بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ، ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، ولا بد من كلمة بين يدي الموضوع السيرة النبوية تعد من السنة ، لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي أقواله وأفعاله وإقراره أفعاله ، وهي تشريع ، ونحن حينما نقف وقفة متأنية عند سيرته نكتشف من سيرته قواعد ينبغي أن نتبعها كي نسلم في الدنيا ونسعد ، فلذلك المقصود من فقه السيرة أن نستنبط منها القواعد حتى تكون منهجاً لنا في حركتنا في هذه الحياة .
في الدرس الماضي بينت كيف أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قامت على التوحيد ، وقامت على المساواة بين البشر ، وقامت على بعض التكاليف ، الأمر الذي أثار حفيظة قريش لذلك تحركت ، ماذا فعلت ؟ جاء أشراك إلى أبي طالب فقالوا : إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل أبناءنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخل بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه .
إذاً أي إنسان دعا إلى الله بإخلاص وصدق وشفافية كما يقولون يجب أن يوطن نفسه على أن يلقى معارضة ، وهذه المعارضة ثمن الجنة ، لولا تلك الحرب بين الحق والباطل ، لولا الصراع بين الحق والباطل لما كانت جنة ، ثمن الجنة أن تقبل التحدي ، وأن تستعين بالله عز وجل ، فقالوا : إما أن تخلي بيننا وبينه ، وإما أن نكفيكه ، فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً ، وكان حكيماً ، وردهم رداً جميلاً ، فانصرفوا عنه ، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله .
إخواننا الكرام ، بالمناسبة ، لا يليق بك كإنسان أن تكون لغير الله ، مما بفقد مكانك عند الله أن تكون محسوباً على زيد أو على عبيد ، أو على هذه الجهة ، أو تلك ، أو على هذه الفئة أو تلك أنت لله .
فذهب الوفد لما تابع النبي صلى الله عليه وسلم دعوته ، وأبو طالب ردهم رداً جميلاً ، ولم يحرك ساكناً ، عاد الوفد إلى أبي طالب ، فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا ، وإنا قد استنيهناك عن ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا ، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ، ثم انصرفوا عنه ، الآن أبو طالب تأثر ، هذا اسمه تصعيد ، صعدوا الخصومة ، أدخلوا أبا طالب كطرف في النزاع ، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفساً لتسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه ، فدعى أبو طالب ابن أخيه محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له : يا ابن أخي ، إن قومك قد جاءوني ، وقالوا لي كذا وكذا ، فأبقي علي ، وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( والله يا عم ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته )) .
[السيرة النبوية لابن هشام]
بالتعبير المعاصر النبي عليه الصلاة والسلام يعلمنا كيف نكون رجال مبادئ ، الرجال نوعان ، رجال مصالح ، ورجال مبادئ ، وما أكثر رجال المصالح ، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، أما رجل المبدأ لا يستجيب لا للضغوط ولا للمغريات ، لا يستجيب لسياط الجلادين اللاذعة ، ولا لسبائك الذهب اللامعة ، رجل مبدأ .
إخواننا الكرام ، أتمنى على كل مسلم في هذه الأيام في مجموعة نقاط في حياته اسمها الثوابت ، هذه لا تخضع لا للحوار ولا للمساومة ، ولا لأنصاف الحلول ، المؤمن يقول كلمة لا بملء فمه ، هذا المؤمن ، وكذلك المؤمنة ، امرأة فرعون ، فرعون بطغيانه ، وجبروته ، وادعائه الألوهية لم يستطع أن يقنع زوجته أن تعبده من دون الله ، قالت :
( سورة التحريم ) .
هذا الإنسان الإمعة سريعاً ما ينهار ، سريعاً ما يبدل ، سريعاً ما يغير ، يقبل المساومة ، يقبل أنصاف الحلول ، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، هذا الإنسان لو هناك مئة مليون منه كأف ، والواحد من أصحاب رسول الله كألف .
سيدنا خالد معه ثلاثون ألف مقاتل ، واجه ثلاثة مئة ألف ، فطلب النجدة من أبي بكر ، وهو يعتقد أي يرسل له خمسين ألفًا ، فجاء المدد واحد ، اسمه القعقاع بن عمر ، قال له : يا قعقاع ، أين المدد ؟ قال : أنا المدد ، قال له : أنت ؟! قال له : أنا ، وهذا الكتاب من أبي بكر ، قرأ الكتاب ، قال : والله يا خالد ، والذي نفس محمد بيده ، إن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم .
واحد كألف ، والألف كأف ، حال واحد في ألف أقوى من قول ألف في واحد ، ألف إنسان متكلم لا يستطيعون أن يؤثروا بواحد ، وواحد موصول بالله عز وجل يؤثر بألف .
ثم بكى النبي عليه الصلاة والسلام .
في حياتنا المعاصرة عُرض عليك صفقة أرباحها فلكية ، لكن المادة محرمة ، أو الطريقة محرمة ، أو الأسلوب محرم ، هل تقول : معاذ الله ؟ وتضع هذا الربح الكبير تحت قدمك ، عندئذٍ تنال الدنيا والآخرة ، من أحبنا أحببناه ، ومن طلب منا أعطيناه ، ومن اكتفى بنا عما لنا كنا له ومالنا .
(( ما ترك عبد شيئا لله لا يتركه إلا له إلا عوضه الله منه ما هو خير له منه في دينه ودنياه )) .
[رواه أبو نعيم عن ابن عمر ] .
والله هناك قصص لا تعد ولا تحصى في تاريخ الدعوة ، مؤمن صادق أمامه إغراء كبير ، تحل بهذا المبلغ كل مشكلاته ، لكن فيه شبهة ، يضع هذا الثمن تحت قدمه ، ويقول معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين ، والله تأتيه الدنيا وهي راغمة ، والله زوال الكون أهون على الله من أن لا يحقق هذه المقولة لرسوله ، (( ما ترك عبد شيئا لله لا يتركه إلا له إلا عوضه الله منه ما هو خير له منه في دينه ودنياه )) .
فتاة يأتيها خاطب لا يصلي ، ولا يلتزم بأوامر الدين ، لكنه غني ، وتقول : معاذ الله ، أريد رجلاً مؤمناً يحفظ إيماني ، ويعينني على أمر ديني ، هذه الفتاه بهذا الموقف الصلب لا تستحق من الله أن يأتيها رجل من أعلى مستوى .
فلما ولى النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن بكى ناداه أبو طالب ، فقال : أقبل يا ابن أخي ، فأقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب يا ابن أخي ، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً ـ أخذ قرارًا ـ.
هذه القصة تبين قيمة المواقف المبدئية ، أنت إنسان ، وأنت لله ، وكل شيء بيد الله ، حياتك بيده ، رزقك بيده ، من هم فوقك بيده ، من هم دونك بيده ، أهلك بيده ، أولادك بيده ، صحتك بيده ، الشرايين التاجية في قلبك بيده ، أجهزتك بيده كل شيء بيده ، فلذلك المؤمن يرضي جهة واحدة ولا يعبأ بالباقين .
( سورة يوسف ) .
إذاً أول حركة من حركات قريش أنها أتت أبا طالب كي يضغط على ابن أخيه ليكف عن دعوته ، هذه المحاولة أخفقت .
الآن طبقوا خطة ثانية ، عمدوا إلى المستضعفين في الأرض من المسلمين ، أنزلوا بهم من الأذى والاضطهاد والتعذيب الشيء الكثير ، ولما ازداد الأذى بالمسلمين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة ، يقول عليه الصلاة والسلام : (( اشتقت لأحبابي ، قالوا : أو لسنا أحبابك ؟ قال : لا ، أنتم أصحابي ، أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر ، أجره سبعين ، قالوا : منا أم منهم ؟ قال : بل منكم ، لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون )) .
[ورد في الأثر]
إخوانا الكرام ، نحن في هذا الزمان وصفه النبي وصفاً رائعاً قال : (( كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ، ولم تنهوا عن منكر؟ قالوا : وكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون ، قالوا : وما أشد منه ؟ قال : كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا ؟ قالوا : وكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون ، قالوا : وما أشد منه ؟ قال : كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟ قالوا : وكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم ، والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون ))
[ أخرجه ابن أبي الدنيا رواه أبو يعلى عن أبي هريرة ]
شاعر في عهد سيدنا عمر دخل السجن لأنه قال في واحد :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فأنت الطاعم الكاسي
هذا البيت الذي دخل من نظمه السجن شعار كل إنسان الآن
قال له : أتزوجني ابنتك ، فالأب واعٍ ، قال له : أعندك بيت ؟ قال : عندي بيت ، قال : ائتني بالسندات الرسمية لملكية البيت ، جاءه بالسند ، قال له : عندك عمل ؟ قال : عندي معمل ، قال : ائتني برخصة المعمل ، وعليها اسمك ، فجاءه بالترخيص الصناعي ، وعليها اسم الخاطب ، قال له : عندك مركبة ؟ قال له : عندي ، قال : ائتني برخصة المركبة ، أب من أعلى درجة بالوعي ، شاب وسيم ، بيت بملكه ، مركبة بملكه ، معمل باسمه ، وافق ، الآن في مرحلة الخطوبة ، كان عند عمه في محله التجاري ، ودخل بعض التجار ، وقال : هذا صهري ، خاطب ابنتي ، فتغير لون أحدهم ، فانزوى به جانباً ، قال : كيف هذا صهرك ؟ قال له : صهري ، قال له : هذا ليس مسلماً ، تعال إلى هنا ، قال له : أنت ما سألت عن ديني أبداً ، سألتني عن البيت والمعمل والمركبة ، ولم تسألنِي عن ديني .
أيها الإخوة ، (( كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً )) ، لذلك أجر المستقيم في هذه الأيام ، (( كأجر سبعين ، قال : منا أم منهم ؟ قال : بل منكم ، ولمَ يا رسول الله ؟ قال : لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون )) ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه : (( العبادة في الهرج ـ في زمن الفتن ـ كهجرة إلي )) .
[ أخرجه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة عن معقل بن يسار ] .
والله أيها الإخوة ، الشاب التائب والشابة التائبة التي تركل بقدمها كل مغريات الأزياء ، وتحتشم ، وتتحجب ، والله هي مهاجرة في سبيل الله .
(( إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء )) .
[ رواه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة]
(( طوبى للغرباء ، أناس صالحون في أناس سوء كثير )) .
[ أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عمر ]
وأمر عليه الصلاة والسلام هؤلاء المستضعفين الفقراء الذين تنكل بهم قريش ، يعذبونهم ، يضربونهم حتى الموت ، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لأنها أرض صدق بها ملك لا يظلم أحداً ، فهاجر عدد من الرجال والنساء في السنة الخامسة ، ثم لحق بهم مهاجرون آخرون بعد بضعة شهور ، حتى وصلوا إلى 83 رجلاً مع بعض النساء ، أن تنعم بالإسلام في هذه البلدة ، وأن تنشأ هذه المساجد ، وأن تقام هذه الدروس ، بفضل أصحاب رسول الله ، الذين تركوا مكة ، وهاجروا إلى أرض الحبشة ، خائفين ، قريش تخطط التاريخ يعيد نفسه ، قريش خافت من أن ينتشر الإسلام خارج مكة ، فأرسلت رجلين إلى النجاشي ، ملك الحبشة هدايا قيمة بغيت استعادة المهاجرين إلى مكة ، فلما طلبا من النجاشي تسليمهم ، استدعاهم النجاشي وسألهم عن أمرهم ، فتحدث نيابة عنهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعرض بإيجاز جوهر دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال .
أيها الإخوة ، كلمات سيدنا جعفر تكتب بماء الذهب ، قال : (( أيها الملك ، كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك ، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته وعفافه )) .
[أحمد عن أم سلمة]
أيها الإخوة ، الصدق والأمانة والعفاف أركان الأخلاق ، إن تكلم فهو صادق ، إن عاملته فهو أمين ، إن استثيرت شهوته فهو عفيف ، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده ، ونخلع ما كان يعبد آباءنا من الحجارة والأوثان ، وأمرنا ، هذا تعريف الإسلام من صحابي جليل ، أمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، هذا الإسلام ، الإسلام مكارم أخلاقية بعد الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والقدر وخيره وشره ، الإيمان هو الخلق فمن زاد عليك بالخلق زاد عليك في الإيمان .
(( وإنما بعثت معلم )) .
[ أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر ] .
(( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) .
[ رواه أحمد والبيهقي والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة ] .
إخواننا الكرام ، على عجل ، الصلاة التي هي عماد الدين ، تسقط حينما لا تكون أخلاقياً ، كيف ؟ سأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه : (( أتَدْرُونَ مَنْ المُفْلِسُ ؟ قالُوا : المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ الله من لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ ، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : المُفْلِسُ مِنْ أَمّتِي مَنْ يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةِ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَد شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فيقعُدُ فَيَقْتَصّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ، ثُمّ طُرِحَ في النّار )) .
[رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ] .
ذهب الصلاة .
(( يؤتى برجال يوم القيامة لهم أعمال كجبال تهامة ، يجعلها الله هباء منثورا قيل : يا رسول الله ، جلهم لنا ، قال : إنهم يصلون كما تصلون ، ويأخذون من الليل كما تأخذون ، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها )) .
الصلاة طارت .
الحج : (( من حج بمال حرام ، ووضع رجله في الركاب ، وقال : لبيك اللهم لبيك ، ينادى أن لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك )) .
الحج طار .
الصيام : (( من لم يدع قول الزور ، والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )) .
[ رواه أحمد في مسنده وصحيح البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة ] .
(( كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش )) .
[ أخرجه النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ] .
طار الصيام .
بقيت الزكاة :
( سورة التوبة ) .
بقيت الشهادة : (( من قال : لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة ، قيل : وما حقها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله )) .
ألا تكفي هذه الأدلة حتى تتيقن أن العبادة الشعائرية إن لم تسبقها عبادة تعاملية لا قيمة لها ، ولا يقبلها الله عز وجل وقد تسقط ؟ لذلك الدين مجموعة قيم أخلاقية ، لأوضح لكم الحقيقة : حينما قال عليه الصلاة والسلام : (( بني الإسلام على خمس )) .
[ متفق عليه ] .
الإسلام هذه أم هذه ؟ (( بني الإسلام على خمس )) ، فهذه أركان الإسلام هي أعمدة ، وليست الإسلام ، الإسلام البناء الأخلاقي ، هذا كلام سيد الفصحاء ، كلام مبعوث العناية الإلهية كلام سيد الخلق ، وحبيب الحق ، يا رسول الله : (( إن فلانة ـ دققوا ـ تذكر أنها تكثر من صلاتها ـ الفرائض والضحى والأوابين وقيام الليل ـ فلانة تذكر أنها تكثر من صلاتها ، وصدقتها ، وصيامها ، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها ، قال هي في النار )) .
[الترمذي]
(( دخلت امرأة النار في هرة حبستها ، لا هي أطعتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )) .
[البخاري]
هي في النار .
النمام لا يدخل الجنة ، العبادات الشعائرية لا تصح ، ولا تقبل إلا إذا صحت العبادات التعاملية ، هذا كلام سيدنا جعفر ، (( أيها الملك ، كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، ونسيه ، فدعانا إلى الله لنوحده ، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء )) .
الآن لجأت قريش إلى أسلوب آخر ، أولاً لجؤا إلى أبي طالب فلم ينجحوا ، لجؤا إلى تعذيب الضعفاء من قريش فهاجروا ، أرسلوا وفداً لاسترجاعهم فلم يفلحوا ، الآن لجأت قريش إلى ترويج الاتهامات الباطلة ، هذه الحملة الإعلامية ، التاريخ يعيد نفسه ، لجأت قريش إلى ترويج الاتهامات الباطلة لصد الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من ذلك أنهم اتهموه بالجنون ، وفي ذلك قال الله تعالى :
( سورة الحجر ) .
يستطيع مواطن بأي دولة بالعالم الثالث يقول لمن يقف على رأس هذه الدولة : مجنون ، وينام في بيته ؟ ماذا نستنبط ؟ أن يقول هؤلاء لسيد الخلق وحبيب الحق : ك لمجنون معنى ذلك أنه ضعيف ، أليس كذلك ؟ ما من إنسان فيه عقل ، ما من إنسان عنده ذرة من العقل يواجه إنسان قوي يقول له : أنت مجنون ، أما حينما قالوا لرسول الله : ﴿ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ معنى ذلك هو ضعيف ، فما الحكمة من كون النبي ضعيفاً ؟ لأن القوي لو جاء بهذه الرسالة لدخل الملايين المملينة بيوم واحد فيها ، لا إيماناً ، ولا حباً بالله ، ولا طاعةً له ، ولا عبادة له خوفاً وطمعاً فقط ، لو أن الأنبياء أقوياء لسقطت دعوتهم ، الأنبياء ضعاف ، لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً ، بل :
( سورة الأعراف الآية : 188 ) .
قل :
( سورة هود الآية : 31 ) .
( سورة الأنعام ) .
لا يعلم الغيب ، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً ، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ويخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم ، حكمة أن يكون النبي ضعيفاً ، ليكون الإيمان به حقيقياً ، ما عنده شيء يعطيه لمن يؤمن به ، الناس لا يخافونه ، ولا يرجونه ، لذلك الذي يؤمن برسول الله ، وهو ضعيف ، هذا أعلى درجة من الإيمان ، لا يبتغي نفعاً ، ولا يخاف ضيماً ، إنما آمن بالله ، وآمن برسوله ، لأنه فعلاً رسوله ، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ ، الله عز وجل رد عليهم ، قال :
( سورة القلم ) .
( سورة هود ) .
والله أيها الإخوة ، المؤمن يعيش بحالة من الأمن ، وحالة من السعادة والله لو علمها الملوك لقاتلوه عليها ، هذا كلام قاله ملك ، اسمه إبراهيم بن الأدهم ، كان ملكاً وترك الملك باختياره ، وصار عارفاً لله ، وقال : لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف ، قال :
النبي الكريم رأى في الطريق مجنون فسأل سؤال العارف فقال : من هذا ؟ قالوا : هذا مجنون ، قال : لا ، هذا مبتلى ، المجنون من عصى الله ، هذا هو المجنون ، وقد يسأل سائل : فلان معه دكتوراه ، هذا ذكي ، وليس عاقلاً ، الذكي اختصاص نادر ، تفوق باختصاص معين ، ذكي بما هو في فقط ، أما إدراك شمولي بسر وجودك ، وغاية وجودك ، وطريق سلامتك ، وسعادتك غير موجود ، لذلك ما كل ذكي بعاقل ، ﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ ، قال : لا هذا ليس بمجنون ، هذا مبتلى ، المجنون من عصى الله .
وفي آية ثانية :
هي رقم اثنان ، واتهموه بالسحر ، وفي ذلك قال تعالى :
( سورة ص ) .
( سورة الفرقان ) .
سؤال دقيق ، قالوا : ساحر ، وقالوا : كذاب ، وقالوا : مجنون ، إذا لا سمح الله ولا قدر قال واحد عنك : مجنون وساحر وكذاب ، لزم أن نكتبها في كتاب ، ونطبع منه مئة ألف نسخة ، ونوزعه بالعالم كله ، قالوها في وقت محدود ، في مكان محدود ، فلما أثبتها الله في القرآن الكريم أصبحت قرآناً تتلى في كل زمان ومكان ، ما الحكمة ؟ لماذا أثبت الله اتهام كفار قريش لرسول الله بأنه مجنون ، وبأنه ساحر ، وبأنه كذاب ، بالقرآن ، وهذا القرآن يتلى إلى يوم القيامة ، ما الحكمة ؟ قالوا عنه : مجنون ، وقالوا عنه : ساحر ، وقالوا : عنه كذاب ، لو ما جاءت في القرآن ، القضية انطوت هذا أعلى إنسان بالأمة ، أعلى إنسان بين بني البشر ، سيد ولد آدم ، سيد الخلق وحبيب الحق ، يا رب ، أقسمت بعمره الثمين ، لعمرك ، إله عظيم يقسم بعمر هذا الإنسان ، فلماذا أثبت يا رب أنه مجنون في كتابك ، قاوا عنه : إنه لمجنون وساحر وكذاب ، هذا مواساة للدعاة إلى يوم القيامة ، من أنت إذا اتهمت بأنك لست حضارياً ؟ إذا اتهمت بأنك متزمت ، إذا اتهمت بأنك غيبي غيبي ، تبحث فيما وراء الطبيعة ، إذا اتهمت بأنك محدود ، لست متمشياً مع روح العصر من أنت ، سيد الخلق وحبيب الحق اتهم بأنه مجنون ، وأثبتها الله في القرآن الكريم ، من أجل كل داعية دع فواجهة معارضة وواجهة انتقاداً ، لماذا تتهم السيدة عائشة ، وهي زوجة سيد الخلق ، وهي الطاهرة العفيفة بأنها زانية في حديث الإفك ، لماذا ؟ من أجل أية مؤمنة إلى يوم القيامة اتهمت وهي بريئة ، لها بالسيدة عائشة أسوة حسنة ، لماذا دخل نبي كريم السجن ؟ سيد يوسف ، من أجل كل سجين بريء ، اتهم ظلماً ، مواساة له ، لماذا كان ابن سيدنا نوح عاق ؟ إكراماً لكل أب قدر الله له ابن سيئاً ، لماذا كان والد سيدنا إبراهيم سيئ مشرك ، قد يواجه شاب أن أبوه سيئ لا يصلي ، يحارب الدين يحارب الابن الذي يصلي ، مواساة لهذا الشاب ، في نبي والده مشرك ، هناك نبي زوجته سيئة جداً ، امرأة لوط .
( سورة التحريم الآية : 10 ) .
الذي عنده زوجة سيئة يمكن أن يكون هذان النبيان أسوة له ، الذي عنده أب سيئ ، الذي عنده ابن سيئ ، الذي عنده عقيم ، سيدنا زكريا كان عقيما ، سيدنا أيوب كان مريضا ، الله عز وجل جعل الأنبياء نماذج إنسانية .
الآن قد اقترب موسم الحج ، فالوليد بن المغيرة خاف أن يصير خبر هذه البعثة ، وهذا القرآن بين القبائل التي تأتي للحج ، فتضعف مكانة قريش ، أخذهم الهم ، ماذا نفعل ؟ ماذا نقول ؟ لذلك قال لهم الوليد : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وأن وفود العرب ستقدم عليكم في ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، أرادوا أن يتفقوا على رواية إذا جاءهم الوفد يعطونه إياها ، طبعاً استبعدوا أنه كاهن ، واستبعدوا أنه شاعر ، واستبعدوا أنه ساحر ، إلا أنهم اتفقوا على أن يقولوا :إنه ساحر ، لأنه يفرق بين الأقارب ، فأنزل الله في الوليد .
استكبر عن الإيمان ، ﴿ فَقَالَ ﴾ بالنهاية .
( سورة المدثر ) .
هذا النبي ساحر .
أيها الإخوة :
( سورة الفرقان الآية : 4 ) .
واتهموا النبي صلى الله عليه وسلم الإتيان بالأساطير ، ولا زلنا في الحملة الإعلامية التي أرادتها قريش كي يشوه سمعة النبي عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى :
واتهموا المؤمنين بالضلالة .
( سورة المطففين ) .
ثم بدأت حملة السخرية ، مجنون ، ساحر ، ضال ، يأتي بالأساطير ، بالخرافات ، هذا التهم التي وجهت قريش لرسول الله ، لذلك ورد في بعض الآثار أنه بالمناجاة سيدنا موسى كليم الله قال : يا رب ، لا تبقِ لي عدواً ، قال : يا موسى ، هذه ليست لي ، يعني لا بد من عدو للمؤمن ، بل بعضهم قال : المؤمن لا بد له من كافر يقاتله ، ومن منافق يبغضه ، ومن مؤمن يحسده ، ومن شيطان يغويه ، ومن نفس ترديه ، لك خمسة أعداء ، أكبر عدو الكافر يريد أن يقاتلك ، في عدو آخر المنافق يبغضك ، العدو الثالث مؤمن ، لكنه ضيق الأفق ، يحسدك ، بدل أن يسأل الله من فضله ،
ملك الملوك إذا وهب .
البيت : لا تسألن عن السبب ، أنا عدلته
ملك الملوك إذا وهب قم فسئلن عن السبب
الله يؤتي من يشاء فقف على حد الأدب
فالكافر يقاتل ، والمنافق يبغض ، والمؤمن يحسد ، والنفس تغري ، والشيطان يغوي .
الآن الحملة الثانية حملة السخرية والاستهزاء ، والضحك ، والغمز ، واللمز والتعالي ، عليه صلى الله وسلم وعلى المؤمنين ، وقال الله عز وجل :
هؤلاء ازدراء واحتقاراً مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا .
روى البخاري أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ساخرة مستهزئة : إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ، فأنزل الله تعالى :
( سورة الضحى ) .
إذا كان الله معك فمن عليك ، وإذا كان عليك فمن معك .
وروى البخاري أيضاً أن أب جهل قال مستهزئا : اللهم إن كان هذا الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أن أتينا بعذاب اليم ، فنزل قوله تعالى :
(سورة الأنفال ) .
وقال الله عن ضحكهم وغمزهم
﴿ إِنَّ الّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهَينَ ﴾
( سورة المطففين : 29 ـ 31 )
إخواننا الكرام ، هل تحبون أن أقول لكم من هو البطل ؟ هو الذي يضحك أخيراً .
لا تكن من الذين يضحكون أولاً ، فالذي يضحك أولاً يبكي كثيراً آخراً ، كن ممن يبكي أولاً ، ويضحك أخيراً ، ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾ ومن منطلق الاستعلاء والسخرية قال المشركون : لا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء ، من هم ؟ يعنون صهيباً وبلالاً وخباباً ...... لا يجلسون مع هؤلاء استكباراً وعلواً في الأرض ، فقال الله عز وجل :
ومر النبي صلى الله عليه وسلم بجماعة من قريش فهمزوه ، واستهزؤوا به ، ، فغاضه ذلك ، فأنزل الله عز وجل :
( سورة فصلت ) .
أيها الإخوة ، هذه مواقف قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بدءوا بأبي طالب على أن يتخلى عن ابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اتجهوا إلى تعذيب المستضعفين ، ثم اتجهوا إلى ترويج حملة إعلامية ظالمة ، اتهموه بالشرك وبالسحر وبالكذب وبالأساطير ، ثم اتجهوا بالاستهزاء به والسخرية منه ، والغمز واللمز ، وهذا كله يبين لنا أن حمل الرسالة عبء كبير ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان أهلاً لها ، ولقد أقسم الله بعمره الثمين فقال :
والحمد لله رب العالمين