بناء الكعبة

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : محمد راتب النابلسى | المصدر : www.quran-radio.com

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، والموضوع اليوم عن بناء الكعبة ، الله عز وجل يقول :

( سورة آل عمران ) .

أيها الإخوة ، الله عز وجل في كل مكان .

( سورة الحديد الآية : 4 ) .

ما معنى أن يتخذ الله له بيتاً في الأرض ؟ ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ ، قال علماء التفسير : هذه معية العلم .

( سورة مريم ) .

سيدنا زكريا .

لو أنك خاطبت ربك بقلبك يسمعك ، ما معنى أن يتخذ الله بيتاً في مكان ما في الأرض ويقول :

( سورة آل عمران الآيات : 96 ـ 97) .

المعنى : أن الله جلت حكمته مراعاةً للإنسان ، أو للنزعة المادية في الإنسان اتخذ له بيتاً ، وقال : يا عبدي تعال إلى بيتي ، لماذا يقول الحاج : لبيك اللهم لبيك ؟ يعني تلبية لندائك يا رب ، تعال يا عبدي لأريحك من هموم أثقلت ظهرك ، تعال كي تذوق طعم القرب مني ، تعال كي تذوق طعم محبتي ، فالله عز وجل اتخذ بيتاً في الأرض لنفسه ليكون هذا البيت رمز التوحيد ، ورمز العبودية لله .

بالمناسبة ، في بحث من الإعجاز العلمي يؤكد أن مكة المكرمة هي الوسط الهندسي للأرض ، لذلك هناك العالم القديم ، آسيا ، أوربا ، إفريقيا ، أقينوسيا ، والعالم الجديد أمريكا   ، المدن التي في أقصى أطراف العالم القديم تبعد عن مكة المكرمة 8500 كم ، أي مدينة على أطراف العالم القديم ، فمكة في وسط العالم القديم ، فإذا أضفنا إلى العالم القديم العالم الحديث تبعد مكة عن أي مكان كوسط هندسي في العالمين القديم والحديث 13500 كم ، البحث مودع في جامعة في القاهرة ، مكة المكرمة تقع في الوسط الهندسي من العالم القديم والعالم الحديث ، ولا يقابلها في الطرف الآخر مدينة ، بل لا يقابلها يابسة أصلاً ، يقابلها المحيط الهادي .

بالمناسبة أيها الإخوة ، أنت تصلي في بلدك ، وفي مسجدك ، وفي غرفتك ، وتصوم في بلدك ، وتزكي في بلدك ، وتشهد أن لا إله إلا الله في بلدك ، إلا أن الحج وحده يقتضي أن تذهب إلى بيت الله الحرام ، الحج يقتضي تفرغاً كاملاً ، فيه بذل ، فيه جهد ، فيه نفقة ، فيه ترك أهل ، ترك أولاد ، ترك منصب ، ترك وظيفة ، ترك غرفة نوم ، ترك أشياء مريحة في بلدك ، ترك مكانة ، ترك سمعة ، تذهب إلى هناك لأنك دفعت الثمن باهظاً ، هناك تجلّى الله عليك الله تجلياً يناسب هذا الثمن الذي دفعته .

النقطة الأولى : ما الحكمة التي أرادها الله من أن يتخذ لنفسه بيتاً في الأرض ، وأن يدعو عباده أن يأتوه حاجين من كل فج عميق ؟

( سورة آل عمران الآية : 97 ) .

هذه النقطة الأولى .

أيها الإخوة ، النقطة الثانية في هذا الدرس إن شاء الله هي : أن بعض المؤرخين ذكر أن البيت العتيق انهدم مرتين بعد أن بناه سيدنا إبراهيم عليه السلام بفعل السيول ، وبنته قصي بن كلاب بعد أن انهدم في المرة الأولى ، وجرهم في المرة الثانية ، أما المؤرخ الماوردي يذكر أن أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم قصي بن كلاب ، وهو جد من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم ، وسقفها بخشب الروم ، والنخل ، على أن المهم هنا بناء قريش للكعبة البناء الثالث ، علاقة هذا الدرس بالسيرة النبوية أنه مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بنية الكعبة للمرة الثالثة .

طبعاً هذا ورد بنص الصحيحين ، البخاري ومسلم ، قبيل بعثة النبي ، وقد يسأل سائل : ما علاقتنا ببناء الكعبة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له من العمر 35 عاماً ، وله موقف رائع في أثناء بناء الكعبة .

أيها الإخوة ، يعود سبب بناء قريش للكعبة إلى جملة عوامل ، منها أنها كانت نحو القامة ارتفاع الكعبة يساوي قامة الإنسان ، أو فوقها بقليل ، ولم يكن لها سقف ، وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة المتطاولة ، حلقة متطاولة لها ركنان فقط ، وكانت الكسوة تدلى على جذر الكعبة من الخارج ، وتشد من أعلى الجذر في بطنها ، بلا سقف ، تركوا القماش يشد إلى داخل الكعبة ، وكانت البئر التي جعلها إبراهيم عليه السلام خزانة داخل الكعبة يوضع فيها ما يهدى إليها من أموال وحلي ، وقد امتدت أيدي اللصوص إلى خزانة الكعبة عدة مرات ، سؤال : ألم يقل الله عز وجل :

( سورة آل عمران الآية : 97 ) .

كيف امتدت إليها يدي اللصوص ؟ وكيف ضربت قبل 26 عاماً ، في عام 1400 اقتحمتها قوات الأمن ، وذهب قتلى كثيرون في هذا الاقتحام ، كيف نوفق بين قوله تعالى    ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا ﴾ ، وقد قتل مئات بل ألوف ، كيف نوفق ؟ الدقة البالغة أيها الإخوة أن هذه الآية أنهت بمعنى : يا عبادي اجعلوه آمناً ، أو ينبغي أن يكون آمناً ، وأمن الكعبة أمر تكليفي ، وليس أمراً تكويناً ، يشبه هذا المعنى أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول :

( سورة النور الآية : 26 ) .

ألا تجد امرأة طيبة تحت زوج خبيث ؟ ألا تجد زوجاً طيباً عنده امرأة خبيثة ؟ ما معنى الآية ؟ في بعض الآيات القرآنية صيغتها خبرية ، لكنها تعني الإنشاء ، وهذا أبلغ .

( سورة البقرة الآية : 233 ) .

يعني أيتها الوالدات أرضعن أولادكن ، هذا أبلغ لأن أي أمر يقتضي العصيان ، لو قلت لابنك : اشتر بهذا المبلغ هذه الحاجة ، ورد لي الباقي انتبه ، يفهم من هذا الأمر أنه بإمكانه ألا يرد الباقي ، كل أمر ينطوي فيه احتمال معصيته ، فالأمور القطعية المصيرية ينبغي أن يأتي الأمر على شكل خبر ، ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ﴾ ، يعني من شأن الوالدات أن يرضعن أولادهن ، ولا تجد على وجه الأرض أم لا ترضع ولدها ، ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا ﴾ ، يعني : اجعلوه آمناً ، ﴿ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾ أي : اجعلوا الطيبون للطيبات ، هذه صيغة خبر يراد بها الإنشاء ، وهذا من بلاغة القرآن الكريم .

إذاً أمن الحرم أمر تكليفي ، وليس أمراً تكوينياً ، كما تعلمون هناك أمر تكلفي  ، وهناك أمر تكويني ، كيف ؟ .

طريق فيه لوحة : ممنوع المرور ، هذا أمر تكليفي ، لكن أي سائق بإمكانه أن يمشي فيدفع الثمن ، وهو مخالف ، لكن لو وضع على مدخل هذا الطريق قطع إسمنت مسلح ، مكعبات ، ارتفاع الضلع مترٌ ، هذا أمر تكويني ، والأمر التكليفي أمر الله عز وجل ونهيه ، والأمر التكويني فعلُه ، فالحفاظ على أمن بيت الله الحرام أمر تكليفي ، ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا ﴾ ، بصيغة صيغة خبرية .

إذاً : وكانت البئر التي جعلها إبراهيم عليه السلام خزانة داخل الكعبة ليوضع فيها ما يهدى إليها من أموال وحلي ، وقد امتدت إليها أيدي اللصوص إلى خزانة الكعبة عدة مرات إقامة الحق في الأرض ، أمر تكويني أم تكليفي ؟ تكليفي .

( سورة محمد الآية : 4 ) .

الله عز وجل كلفنا أن نكون مع الحق ، وأن نقاوم الباطل ، إلا أن امرأة من قريش ذهبت تجمر الكعبة ، أي تبخرها ، والبخور يحتاج إلى جمر ، فطارت من مجمرها شرارة ، فاشتعلت النار في كسوة الكعبة ، والتهمتها ، وكانت الكسوة توضع فوق بعضها بعضاً ، وكل كسوة توضع فوق التي قبلها ، فصار هناك كمٌّ كبير من الكسوات ، اشتعلت كلها ، فلما اشتعلت تهدمت الكعبة ، ومما زاد الطين بلاًّ أنه أعقب ذلك الحريق سيل جارف غمر الكعبة حتى دخل خوفها ، فجزعت قريش لذلك جزعاً شديداً ، وخافوا أن تنهدم ، وخشي القوم ـ دققوا الآن الإيمان الفطري ـ وخشي القوم إن قاموا بهدمها وبنائها أن ينزل عليهم العذاب ، نحن في ندنا إيمان فطري ، وعندنا إيمان كسبي .

أحياناً امرأة تعمل في فن ساقط ، في رمضان لا ترقص ، لماذا ؟ كل إنسان في عنده إيمان فطري ، بفطرتها .

هؤلاء القوم خافوا إن هدموا الكعبة من أجل بنائها أن ينزل بهم عقاب الله عز وجل ، وأخذوا ينظرون ويتشاورن ، ويدرسون الأمر في روية وتؤدة .

أيها الإخوة ، لا بد من حقيقة ، لا يمكن أن تكون الكعبة وثناً ، أرقى المخلوقات هو الإنسان ، يأتي بعده الحيوان ، يأتي يعده النبات ، يأتي بعده الجماد ، الجماد شيء يشغل حيزاً، له طول وعرض وارتفاع ، وله وزن ، هذا الجماد ـ دقق ـ .

النبات شيء يشغل حيزاً ، له طول وعرض وارتفاع ، لكنه ينمو ، افترق النبات عن الجماد بالنمو .

الحيوان شيء يشغل حيزاً ، له طول وعرض وارتفاع ، وينمو ، ويتحرك .

الإنسان شيء يشغل حيزاً ، له طول وعرض وارتفاع ، وينمو ، ويتحرك ، ويفكر، إذاً الله عز وجل ميز الإنسان بقوة إدراكية .

( سورة الرحمن ) .

فأنت مكرم بهذه القوة الإدراكية ، والقوة الإدراكية غذائها العلم ، والقلب غذاءه الحب ، والجسم غذاءه الطعام والشراب ، لك كيان عقلي غذاءه العلم ، ولك كيان انفعالي  غذاءه الحب ، ولك كيان مادي غذاءه الطعام والشراب ، والإنسان المتفوق هو الذي يتحرك على الخطوط الثلاثة ، التفوق يعني أن تغذي عقلك بالعلم ، وأن تغذي جسمك بالطعام والشراب ، وأن تغذي قلبك بالحب ، التطرف أن تغذي جهة على حساب جهة .

أيها الإخوة ، شيء آخر ، الكعبة ليست وثناً ، هناك إنسان ، حيوان ، نبات ، جماد، لكن الكعبة رمز .

دققوا : لو واحد جاء بقماش أخضر ، وداس عليه بقدمه ، هل يحاسب ؟ لا ، قماش مستورد صنع في اليابان ، وضع قطعة قماش على الأرض ، وداس عليها بقدمه ، لو جاء بقماش أبيض ، وداس عليه بقدمه هل يحاسب ؟ لا ، لو جاء بقماش أحمر ، ووضعه على الأرض ، وداس بقدمه عليه هل يحاسب ؟ لو جاء بمستطيل ثلث أخضر وأحمر وأبيض وفيه نجمتان وداس عليه بقدمه يساق إلى السجن ، طيب ماذا فعل ؟ قماش ، مستورد ، هذا رمز وطن .

فالكعبة ليست وثناً ، ولكنها رمز التوحيد ، نحن لا نعبد حجارة ، سيدنا عمر وضع يده على الجرح حينما قبل الحجر الأسود ، مع أن بعض الروايات تبين أنه يمين الله في الأرض ، وأن بعض الروايات تبين أنه : (( من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن )) .

[ رواه الديلمي عن أبي هريرة ] .

ولكن سيدنا عمر عملاق الإسلام يقول : " أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ، ولولا أن رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك " .

نحن لا نعبد أحجاراً ، ولكن الكعبة رمز التوحيد ، رمز العبودية لله ، ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾ ، فهذا الذي داس بقدمه على مستطيلات ذات ألوان ثلاثة هي رمز الوطن يساق إلى السجن ، وقد يحكم سنوات وسنوات تأديباً له على تجاوزه على رمز      الأمة .

بالنهاية استقر رأي قريش قبل بعثة النبي ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في 35 من عمره على إعادة بناء الكعبة ، الحياة متواضعة جداً ، وخشنة جداً ، فسمع زعماء قريش أن سفينة رومية تحطمت قرب الشعيبية هي ميناء مكة القديم ، فركب الوليد بن الغيرة ومعه نفر من زعماء قريش ، واشتروا خشبها لاستخدامه في سقف الكعبة ، واستعانوا بنجار رومي يسمى باقوم ، وتعاونوا ، وتراكضوا بالنفقة ، أي جمعوا النفقة من بعضهم ، واختلفوا في بنيان مقدم البيت ، فقال أبو أمية بن المغيرة : يا معشر قريش ، لا تنافسوا ، ولا تباغضوا ، فيطمع فيكم غيركم .

الإيمان فطري ، الآن تستمعون إلى بعض الأقوال ، هذه من بقايا بعثة الأنبياء   ، الإيمان فطري .

يا معشر قريش ، لا تنافسوا ، ولا تباغضوا ، فيطمع فيكم غيركم ، ولكن جزئوا البيت أربعة أجزاء ، أربعة جدران ، وربعوا القبائل ، فلتكن أربعاً ، يعني كل مجموعة قبائل يسمح لها أن تبني جداراً واحداً ، لأن شرف بناء الكعبة شرف كبير .

أنا سمعت عن عالم كبير جليل في مصر توفي رحمه الله كان في مكة المكرمة يعمل أستاذاً في الجامعة ، فلما وسع الحرم نقل التراب بيده ، واشتغل فاعلاً بالمفهوم الدمشقي، لينقل التراب في أثناء توسعة الحرم ، شرف كبير .

لهذا البيت قدسية قديمة جداً ، توارثتها الأجيال جيلاً عن جيل ، قال : جزئوا البيت أربعة أجزاء ، يعني أربعة جدران ، وربعوا القبائل ، فلتكن أربعاً ، ثم اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة ، وعلى جوانبها .

إخواننا الكرام ، القرعة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا كان هناك خلاف بين أولادك ، خلاف بين زوجاتك ، إن كنت من ذوي التعدد ، خلاف بين من حولك ، بين شركائك ، نظام القرعة نظام مريح جداً .

اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة ، على جوانبها ، وكل مجموعة قبائل أخذت جداراً ، هناك جدار الشامي ، واليمني ، والجنب الشرقي والغربي ، ولما أجمعت قريش على هدم الكعبة أخرجوا ما كان فيها من مال وحلي ، وجعلوه عند أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى ، وأخرجوا كبير الأصنام هبل ، ونصبوه عند المقام ، ولما أرادوا الشروع في الهدم ظهرت لهم حية كانت داخل الكعبة ، وكشت ، أي أخافتهم ، وفتحت فاها فهابوها ، فقال لهم الوليد بن المغيرة : ألا أيها القوم ألستم تريدون هدمها لإصلاحها ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن الله لا يهلك المصلحين .

بالمناسبة ، السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها لما رأت النبي مضطرباً بعد مجيء الوحي ، ماذا قالت له ؟ قالت : والله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتقري الضيف ، وتحمل الكل ، وتعين على نوائب الدهر ، من أين جاءت بهذا ؟ هذا من الفطرة .

أنا أقول لكم أيها الإخوة : أيها الأخوة الحضور جميعاً ، مادام الإنسان مطيعاً لله  ، مادام محسناً ، مادام مستقيماً ، والله الذي لا إله إلا هو لا يخزيه الله أبداً ، ولو افتقر إلى كل مقومات الحياة ، مادام مستقيماً ، لن يبني مجده على أنقاض الناس ، ولا غناه على فقرهم   ، ولا أمنه على خوفهم ، ولا عزه على ذلهم ، ولا حياته على موتهم ، مادام منضبطاً ، دققوا أيها الإخوة :

محياهم في الدنيا :

( سورة الجاثية ) .

مستحيل وألف ألف مستحيل أن يعامل المستقيم كالمنحرف ، والصادق كالكاذب  والعفيف كالعاصي ، والمخلص كالخائن .

( سورة السجدة ) .

( سورة القلم ) .

( سورة القصص ) .

يقول عبد العزى : لا تدخلوا في عمارة البيت إلا من طيب أموالكم ، الآن دققوا :

قبل الإسلام ، قبل البعثة ، أنت بفطرتك تعلم أن مالك طيب ، أو خبيث ، بفطرتك ، قبل البعثة ، قبل الوحي ، قبل القرآن ، قبل السنة ، قبل إخبار النبي ، قبل إخبار العلماء .

لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا من طيب أموالكم ، ولا تدخلوا فيه مالاً من ربا ، ولا من مال ميسر ، ولا مهر بغي ـ من ربح نوادٍ ليلية ـ ولا مظلمة أحد من الناس مصادرة ، وجنبوه الخبيث من أموالكم ، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، هذا كلام قيل قبل البعثة ، هذا يؤكد أن الإيمان فطري ، وأن أصول الإيمان مزروعة في قلب كل إنسان .

أنا كنت في القاهرة ، وعند الأهرامات برنامج اسمه الضوء والصوت ، يعرض تاريخ الفراعنة ، لا أنسى كلمة قالها أحد الفراعنة سمعتها بأذني ، قال : أنت تريد ، وأنا أريد، والله يفعل ما يريد .

الدين أصل في كيان الإنسان ، الذي أدهشني أن هذا الكلام قبل البعثة ، وقبل القرآن، وقبل الوحي ، أعيده عليكم ثانية .

لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا من طيب أموالكم ، ولا تدخلوا فيه مالاً من ربا ، ولا من مال ميسر ، ولا مهر بغي ، ولا مظلمة أحد من الناس ، وجنبوه الخبيث من أموالكم ، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، ففعلوا ، ثم وقفوا عند المقام ، ودعوا الله أن يذهب عنهم تلك الحية ، فأقبل طائر كبير فاختطفها .

الآن هناك استنباط دقيق ، لا سمح الله ولا قدر ، لو لم تكن مستقيمًا ، وقعت في أزمة  ، ودعوت الله ، فإن الله يجيبك ، قال علماء العقيدة : للدعاء شروط لا يستجاب الدعاء إلا إذا توافرت الشروط :

( سورة البقرة ) .

يجب أن تؤمن ، ويجب أن تستجيب ، ويجب أن تخلص ، الدعاء يستجاب ، لكن يستثنى ـ دققوا ـ من شروط الدعاء هذه المضطر والمظلوم ، المضطر يستجيب الله له لا بأهليته للدعاء ، ولكن برحمة الله ، والمظلوم يستجاب له لا بأهليته للدعاء ، ولكن بعدل الله لذلك : (( واتّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ ، فإنّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وبَيْنَ الله حِجَاب )) .

[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ] .

 رجل يعد الرجل الثاني عند هارون الرشيد : البرمكي ، الثاني فجأة وجد نفسه في السجن ، زاره أحد أقرباءه ، فقال له البرمكي لعل دعوة مظلوم أصابتنا ، (( واتّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ ، فإنّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وبَيْنَ الله حِجَاب )) .

اتقوا دعوة المظلوم ، ولو كان كافراً ، هؤلاء مشركون ، الإله هبل وضعوه في مقدم البيت ، و مع ذلك دعوا ربهم أن ينجيهم من هذه الحية المخيفة ، أقبل طائر كبير فاختطفها ، و ألقى بها في أجياد ، فاعتبروا ذلك دليلاً على رضاء الله عز وجل عن عملهم ، تقدم الوليد بن المغيرة بمعول في يده ، وبدأ في الهدم بمفرده ، ما أحد عاونه أبداً ، لأنهم خائفون أن الإله يدمره ، لأنه هدم الكعبة .

الحقيقة أحيانا هناك وسوسة ، واحد يطوف حول الكعبة ، وجد لوزة فملأ الحرم ضجيجاً وصراخاً ، من صاحب هذه اللوزة ؟ فقال له : عمر كلها يا صاحب الورع الكاذب ، يعني كلها وأرحنا .

فبدأ الوليد بن المغيرة وحده بهدم الكعبة ، والباقون خائفون ، حتى أمسى ، ولما أصبح سليماً اشتركوا معه في الهدم ، يعني جعلوه ضحية ، وافتدوا به ، فلما نام وأصبح سليماً اشتركوا معه في هدم البيت ، حتى بلغوا حجارة لا يطيق على تحريكها إلا عدد كبير من الرجال ، فاتخذوا في ذلك أساساً للبناء ، ولما جمعوا ما أخرجوه من النفقة وجدوها أقل من أن تبلغ بهم عمارة البيت كله فتشاوروا ، واستقر رأيهم على أن يقتروا على القواعد ، ويحذروا ما يقدرون عليه ، القواعد حجار وبلاط ، لكن بعد ذلك حجارة فقط .

أحيانا تجدون ببعض المحافظات الجنوبية جدار من الحجار من دون بلاط .

فقر شديد ، بساطة شديدة ، خشونة شديدة ، كل شيء جمعوه من أموال ما كفى لبناء الكعبة ، القسم الآخر عبارة عن حجار قد صفت بعضها فوق بعض .

أيها الإخوة ، الحقيقة أن حجر إسماعيل من الكعبة ، قصر بهم المال ينبغي أن يبنى فوق حجر إسماعيل ، وأن تكون الكعبة متصلة بحجر إسماعيل ، حجر إسماعيل هو دليل أن المال الذي استخدمته قريش لبناء الكعبة لم يكن كافياً .

فالإمام البخاري رحمه الله تعالى روى عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجر : (( أمن البيت هو؟ قال : نعم )) .

إذا أكرم أحدكم الله بعمرة أو بحج ، وطاف حول الكعبة ضمن الحجر طوافه مرفوض ، وغير مقبول ، لأن الحجر من الكعبة ، يجب أن يطوف حول الحجر ، فالسيدة عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم  : (( الحجر أمن البيت هو؟ قال : نعم ، قلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟ قال : إن قومك قصرت بهم النفقة ، قلت : فما شأن بابه مرتفعاً ، قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا )) .

لو أن بابه على مستوى الأرض لكان الدخول إليه سهلا ، الآن هناك سلم متحرك ، كسلم الطائرة ، وفيه تكييف .

(( ولولا أن قومك حديث عهد بكفر ، وأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر بالبيت ، وأن ألزق بابه بالأرض لفعلوا )) .

[الترمذي]

ماذا يستنبط من كلام النبي عليه الصلاة والسلام ؟ أحياناً هناك شيء ينكره من حولك إنكاراً شديداً ، فأنت إذا تلطفت بهم ، طبعاً لا يدخل في الحلال والحرام ، ولكن إذا تلطفت بهم ، ولم تستفزهم ، ولم تحرجهم فأنت حكيم .

(( ولولا أن قومك حديث عهد بكفر ، وأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر بالبيت ، وأن ألزق بابه بالأرض لفعلت )) .

فكان عليه الصلاة والسلام حكيماً ، طبعاً من الصعب أن آتي بأمثلة كثيرة ، هناك أشياء هي من الشرع ، لكن ليس هناك مناسبة للحديث عنها إطلاقاً ، يقول لك : حكم الإماء في الإسلام ، الآن ليس هناك إماء ، دائماً هناك أسئلة استفزازية ، فالأولى إذا كان الشيء مرفوضًا في الثقافة المعاصرة ، مشروعًا في الثقافة الإسلامية ، وغير مطبق ، وغير موجود فالداعية الحكيم لا يثير هذه الموضوعات أبداً ، إذا ورد ، وأنا والله لا أصدق أن الصحابة الكرام أنهم شربوا الخمر ، أو دم الحجامة ، له فضائل النبي عليه الصلاة والسلام تذيب الصخر ، له شمائل ، له أعمال بطولية ، له تواضع ، له رحمة ، لم ترَ من السيرة كلها إلا خبرًا غير صحيح ، وغير ثابت ، ولم يثبت بعد من أجل أن تستفز الناس ، يقول : أخي ورد فيها نص ، طول بالك ، أنت مقرب ، ولست منفّرًا ، أنت محبب ، ولست تدعو إلى البغضاء.

إخواننا الكرام ، هذا النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ولولا أن قومك حديث عهد بكفر  وأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر بالبيت ، وأن ألزق بابه بالأرض لفعلت )) .

واحد في بلد إسلامي رأى جماعة غير مسلمين ، دعاهم للإسلام ، هو جاهل ، طيب كيف ندخل في الإسلام ؟ قال : قولوا : أشهدوا أن لا إله إلا الله ، شهدوا ، طيب ماذا بعد ذلك ؟ قال لهم : الطهور ، في كل الدين ، والفقه مئتان ، أربعمئة موضوع ، ما اختار إلا الطهور ، قالوا لا نريد ، قال لهم : أنت مرتد ، فيها قطع رقبة ، قال له : والله شيء جميل ، بالدخول قص من تحت ، وبالخروج قص من فوق ، هذه دعوى إلى الله عز وجل ؟ الطهور حق ، ولكن واحد أسلم حديثا ما وجدت في الدين إلا الطهور ، أنا آتي بأمثلة بناء على قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : لولا أن قومك حديث عهد بهذا الدين لفعلت كذا وكذا ، لكن راعى مشاعرهم ، فأنت كداعية يجب أن تراعي المشاعر ، يجب أن تختار أجمل الكلمات.

( سورة فصلت ) .

الآن اختلفت قريش في موضع الحجر الأسود ، من يرفعه ؟ ومن يحمله ؟ وكل فريق أراد أن يذهب بشرف وضعه في مكانه .

بالمناسبة ، نحن عندنا اختلاف طبيعي ، نحن عشية العيد سمعنا صوتًا يشبه المدفع، قلنا : لقد أثبت العيد ، ولكن غير متأكدين ، هذا خلاف ، يا ترى انفجار بالجبل لفتح طريق ، أم مدفع العيد ، نفتح الإذاعة ، فإذا ثبت أنه العيد جاء الخبر الصادق ، وحسم الموضوع ، وعندنا اختلاف طبيعي أساسه نقص المعلومات ، صاحبه معذور .

( سورة البقرة الآية : 213 ) .

نقص المعلومات يؤدي إلى اختلاف ، لكن عندنا اختلاف قذر .

( سورة آل عمران الآية : 19 ) .

بسبب الحسد اختلفوا ، اختلاف مصالح ، اختلاف تنافس ، اختلاف كبر ، اختلاف سيطرة ، اختلاف مكاسب ، هذا الاختلاف القذر ، عندنا اختلاف حيادي لا محمود ولا مذموم، وعندنا اختلاف قذر ، وفي عنا اختلاف محمود .

( سورة المطففين ) .

إنسان يرى أن أعظم شيء تأليف الكتب ، وهو جاد في هذا المضمار ، إنسان يرى أن أعظم شيء تأليف القلوب ، تسليك الناس إلى الله ، إنسان يرى أن أعظم شيء بناء المساجد، فكل إنسان يرى عملاًَ صالحاً في مقدمة الأعمال ، هذا اختلاف رحمة ، هذا اختلاف محمود  ، اختلاف تنافس ، الآن قريش أوشكت أن تقتتل من أجل الحجر الأسود ، من يحمله ؟ ومن يضعه في مكانه ، فأشار عليهم أبو أمية حذيفة بن المغيرة أن يحكموا أول من يطلع عليهم من باب بني شيبة ، رضوا بذلك ، طلع عليهم محمد بن عبد الله ، قبل البعثة ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا ، فلما أخبروا الخبر أمر بثوب ، فوضع فيه الحجر الأسود ، وطلب أن يتقدم من ربع من أرباع قريش رجل أن يأخذ بزاوية من زوايا الثوب القبائل قسمت أربعة أقسام ، وكل مجموعة اختارت رجلا يمسك بطرف الثوب ، والنبي عليه الصلاة والسلام أمسك الحجر ، ووضع بيده الشريفة في مكانه الصحيح ، وحسم الخلاف كلياً ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ليس منا من فرق ، انظروا إلى حكمته ، انظروا إلى تواضعه انظروا إلى أنه قبل الأطراف كلها ، الآن أكبر كلام يقال ، أن فلانًا يرفض الطرف الآخر ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قبل الأطراف كلها ، ووفق بينها ، فالحكمة ضالة المؤمن.

( سورة البقرة الآية : 269 ) .

أيها الإخوة ، هذا موضوع بناء الكعبة نستنبط منه أشياء كثيرة ، إذا ورد شيء في النصوص ، ولسنا بحاجة إليه ، ولا علاقة له بعقلنا ، وفيه استفزاز أحياناً ، ليس من الحكمة أن تستفز مشاعر الناس أو تكفيرهم ، فتكون عندهم منفراًَ لا داعية إلى الله عز وجل .

مثلاً في الإعجاز العلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببعض الحالات المرضية أن يعالج الإنسان ببول الإبل ، وثمة بحث في أكثر من ثلاثين صفحة المراجع باللغة الإنكليزية حول صواب هذا التوجه ، لكن الإنسان حديث عهد بالإسلام ، تقول له : النبي أمر أن تستطب ببول الإبل ؟ شيء ، هذه لا بد لها من تمهيدات كثيرة جداً ، فلا تكن استفزازياً ، الشيء غير موجود عندنا الآن ، وغير مطروق ، وفيه نص صحيح ، ويحتاج إلى شرح طويل إياك أن تستفز به أحداً ، انطلاقاً من هذا النص .

والحمد لله رب العالمين