ، وإلههم واحد ، ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد ، ولا وزن لهم في الأرض ، وليس أمرهم بيدهم ، وليست كلمتهم هي العليا ، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل .

لذلك أيها الإخوة ، ما لم نتفوق ، واسمعوا مني هذه الكلمة : ما لم تكن متفوقاً في دنياك فلن يحترم دينك ، أريد مسلماً صناعياً كبيراً ، وأستاذاً جامعياً كبيراً ، وعالما ًجهبذاً ، وخبيراً نادراً ، لذلك عليه الصلاة والسلام طلب النخبة قال : (( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين )) .

لا تقنع أن تكون رقماً لا معنى له ، لا تقنع بأن تكون إنساناً لا يقدم ولا يؤخر ، علو الهمة من الإيمان .

ملك الملوك إذا وهب         قم فاسألن عن السبب

الله يعطي من يشاء           فقف على حـد الأدب

أيها الإخوة ، المسلمون اليوم في محنة كبيرة ، وما لم يتفقهوا في العلوم ، وفي الصناعات ، وفي استخراج الثروات ، وفي استصلاح الأراضي ، وفي إنشاء السدود ، وويل لأمة تأكل ما لا تزرع ، وويل لأمة تلبس ما لا تنسج ، وويل لأمة تستخدم آلة لا تصنعها ، النبي عليه الصلاة والسلام طلب النخبة .

مرةً أحد أكبر الملحدين في أمريكا كان طالباً في التعليم الثانوي ، وانتقد أستاذ الديانة عندهم ، فطرده والده من البيت ، فاعتنق الإلحاد ، وتابع دراسته ، حتى صار أكبر عالم رياضيات في أمريكا ، كان أستاذاً في جامعة سان فرانسيسكو ، وكان متفوقاً إلى درجة أن أستاذه كان يقول له : اخرج من القاعة ، وخذ علامة تامة ، لأنه يربك أستاذه ، واعتنق الإلحاد ، أستاذه يستعين به أحياناً في بعض معضلات الرياضيات ، عنده طالبة شرق أوسطية ، مسلمة في أطروحتها مشكلة ، فأرسلها إلى هذا العالم ، يقول هذا العالم : رأيت فتاة شرق أوسطية تحضر دكتوراه في الرياضيات ، وهي محجبة حجاباً تاماً ، في حين أن فتيات أمريكا في الصيف يمشين في الطرقات شبه عرايا ، فماذا في ذهن هذه الفتاة من مبادئ وقيم حتى ارتدت هذا الحجاب ؟ قال : أعجبت بأنها إنسانة تملك مبدأ ، أو تملك قناعة ، ولم أجرؤ أن أنظر إلى وجهها لأنها قديسة ، هكذا يقول ، ورغبة أن أقدم لها كل خدمة ، وعكفت في اليوم نفسه على قراءة القرآن ، إلى أن أسلم ، وهو الآن أكبر داعية في أمريكا ، اسمه جفري لينغ ، ما الذي جعله يسلم ؟ فتاة تحضر دكتوراه في الرياضيات ، ومتحجبة .

الآن القوي لا يحترم إلا القوي ، والعالم لا يحترم إلا العالم ، فإن أردتم لهذا الإسلام عزاً فتفوقوا ، وما لم نتفوق الآن فلا تقوم لنا قائمة ، هذه الحقيقة التي أنا قانع بها  ، طريق أن تعز الإسلام أن تكون قوياً بعلمك ، أو بمالك ، كن صاحب مشروع ، هؤلاء القمم كانوا أشخاصاً عاديين في مقتبل حياتهم ، أنا أطالبكم أن تكون همتكم عالية ، علو الهمة من   الإيمان .

سأريكم الآن ماذا حصل بعد أن أسلم سيدنا حمزة ، وسيدنا عمر ، علم حمزة بن عبد المطلب بعد عودته إلى مكة من الصيد ، وذلك في السنة السادسة من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علم أن أبا جهل قد شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأساء إليه إساءات بذيئة ، فبادر إلى أبي جهل ، وهو في مجلسه بين قومه فضربه بالقوس على رأسه فشجه شجة منكرة ، وقال له : أتشتمه ، وأنا على دينه ؟ وانشرح صدر حمزة للإسلام ، وعرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع ، وأن حمزة سيمنع عنه الأذى ، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه ، كان حمزة قوياً ، فلما انضم إلى الإسلام قوي الإسلام به .

وأنت حينما تكون قوياً ، وتأتي إلى المسجد ، وتجلس ، وقد تكون صناعياً ، أو تاجراً كبيراً ، أو عالماً فذاً ، أو أستاذاً جامعياً ، وتجلس تقوي همة من حضر ، فلان يحضر هذا المجلس ، فلان أتى للمجلس ، فلان صلى الجمعة ، فلان حضر في هذا المسجد ، أنت حينما تكون قوياً تدعم الحق ، وتنصره .

أيها الإخوة ، هناك نقطة دقيقة جداً : أن الإسلام ينبغي أن يستخدم السلاح الفعال ، يوم كان السحر متفوقاً في عهد موسى عليه السلام ، ما نوع معجزة موسى ؟ شيء يفوق إمكانات السحرة .

( سورة الأعراف ) .

ويوم كان الطب متفوقاً في عهد سيدنا عيسى ماذا فعل هذا النبي الكريم ؟

 

( سورة آل عمران الآية : 49 ) .

ويوم كانت العرب في أعلى درجات البلاغة والفصاحة جاء القرآن بأسلوب معجز  ، ونحن الآن حينما نتفوق يحترمنا أعداؤنا ، حينما نأتي بشيء جديد ، حينما نحل مشكلاتنا .

مرةً أحد إخوتنا الكرام متفوق تفوقاً كبيراً في هندسة الري ، وحضر مؤتمرًا في فرنسا ، وعرضت مشكلة حار بها المؤتمرون طوال أيام المؤتمر ، فألقى محاضرة ، وقدم حلاً لهذه المشكلة ، دُهش المؤتمرون ، وسألوه في أية جامعة درست ؟ فقال بأعلى صوته : درست في جامعة دمشق .

أنت حينما تتفوق يحترمك خصمك ، بربكم لو رأيتم إنساناً في الطريق يتبع ديناً من أديان شرق آسيا ـ بوذي مثلاً ـ قذر ، متطامن ، رث الهيئة ، يتسول ، هل تفكر لثانية واحدة أن تقرأ شيئاً عن دينه ؟ وضعه المزدري ، وضعه القميء حجبك عن دينه ، والمسلم حينما يكون جاهلاً لا يفهم ما يجري حوله ، ضعيف الفهم ، ليس دقيقاً في مواعيده ، لا يقدم شيئاً للأمة ، لا أحد يفكر أن يقرأ عن الإسلام شيئاً ، بالمناسبة :

( سورة البقرة الآية : 165 ) .

القوي هو الله ، واسمعوا هذه الكلمات ، الله وحده هو القوي ولا قوي سواه ، وكل قوة في الأرض مستمدة من قوة الله ، استدراجاً لغير المؤمنين ، أو تمكيناً للمؤمنين ، أو تسخيراً لغير البشر ، هذه القوة وزعت بحكمة بالغة عرفها من عرفها ، وجهلها من جهلها ، القوة قوة العلم ، وقوة المال ، وقوة المنصب ، فإذا وصلت إلى أحد هذه القوة خياراتك في العمل الصالح كثيرة جداً ، وحينما تعلم أن سر وجدوك في الدنيا العمل الصالح فالحالة التي  تمكنك من الأعمال الصالحة حالة تتوافق مع دينك ، القوي بماله يفتتح مستشفى ، يفتح ميتم  يؤسس مدرسة ، يبني جامع ، ينشر كتاب ، يرسل بعثات إلى الخارج ، لو أن واحداً من أهل الغنى أرسل فرضاً ألف طالب على نفقته إلى جامعات الغرب ، وجاءوا بأعلى الشهادات ، وكانوا في خدمة المسلمين اختلف الوضع .

فلذلك المال قوة ، والعلم قوة ، والمنصب قوة ، فإذا علمت أن سر وجودك هو العمل الصالح ، ينبغي أن تكون قوياً ، ولكن اسمعوا أيها الإخوة ، إذا كان الطريق إلى القوة سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تكون قوياً ، وإذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تكون غنياً ، وإذا كان الطريق إلى منصب قوي سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تبلغ هذا المنصب ، أما إذا كان طريق القوة في العلم ، أو المال ، أو النصب يقوم على معصية الله فأن تكون فقيراً هو وسام شرف لك ، وأن تكون ضعيفاً وسام شرف لك ، وأن تكون محدود الإمكانات وسام شرف لك ، العبرة أن تكون في طاعة الله .

أيها الإخوة ، أما سيدنا عمر فكان رجلاً قوياً مهيباً ، وكان يؤذي المسلمين ، ويشتد عليهم ، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله أن ينصر دينه به .

لكن هناك ناحية دقيقة ، الإنسان الذي لم يعرف الحق ، وكان قوياً ويحب الخير ، ويحب ألا يؤذي أحداً ، هذا الصالح يتولى الله أمره ، لقوله تعالى :

( سورة الأعراف ) .

تجد إنسانًا في الجاهلية لا يصلي ، ولا ينتمي إلى هذا الدين ، لكن لا يحب أن يظلم ، لا يحب أن يؤذي ، لا يحب أن يعمل شيئاً لا يرضي ضميره ، هذا الإنسان الصالح يتولاه الله بالهداية ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : (( خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا )) .

[ أخرجه البخاري عن أبي هريرة ] .

وحينما أسلم بعض الصحابة قال : (( أسلمت على ما أسلفت من خير )) .

[ رواه أحمد في مسنده ومتفق عليه البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام ] .

هناك توجيه لطيف ، إن رأيت صديقاً لك لا يصلي ، ولا يؤدي العبادات ، لكنه لا يؤذي ، لا يرضى أن يؤذي أجداً ، عنده مروءة ، عنده شهامة ، لا يحب إلا أن يكون بطلاً ، هذا الإنسان فاطمع به ، وقدم له كل خير ، فلعل الله سبحانه وتعالى يجعله يلتزم فيكون قوة للمسلمين .

من أغرب ما سمعت أنه في إحدى السنوات حج رجل قد أسلم من أمريكا ، وألقى محاضرة في مِنى ، وقال بالحرف الواحد : نحن أقوى دولة في الأرض ، فإذا أقنعتمونا بدينكم كانت قوتنا لكم ، نحن مقصرون ، إن أقنعتمونا بدينكم كانت قوتنا لكم .

فكان عمر رجلاً قوياً مُهيباً ، وكان يؤذي المسلمين ، ويشتد عليهم ، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله أن ينصر دينه به ، (( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين )) .

قال سعيد بن زيد بن عمر ، ابن عم عمر ، وزوج أخته :  والله لقد رأيتني ، وأن عمر لموثقي ـ قيّده ـ وأخته على الإسلام قبل أن يسلم ، يعني كان يشتد على ابنه عمه زوج أخته وعلى أخته ، ماذا قال النبي عن أهل الطائف : (( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون )) .

[ رواه عن عبد الله بن عبيد بن عمير ] .

اعتذر عنهم ، واحد دخل إلى بستان أنصاري ، وأكل من دون إذن ، وساقه صاحب البستان إلى رسول الله على أنه سارق ، فقال عليه الصلاة والسلام : هلا علمته إن كان جاهلاً  ، وهلا أطعمته إن كان جائعاً ، قبل أن تنفجر ، وقبل أن تصرخ ، هل أديت واجبك نحو هذا الفقير ؟ علمته إن كان جاهلاً ؟ أطعته إن كان جائعاً ؟ .

ولم تصح رواية في تعيين وقت إسلام عمر ، وتحديد هذا الإسلام بشكل دقيق ، فقد جعل ابن إسحاق كاتب السيرة الشهير إسلامه بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة ، والواقدي جعل إسلامه في نهاية السنة السادسة من البعثة النبوية ، وكان عدد المسلمين أربعين مسلما ، لما أسلم سيدنا عمر كان عدد المسلمين أربعين ، وفي رواية 56 ، منهم 11 امرأة ، هؤلاء :

( سورة الواقعة ) .

الآن أخبرت أم عبد الله وهي من مهاجرة الحبشة أن عمر ـ الآن يجب أن تعلموا سر إسلامه ـ في رقة بقلبه ، كان رحيم ، لما سيدنا عمر تولى الخلافة ، وسيدنا الصديق استخلفه ، جاء من يلوم سيدنا الصديق لأن عمر فيما يزعمون شديد وقوي ، فقال سيدنا الصديق أتلمونني على أنني وليت عمراً ؟ والله إنه أرحم الناس بكم ، فإن بدل وغير فلا علم لي بالغيب ، سيدنا عمر لما تولى الخلافة قال : إن الناس هابوا شدتي ، كنت خادم رسول الله وسيفه المسلول ، وجلواده ، فكان يغمدني إذا شاء ، وتوفي وهو عني راضٍ ، الحمد لله على هذا كثيراً ، وأنا به أسعد ، ثم كنت خادماً لأبي بكر وجلواده ، وسيفه المسلول ، فكان يغمدني إذا شاء ، وتوفي وهو عني راضٍ وأنا بذلك أسعد ، ثم آلت الأمور إلي فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت ، وإنني سأضع رأسي ليدوس عليه أهل العفاف والتقوى ، كان رحيماً ، قال : والله لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه .

إخوانا الكرام ، بالمناسبة إن كان هناك مؤشر للإيمان ، ومؤشر للرحمة اعلم علم اليقين أن المؤشرين يتحركان معاً ، بقدر إيمانك بقدر رحمتك ، والله عز وجل يقول :

( سورة الزمر الآية : 22 ) .

أبعد قلب عن الله القلب القاسي ، وأقرب قلب إلى الله القلب الرحيم ، وهل تصدقون أن بغياً من بني إسرائيل رأت كلباً يأكل الثرى من العطش فرقت له ، وأدلت بخفها مع نطاقها  وملئت خفها ماء فسقت الكلب ، فشكر الله لها وغفر لها ، لأنها رحمت هذا الكلب ، بينما امرأة : (( عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار ؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )) .

[ متفق عليه ] .

سيدنا عمر كان رحيماً ، وأي قلب ليس فيه رحمة بعيد عن الله ، وأي قلب ينبض بالرحمة قريب من الله عز وجل ، الإنسان قبل أن يسلم ، وقبل أن يؤمن ، وقبل أن يلتزم ، إن كان رحيماً هذه بشارة طيبة ، لأن الله سيتولاه .

هذه أم عبد الله وهي مهاجرة إلى الحبشة ، أخبرت أن عمر اطلع على استعدادها للهجرة ، وأنه رق لها ولزوجها ، على الرغم ما كان يلقون منه من البلاء والأذى قبل ذلك ، ولأنها رأت منه رقة لم تكن تراها من قبل ، قالت : ثم انصرف ، وقد أحزنه ما رأى من استعدادنا للخروج ، لذلك مرة ثانية ، إن رأيت قلباً رحيماً اطمع به ، واعتنِ به لعل يكون هداه على يديك ، وإن رأيت ذكياً فاطمع به .

 هناك ملمح أيها الإخوة دقيق جداً ، سيدنا خالد أسلم متأخراً ، فلما أسلم قال عليه الصلاة والسلام : عجبت لك يا خالد ، لماذا ؟ عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً ، لأنه لك فكر وقاد ينبغي أن تكون أسرع الناس إسلاماً ، لذلك ورد في الأثر " أن أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً " .

فهذه أم عبد الله طمعت في إسلامه في حين أن زوجها كان يائساً من إسلامه لما يرى من غلظته وقوته وقسوته على المسلمين .

أيها الإخوة ، هناك ملمح آخر يجب أن يكون واضحًا عندكم ، حينما جاء جبريل عليه السلام ، وسأل سيد الأنام ، قال : يا رسول الله ، أتحب أنم تكون نبياً ملكاً ، أم نبياً عبداً؟ قال فيه كلام آخر يبدو متناقضاً مع الذي قلته قبل قليل ، أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً؟ قال : بل نبياً عبداً أجوع يوما فأذكره ، وأشبع يوماً فأشكره ، كيف نوفق بين قول النبي عليه الصلاة والسلام : (( المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيف )) .

[ رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهما ] .

وبين قول النبي الكريم حينما سُئل أتحب أن تكون نبياً ملكاً ؟ أم نبياً عبداً ؟ التوفيق سهل ، القوي بماله ، أو القوي بعلمه ، أو القوي بمنصبه أقدر على العمل الصالح من الضعيف والجاهل ومحدود الإمكانات ، أقل بكثير ، القوي أقدر والضعيف أقل قدرة ، والغني أقدر ، والفقير أقل قدرة ، والذي يحتل منصب رفيع أقدر ، بجرة قلم يحق حقاً ، ويبطل باطلاً ، بجرة قلم يقر معروفاً ، ويزيل منكراً ، بجرة قلم يقرب ناصحاً ويبعد فاجراً .

لماذا اختار النبي أن يكون نبياً ضعيفاً عبداً يجوع يوماً فيذكره ، ويشبع يوماً فيشكره ؟

الملمح الآخر ملمح ينفعنا جميعاً ، المئة قوي إذا امتحنهم الله بالقوة قد ينجح منهم    10 % ، و100 غني لو امتحنوا بالغنى قد ينجح منهم 10 % لكن الـ 100 ضعيف قد ينجح 90 والـ 100 فقير قد ينجح 90 ، فإذا كان الواحد إيمانه قوي جداً أنا أدعو له أن يكون قوياً بالمعنى المادي ، لأن أعماله الصالحة كبيرة جداً ، والله هناك أعمال صالحة كالجبال ، والله بعض أغنياء المسلمين لهم أعمال كالجبال والله ، ويحملون عبئا كبير جداً ، أما إذا كان الإنسان ضعيفاً فهو أقرب إلى العبودية من القوي .

هناك مغامرة ، إذا كنت قوياً قد لا تنجح ، وإذا كنت غنياً قد لا تنجح ، لذلك أجمل ما يقال في هذا المقام علم ما كان ، وعلم ما يكون ، وعلم ما سيكون ، لكن الرابعة أقوى شيء ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، أنت على دخل محدود ، إنسان من طلاب المساجد ، مستقيم ، بيتك إسلامي ، دخلك حلال ، إنفاقك حلال ، زوجتك محجبة ، لا تقترف المعاصي ، لو كان معك ألف مليون ، أين تكون ؟ لا نعرف ، من يعرف ذلك ؟ الله وحده ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه : (( إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى ، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا ، الفقر فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه )) .

[ورد في الأثر]

وهذا فيما تروي بعض الروايات ، وهناك من يقول حولها كلاماً ، الذي كان حمامة المسجد ، وسأل النبي عليه الصلاة والسلام أن يدعو له بالغنى ، فصار غنياً ، امتنع عن إعطاء الزكاة ، ثم قال : قولوا لصاحبكم ، قال تعالى :

( سورة التوبة الآية : 77 ) .

فاستعذ بالله من الفتنة ، المال فتنة .

( سورة الأنفال الآية : 28 ) .

إذا دخل إنسان إلى صديق يبيع قطعًا من الذهب نفيسة جداً ، قال له : انتقِ لي أنت ، وصديقه يحبه كثيراً ، هذا الصديق لما أوكلته أن ينتقي لك سينتقي لك أجمل الأشياء ، وأنت أيضاً قل لله عز وجل الله : تخير لي ، واختر لي .

أيها الإخوة ، لا زلنا مع سيدنا عمر ، الله عز وجل استجاب لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسلم عمر ، لكن عدة روايات لا ترقى إلى مستوى الصحة تتحدث عن سبب إسلام عمر ، لكن أقواها أن هذا الخليفة الراشد يوم كان في الجاهلية يبدو أنه أصغى إلى  تلاوة القرآن ، وقد سمعها من سيد الأنام ، والقرآن فيه روعة وبيان ، وتصوير لمشاهد يوم القيامة ، ووصف للجنة والنار ، رقى قلبه .

أحياناً تلقي محاضرة ، هذه المحاضرة تضيف إلى قناعتك بهذا الدين خمسة غرامات ، ومحاضرة ثانية خمسة غرامات ، تتنامى قناعتك ، إلى أن تصل إلى درجة الالتزام عندئذٍ تطبق ، في البداية أنت لست قانعاً ، كلما استمعت إلى درس ، كلما فهمت آية ، كلما وصلت إلى معنى حديث صحيح ، كلما قرأت عن مشهد بطولي لأصحاب رسول الله ، كلما اطلعت على آية في الإعجاز العلمي تتنامى قناعاتك ، فإذا تنامت قناعتك ما الذي       يحصل ؟ تدخل في طور آخر وهو التطبيق .

إن صح التمثيل : ميزان ، كفة للقناعات ، وكفة للشهوات ، كفة الشهوات راجحة ، لو أن الشهوات مثلناها بعشرة كيلو هذه المحاضرة خمس غرامات ، الكفة راجحة ، الشهوات راجحة ، هذه المحاضرة خمسون غرامًا ، هذه خمسمئة ، إلى أن تتجمع القناعات إلى مستوى الشهوات ، تدخل بالصراع ، تحتار أفعل أو لا تفعل ؟ عندك قناعات كثيرة ، عندك قوى ضاغطة ، أما إذا جاءت القناعات مئة كيلو ، والشهوات عشرة كيلو دخلت في الأعماق .

(( والله يا عم ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه )) .

[السيرة النبوية]

استجاب الله تعالى لدعوة رسول الله فأسلم عمر ، وأعز الله به الإسلام والمسلمين   ، أول ثمرة من ثمرات إسلام عمر أن المسلمين صلوا بالبيت العتيق ، ولم يكونوا يجرؤون أن يصلوا في هذا البيت ، بعد أن أسلم عمر صلى المسلمون بالبيت العتيق ، وبعد أن أسلم حمزة امتنع الكفار عن إيذاء المسلمين ، (( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين )) .

سيدنا عبد الله بن مسعود قال : " لقد رأيتنا ما نستطيع أن نصلي بالبيت العتيق حتى أسلم عمر ، وما زلنا أعزة منذ أسلم عمر " ، إن إسلامه كان نصراً ، وهو ما عناه حبر الأمة عبد الله بن عباس حينما خاطب عمر رضي الله عنه بعد حادثة طعنه ، فقد قال له : فلما أسلمت يا أمير المؤمنين كان إسلامك عزاً ، وأظهر بك الإسلام وأيده وقواه .

إذاً إسلام حمزة رضي الله عنه منع الإيذاء عن المسلمين ، وإسلام عمر جعل المسلمين يصلون في بيت الله الحرام ، لذلك كن قوياً ، إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله ، وكن غنياً إذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله ، أما إذا كان طريق القوة سالكاً على حساب دينك فمرحباً بالضعف ، وإذا كان طريق الغنى سالكاً على حساب دينك مرحباً بالفقر .

لذلك قالوا : فرق بين المداهنة والمداراة ، المداهنة بذل الدين من أجل الدنيا  ، والمداراة بذل الدنيا من أجل الدين ، والفرق كبير بينهما .

لما أسلم سيدنا عمر تعمد إبلاغ قريش جميعاً عن طريق أكثر الرجال نقلاً للأخبار في قريش ، وهو جميل بن معمر الجمحي ، فما أن علم عمر بإسلامه حتى قام يجر رداءه   ، وعمر خلفه ، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته : " يا معشر قريش ، ألا إن عمر قد صبأ " ، كان مصطلحًا لمن يسلم ، وعمر خلفه ، يقول : كذب والله ، ولكنني أسلمت ، وشهدت أنه لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، فساروا ، حتى لقد سال بهم الوادي من كثرتهم  يريدون قتله ، لولا أن أجاره العاص بن وائل السهمي ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الفاروق ، أي الذي فرق بين الحق والباطل .

سيدنا عمر رضي الله عنه كان رجل مبدأ ، وقد أنشئ متحف في بريطانيا سمي كهف العدالة ، فيه أقوال هذا الخليفة العظيم ، وأحكامه السديدة ، سيدنا عمر هناك من يصفه بأنه عملاق الإسلام ، وكان هذا الخليفة الراشد خليفة قوياً ، لكن قد يتساءل بعضكم : كيف يهاجر جهاراً نهاراً ، ويتحدى المشركين ، بينما النبي عليه الصلاة والسلام يهاجر سراً متخفياً؟ النبي عليه الصلاة والسلام مشرع ، وسيدنا عمر غير مشرع ، لو أن النبي هاجر كهجرة عمر لعد اقتحام الأخطار واجباً ، ولعد أخذ الحيطة حراماً فهلكت أمة النبي من بعده ، ولكن النبي مشرع ، وسيدنا عمر وقف موقف شخصي ، .

إن شاء الله في درس قادم ننتقل إلى موضوع جديد موضوع الحصار الاقتصادي الذي ضربه المشركون حول المسلمين ، والتاريخ يعيد نفسه .

والحمد لله رب العالمين