بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة ، وننتقل إلى أسمائه صلى الله عليه وسلم ، للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة ، استخرجها العلماء ، وشرحوا معانيها ، وما تدل عليه ، وقد ثبت في الصحيحين عن مُحمّدِ بنِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ عن أَبِيهِ قال : قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( إِنّ لِي خمسة أَسْمَاءَ : أَنَا مُحمّدُ ، وَأَنا أَحْمَدُ ، وَأَنَا الْمَاحِي الّذِي يَمْحُو الله بِي الْكُفْرَ ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الّذِي يُحْشَرُ النّاسُ عَلَى قَدَمَيّ ، وَأَنَا الْعَاقِبُ ؛ أي الّذي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌ )) .
وفي حديث آخر في صحيح مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً . فَقَالَ : (( أَنَا مُحَمّدٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَالْمُقَفّي ، وَالْحَاشِرُ ، وَنَبِيّ التّوْبَةِ ، وَنَبِيّ الرّحْمَةِ )) .
أيها الإخوة الكرام ، أسماء النبي صلى الله عليه وسلم نوعان ، نوع خاص به لا يشارك فيه غيره من الرسل ، كهذه الأسماء الخمسة التي وردت في حديثه الصحيح ، ونوع آخر يشاركه فيه بقية الرسل كرسول الله ، والشاهد ، والنذير ، ونبي الرحمة ، لكن من أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم ( محمد ) ، هذا اسم مفعول من الحمد ، يتضمن الثناء على المحمود ، ومحبته ، وإجلاله ، وتعظيمه ، وقد كان عليه الصلاة والسلام محموداً عند الله ، وكان محموداً عند الناس ، وكان محموداً عند نفسه ، قد يستطيع الذكي جداً أن يكون محموداً عند الناس ، لكن لا يستطيع أن يكون محموداً عند نفسه .
( سورة القيامة ) .
وقد يكون محموداً عند الله لأداء العبادات ، وانضباطه وفق منهج الله ، ولا يكون محموداً عند الناس ، لعدم رحمته ، ولعدم تحليه بالأخلاق النبوية ، وقد يكون محموداً عند نفسه ، وليس محموداً عند الناس ، فالبطولة في رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان محموداً عند الله ، ومحموداً عند الناس ، ومحموداً عند نفسه .
فلذلك اسم ( محمد ) صيغة اسم مفعول من الحمد ، على وزن مفعل ، كمعظم ، محبب ، مسود ، مبجل ، هذه الصيغة لاسم الفاعل تعني التكثير والمبالغة ، فإذا اشتق من هذا الفعل اسم فاعل فمعناه كثرة صدور الفعل منه مرةً بعد مرة ، كأن تقول : مفهم ، مبين ، مخلص ، مفرج ، وإن اشتق منه اسم مفعول فمعناه كثرة تكرر وقوع الفعل عليه ، مرةً بعد مرة ، إما استحقاقاً ، وإما وقوعاً ، فمحمد هو الذي كثر حمد الحامدين له مرةً بعد مرة ، أو الذي يستحق أن يحمد مرةً بعد مرة ، إما أن الحمد وقع على ذاته الشريفة ، وإما أنه يستحق الحمد لأنه جاء لخير البشرية .
بالمناسبة أيها الإخوة ، أعطيكم قاعدة رائعة : إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر فيما استعملك ، وإن أردت أن تكون لك كرامة عند الله فاعلم أن اليقين أن أعظم كرامة عند الله أن تعرفه ، وأن أعظم كرامة عند الله أن تستقيم على أمره .
فلاستقامة عين الكرامة ، ومعرفة عز وجل أعظم كرامة ، لأنها لا تحتاج لخرق العادات .
( سورة النساء ) .
أيها الإخوة الكرام ، تعليق آخر : شيء مؤسف جداً أن يكون اسم المسلم كامل ، وهو ناقص ، أن يكون اسمه سعيد ، وهو شقي ، فالبطولة أن يكون المسمى ـ أي أنت ـ مطابقاً لاسمك ، وفي اللغة العربية قاعدة : أنك إذا عرفت الاسم فذلك أنه يتصف بخصائص هذا الاسم ، فلان راشد ، إن قلت : جاء الراشد أي هو في سلوكه راشد ، لذلك من حق الابن على أبيه أن يحسن اسمه ، وأفضل الأسماء ما عبّد وحمد .
أيها الإخوة الكرام ، النبي عليه الصلاة والسلام أنجبه عبد الله بن عبد المطلب ، إذاً تزوج عبد الله ابن عبد المطلب من آمنة بنت وهبٍ ، ابن عبد مناف ، ابن زهرة ، ابن كلاب ، ولم ترد تفاصيل هذا الزواج من طرق صحيحة ، لكن الذي يعنينا أن النبي صلى الله عليه وسلم ثمرة زواج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة بن وهب .
شيء آخر ، قد يسأل سائل : لماذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتيماً ، هو يعرف أباه ، لم ير النبي صلى الله عليه وسلم أباه ، فقد مات أبوه في المدينة عند أخواله بني النجار ، وقد ذكر الزهري أنه بعث عبد المطلب ولده عبد الله ليشتري له تمراً من يثرب فتوفي هناك ، وولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في حجر عبد المطلب ، وقد أشار القرآن الكريم إلى يتمه صلى الله عليه وسلم فقال :
( سورة الضحى ) .
مرةً أيها الإخوة ، سمعت كلمة هزت مشاعري ، قال أحدهم يخاطب صديقه : إن كان هذا الطفل ليس له أب أليس له رب ؟ فالذي فقَد أباه هو في كنف الله .
( سورة البقرة ) .
وأحياناً الذي فقد أباه ينبغ نبوغاً شديداً ، الأب القوي الغني قد يكون عقبة أمام ابنه في بلوغه أعلى المراتب ، كل شيء ميسّر ، أما هؤلاء الصغار اليتامى فليس أمامهم شيء ، فيجدون ، ويجتهدون ، لكن الذي أتمنى أن يكون واضحاً لديكم أن الإنسان مخير فيما كلف ، كلف أن يصلي فهو مخير ، كلف أن يصوم ، كلف أن يغض بصره ، كلف أن يتحرى الحلال في دخله ، أن ينفق ماله وفق منهج الله ، ولكن لم يكن مخيراً باختيار جنسه ، هو ذكر ، وقد يكون أنثى ، ولم يكن مخيراً في أمه وأبيه ، ولم يكن مخيراً في بلدة ولادته ، ولم يكن مخيراً في زمان ولادته ، ولم مخيراً في شكله ، ولم يكن مخيراً في خصائصه ، وقدراته ، اعلم علم اليقين أن الذي لم تكن فيه مخيراً هو أبدع ما يكون ، وقد عبر عن هذا الإمام الكبير أبو حامد الغزالي فقال : " ليس في الإمكان أبدع مما كان " .
الذي لم تكن مخيراً فيه هو أنسب شيء إليك ، ويوم القيامة يكشف عن سر القضاء والقدر الذي لم تكن فيه اختيار ، لذلك تلخص علاقة العباد مع الله بكلمة واحد يوم القيامة :
( سورة يونس ) .
لا بد من أن ترضى عن الله ، إنسان يطوف حول الكعبة ، ويقول : يا رب ، هل أنت راضٍ عني ؟ قال الإمام الشافعي وكان وراءه : يا هذا ، هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك ؟ قال : من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا محمد بن إدريس ، قال : كيف أرضى عن الله ، وأن أتمنى رضاه ؟ قال : يا هذا ، إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله .
لذلك ينبغي أن تعلم علم اليقين أن الذي لم تكن فيه مخيراً ، كونك ذكراً أو أنثى ، والذي لم تكن فيه مخيراً في أمك وأبيك ، وفي بلدتك ، وفي زمن ولادتك ، وفي شكلك ، وفي قدراتك العامة ، هو أفضل شيء لك ، ولكن بحسب ما أعده الله لك من سعادة أبدية .
أيها الإخوة ، تفيد أوثق الروايات التي ذكر مولده صلى الله عليه وسلم أنه ولد في 12 من شهر ربيع الأول من عام الفيل ، بالمناسبة كل 365 سنة يأتي يوم الاثنين موافقاًَ لـ 12 من ربيع الأول ، ونحن في هذا العام كان يوم الاثنين كان موافقاً لـ 12 من ربيع الأول ، أن يأتي الـ 12 من ربيع يوم الاثنين هذا كل 365 عام ، وهناك شيء بالسيرة اسمه الإرهاص ، يعني علامة مبكرة .
ولد عليه الصلاة والسلام في عام الفيل ، حينما توجه أبرهة الأشرم إلى مكة المكرمة ، وإلى الكعبة ليهدمها ، والقصة عندكم معروفة ، حينما قال أبو طالب : إن للبيت رباً يحميه ، أنا أقول لكم الآن قياساً على هذه المقولة : لا تقلق على هذا الدين ، إنه دين الله ، والله عز وجل يتولى حمايته ، ولن تستطيع قوة في الأرض مهما طغت وبغت أن تفسد على الله هدايته لخلقه .
( سورة التوبة الآية : 32 ) .
بربكم لو أن واحداًُ من الناس توجه إلى الشمس ، ونفخ فيها كي يطفئها ، أين مكانه الصحيح ؟ في مستشفى المجانين ، هؤلاء الطرف الآخر يريدون لطفئوا نور الله بأفواههم ، إذا كانت نفخت من الفم لا تفعل شيئاً في ضوء الشمس ، فكيف بنور الله عز وجل ؟
( سورة الصف الآية : 8 ) .
( سورة الأنفال الآية : 36 ) .
( سورة آل عمران الآية : 12 ) .
( سورة الأعراف الآية : 128 ) .
أنت تريد ، وأنا أريد ، والله يفعل ما يريد ، لا تقلقوا على هذا الدين ، إنه دين الله ، ولكن يجب أن نقلق على أنفسنا ، ما إذا سمح الله لنا أو لم يسمح أن نكون جنوداً لهذا الدين ، وهو شرف عظيم .
شيء آخر ، صح أن ثويبة مولاة أبي لهب أرضعته صلى الله عليه وسلم ، وثبت أن عمه حمزة بن عبد المطلب كان أخاه من الرضاعة ، وصح أيضاً أن حليمة السعدية أرضعته ، وعاش معها في البادية ، وقد حدثت معجزة شق الصدر ، لا بد من تمهيد لهذه الحادثة .
النص أيها الإخوة ، أو الواقعة ترتدي ثوباً ، فنحن نقبل النص أو الواقعة بثوب معين ، ونرفضها أو نرفض النص بثوب آخر ، مثلاً : لو قال أحدنا : لله رجال ، إذا أرادوا أراد ، إن ألبست هذا النص ثوب أن هؤلاء الرجال لهم إرادة مستقلة عن إرادة الله فهو الشرك بعينه ، بل الكفر بعينه ، وإذا قصدت من هذا النص ؛ أي ألبسته ثوباً خصائصه أنهم رجال مستجابو الدعوة ، فلا شيء في ذلك ، الآن إذا توهمنا أن شق الصدر معناه أن الله نزع من قلب النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الملكين حظ الشيطان فكان نبياً ـ هنا مشكلة ـ قد يأتي إنسان ، ويقول : لو أن الشر علقة سوداء في قلب كل إنسان لمَ لمْ تنزع من كل البشر ، وكلهم إلى الجنة ، بل لمَ وضعت أصلاً ، أما حينما تفهم شق الصدر إرهاصاً فهي معجزة مبكرة ، ودليل مبكر ، له معنى ، ليس غير فهذه الحادثة في هذه الشروح ، وفي هذا التوضيح ، هي إرهاص من إرهاصات النبوة ، فهذا الإنسان الذي ولدته السيدة مريم الصّديقة ، وكلم أمه :
( سورة مريم ) .
هل نسمي هذا معجزة ؟ هذا نسميه إرهاصًا ، حينما يكبر ويرسله الله نبياً كلامه في المهد إشارة مبكرة إلى نبوته ، وشق صدر النبي صلى الله عليه وسلم إشارة مبكرة إلى نبوته ، ومعنى ذلك أن في النبوة شيئاً ، اختارهم الله على علم ، شيئاً منهم ، وفي النبوة شيء آخر وهبي ، فشق الصدر من الوهبيات ، أما محبة رسول الله ، وإقباله على الله ، وإخلاصه وخدمته للخلق هذا من المؤهلات ، في النبوة مؤهلات ، وفي بالنبوة وهبيات ، على كلٍ دليل الوهبيات :
( سورة آل عمران ) .
هذا دليل مؤهلات ، اصطفاهم الله على علم ، إن الله اختارني ، واختار لي أصحابي ، كل هذه النصوص تؤكد المؤهلات التي يتمتع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما شق الصدر ، والمعجزات ، والوحي ، والذاكرة التي لا تنسى ، فهذه كلها من الوهبيات التي هي أدوات تعريف ، وأدوات التبليغ والرسالة .
أما النص ، نص شق الصدر فعن أنس بن مالك فيما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرابعة من عمره أتاه جبريل ، وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه ، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة ، فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم ، ثم أعاده إلى مكانه ، وجاء الغلمان يسعونه إلى أمه أي حليمة السعدية ، فقالوا : إن محمدًا قد قتل ، فاستقبلوه ، وهو منتقع اللون ، وقال أنس : وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما شق الصدر الثاني فكان ليلة الإسراء .
أيها الإخوة ، إذاً ولد قبل أن يرى أباه ، لكن أمه توفيت بالأبواء بين مكة والمدينة ، وهو في السادسة من عمره ، وقد ترك يتم النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه أعمق الأثر ، فكان قد ولد يتيم الأب ، ثم فقد أمه في طفولته ، لكن جده عبد المطلب كفله ورعاه ، غير أن جده ما لبث أن توفي بعد أن أوصى ولده أبا طالب برعايته ، وكان قد بلغ الثامنة ، ولد لا يعرف أباه ، في السادسة توفيت أمه ، في الثامنة توفي جده ، وقد وردت روايات كثيرة تفيد عطف أبي طالب عليه ، وتعلقه به ، ومما يدل على شدة محبة أبي طالب إياه أنه صحبه في رحلته إلى الشام ، ولعل ضيق حال أبي طالب قد دفعه إلى العمل بمساعدته ، فرعى له غنمه كما رعى لأهل مكة على قراريط ، الآن الأنبياء من خصائصهم في القرآن :
( سورة الفرقان الآية : 20 ) .
وأكل الطعام دليل قطعي على أن وجودهم ليس ذاتياً ، الإنسان يستمد في الطعام والشراب قدرته على الحركة ، إذاً هو مخلوق ، إذاً هو مفتقر إلى الطعام والشراب ، النبي مفتقر في وجوده ، وفي استمرار وجوده إلى الطعام والشراب ، إذاً ليس إلهاً ، هو مفتقر مرة ثانية إلى تحصيل ثمن الطعام والشراب ، إذاً كانوا ﴿ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ ، هذا دليل أنهم بشر ، والمقولة التي أرددها كثيراً ، لولا أن النبي بشر ، تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر ، كانوا ﴿ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ .
الآن ربنا عز وجل خلق فينا حاجات ، خلق فينما حاجة إلى الطعام والشرب حفاظاً على الفرد ، وخلق فينا حاجة إلى المرأة حفاظاً على النوع ، وخلق فينا حاجة لتأكيد الذات حفاظاً على ، هذه الحاجات الأساسية تدفعنا إلى العمل ، ولولا هذه الحاجات لما رأيت شيئاً على وجه الأرض ، لما رأيت مسجداً ، ولا بناء ، ولا جسراً ، ولا رأيت زراعة ، ولا صناعة ، ولا اختراعاً ، ولا آلة ، لا ترى شيئاً ، فالله عز وجل قهرنا بالعمل عن طريق هذه الحاجات ، الحاجة إلى الطعام والشراب ، والحاجة إلى الزواج ، والحاجة إلى تأكيد الذات .
الآن وأنت تعمل من أجل أن تكسب مالاً كي تأكل تمتحن ، قد تكون صادقاً أو كاذباً ، منصفاً أو جاحداً ، عفيفاً أو غير عفيف ، مخلصاً أو خائناً ، أنت من خلال العمل تمتحن ، لكن حرفة الإنسان ، أي عمله يمكن أن تكون عبادة من أرقى العبادات ، لكن العلماء قالوا : العمل إذا كان في الأصل مشروعاً ، وسلكت فيه الطرق المشروعة ، وأردت منه كفاية أهلك ونفسك ومن تعول ، وأردت منه أيضاً خدمة المسلمين ، ولم يشغلك عن فريضة ، ولاعن واجب ديني انقلب العمل إلى عبادة ، لذلك قالوا : عادات المؤمن عبادات ، وعبادات المنافق سيئات ، لأنه يرائي بها ، بينما عادات المؤمن كسبه للمال وحرفته .
مرة ثانية إذا كانت حرفته مشروعة في أصل الشرع ، وسلك فيها الطرق مشروعة ، وأراد منها كفاية نفسه وأهله ، وخدمة المسلمين ، ولم تشغله عن واجب ، ولا عن فريضة ، ولا عن عمل صالح ، ولا عن طلب علم ، انقلبت هذه الحرفة إلى عبادة .
أيها الإخوة ، لكن أوثق شيء بالإنسان حرفته وزوجته ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام : (( إن روح القدس نفث في روعي إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب )) .
[أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة والحاكم عن ابن مسعود ] .
(( واستجملوا مهنكم )) .
هنيئاً لمن كانت حرفته متوافقة مع منهج الله ، والويل لما بنيت حرفته على إيذاء المسلمين ، أو على إلقاء الرعب في قلوبهم ، أو على بضاعة محرمة ، أو على سلوك فيه معصية ، فإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك ، وكل إنسان ، وأنا أنصح الشباب : اختر حرفة ترضي الله تسعد بها ، واختر زوجة ترضي الله تسعد بها .
أيها الإخوة ، النبي صلى الله عليه وسلم أضحى يعيش في كنف عمه أبي طالب ، لكن أبا طالب كان فقيراً ، فكان عليه الصلاة والسلام يساعده برعي الغنم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام إذا سئل : (( ما بعث اللَّه نبياً إلا رعى الغنم ، فقال أصحابه : وأنت ؟ قال : نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة )) .
[ رَوَاهُ البُخَارِيّ عن أبي هريرة ] .
فالعمل شرف ، وأن تضيء شمعة أفضل من أن تلعن الظلام ألف مرة ، والنبي عليه الصلاة والسلام علمنا أشياء كثيرة ، جاءه أنصاري يسأله مالاً ، فقال : أعندك شيء ؟ قال : عندي قعب والحلس ، يعني إناء وقطعة قماش ، وليس عندي غير هاتين ، قال ائتني بهما ، فعرض الحاجتين على أصحابه ، قال : من يشتري هذه ؟ فقال صحابي : أنا أشتريها بدرهم ، قال : من يزيد على ذلك ؟ قال صحابي آخر : أنا أشتريها بدرهمين ، فباع النبي الحلس بدرهمين ، وجاء بصاحبيهما ، وقال : خذ الدرهمين فاشترِ طعام بدرهم قدمه لأهلك ، واشترِ بدرهم آخر قدوماً ، وائت إلي ، فشد النبي عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة عصاً لهذا القدوم ، وقال : اذهب ، واحتطب ، ولا أرينك لخمسة عشر يوماً ، وجاء بثماني دراهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : هذا خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك .
أخوانا الكرام ، الحقيقة دقيقة جداً : (( ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر )) .
[أخرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري ولمسلم وأبي داود نحوه من حديث أبي هريرة ] .
النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق كان يرعى الغنم ، أنا لا أعتقد أن هناك حرفة من حيث دخلها ، ومن حيث بساطتها ، ومن حيث مكانتها أقل من رعي الغنم ، هل رأيتم راعي غنم يعطيك بطاقة فيها عنوانه ، وهواتفه ، وموقعه على الانترنيت ؟ تحيل ! أقل حرفة على وجه الأرض أن ترعى الغنم ، وهذا وسام شرف للنبي ، لا تخجل من أية حرفة ما دامت شريفة ، لا تخجل من أي عمل ما دمت تبتغي به وجه الله ، لا تخجل من عمل تكسب منه رزقك ، ولكن اخجل من معصية ، أو اخجل من مذلة ، أو اخجل أن تكن يدك هي السفلى ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام رأى شاباً في وقت العمل يقرأ القرآن ، قال من يطعمك ؟ قال : أخي ، قال : أخوك أعبد منك ، وأمسك بيد عبد الله بن مسعود ، وكانت خشنة من العمل ، فرفعها ، وقال : هذه اليد يحبها الله ورسوله .
وكان عمر رضي الله عنه يقول : " إني أرى الرجل لا صنعة له فيسقط من عيني "
.
فلذلك المؤمن يعمل ، ويعمل بتفوق ، وأقول لكم هذه الكلمة ، واحفظوها عني الآن لأسباب كثيرة : إن لم تكن متفوقاً في دنياك لا يحترم دينك ، لأن القوي في كل شيء لا يفهم إلا لغة القوة ، لكن قد يكون إنسان له شأن عند الله كبير ، والدليل : (( رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره )) .
[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة ] .
ولكن من أجل أن تنصر هذا الدين يجب أن تكون متفوقاً في اختصاصك ، وفي حرفتك ، وفي صنعتك ، إن كنت طالباً كن الأول ، وإن كنت صانعاً فكن متقناً صنعتك ، وإن كنت تاجراً فكن تاجراً كما وصف النبي التجار ، لأنهم يحشرون من النبيين والصديقين .
(( إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يطروا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا )) .
[ رواه الحكيم عن معاذ ] .
أيها الإخوة الكرام ، هناك من يرى أن رعي الغنم حرفة فيها صفاء ، وفيها هدوء ، وفيها تأمل ، وفيها تفكر ، إنسان إذا كان في عمله ، بمكان هادئ ، وبعيد عن الضجيج ، وعن المدينة ، وعن النساء الكاسيات العاريات ، في شوراع بدمشق فيها كل المعاصي والآثام ، وفي أماكن عمل بعيدة ، لكن فيها راحة نفسية ، فيها هدوء ، فاختر حرفة ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( يُوشِكُ أنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِمِ غَنَماً يَتّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ المَطَرِ يَفِرّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ )) .
[ رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري ] .
هناك مهن متعلقة بالنساء الكاسيات العاريات ، هذه مهن مظنة فتنة وفساد ، وانحراف ، وفي مهن قد تكون خشنة لكنها أصفى للنفس ، وأحظى للعبد عند ربه ، فلذلك أيها الإخوة حرفتك مهمة جداً ، لأنها ألصق شيء بك ، وكذلك زوجتك هي ألصق شيء بك .
وشهد النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه حين بلغ العشرين من عمره حلف الفضول ، الذي تداعى زعماء قريش لعقده وتواثقوا بينهم ، ألا يجدوا بمكة مظلوماً إلا نصروه ، ولا صاحب حق مسلوب إلا أعادوا إليه حقه ، هم مشركون ، عبّاد أوثان ، لكمهم أرادوا إحقاق الحق ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : (( خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا )) .
[ رواه البخاري عن أبي هريرة ] .
وحينما أسلم أحد أصحاب النبي قال له يا فلان : (( أسلمت على ما أسلفت من خير )) .
[ متفق عليه ] .
هذا ماذا يدلنا ؟ على أنك إذا ذهبت إلى بلاد الغرب ، ورأيت نظاماً اقتبسه ، رأيت ضماناً صحيحاً اقتبسه ، رأيت خدمة للإنسان اقتبسها ، لا تكن مغلق العقل ، فالنبي عليه الصلاة والسلام شهد حلف الفضول ، ولهذا الحلف قصة قصته :
أن رجلاً من زبيد باع سلعة للعاص بن وائل السهمي ، فمطله في الثمن ، فشكا الزبيدي إلى قبائل قريش والأحلاف ، فلم يلتفتوا إليه ، فوقف عند الكعبة ، وأنشد بأعلى صوته قائلاً :
يا آل فهر لمظلوم بضاعتــه ببطن مكة نائي الدار والنفــر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن أثت كرامتــه ولا حرام لثوب الفاجر الغــدر
فأثر هذا الشعر نخوة الزبير بن عبد المطلب عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فنادى زعماء قريش ، فاجتمع بنو هاشم ، وبنو عبد المطلب ، وبنو أسد ، وبنو زهرة ، وبنو تميم في دار عبد الله بن جدعان ، وتم عقد هذا الحلف الذي حضره محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ، وقد أشاد به بعد نبوته ، من هنا قال بعض العلماء : الدنيا تصلح ـ دققوا في هذا الكلام ـ الدنيا لا الآخرة تصلح بالكفر والعدل ، ولا تصلح بالإيمان والظلم " ، من هنا قال العالم نفسه : إن الله ينصر الأمة الكافرة العادلة على الأمة المسلمة الظالمة " ، من هنا طريق النصر : (( فإنما تنصرون ، وترزقون بضعفائكم )) .
[ رواه أبو داود بإسناد جيد عن أبي الدرداء عويمر ] .
الضعيف ينبغي أن تطعمه إن كان جائعاً ، أن تكسوه إن كان عارياً ، أن تعلمه إن كان جاهلاً ، أن تعالجه إن كان مريضاً ، أن تؤويه إن كان مشرداً ، أن تنصفه إن كان مظلوماً ، حتى نستحق نصر الله عز وجل .
فلذلك هناك ملمح كبير جداً في أن النبي عليه الصلاة والسلام حضر حلف الفضول ، وأشاد به بعد بعثته ، إذاً الشيء الصح من الطرف الآخر نأخذه ، أنت إذا التقيت مع الطرف الآخر ليكن عقلك مفتوحاً ، في ميزات كبيرة جداً نجدها في العالم الغربي ، لذلك قال بعض العلماء : " إن ثقافة أي أمة ملك البشرية جمعاء ، لأنها بمثابة عسل استخلص من زهرات مختلف الشعوب على مر الأجيال ، وهل يعقل إذا لدغتنا جماعة من النحل أن نقاطع العسل الذي استخلص من زهراتنا " .
لذلك سئل أحد المفكرين : ماذا نأخذ وماذا ندع من حضارة الغرب ؟ قال : نأخذ ما في رؤوسهم ، وندع ما في نفوسهم ، إحساسنا ملكنا ، وإحساسهم ملكهم ، والمعرفة قدر مشترك بين كل الشعوب .
فأنت حينما ترى شيئاً إيجابياً في العالم الغربي ينبغي أن تأخذه ، وأنم تقتبسه فالنبي عليه الصلاة والسلام أثنى على حلف الفضول بعد بعثته ، وحضره قبل البعثة .
وهناك حلف آخر هو حلف المطيبين ، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن شهود هذا الحلف ، وأثنى عليه بقوله صلى الله عليه وسلم : (( شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأن غلام فما أحب أن لي حمر النعم وإني أنكثه )) .
[ رواه بشر بن المفضل عبد الرحمن بن عوف ] .
إذاً شهد حلفين حلف الفضول ، وحلف المطيبين ، قبل البعثة ، وأثنى عليهما بعد البعثة ، الإنسان هو الإنسان ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : (( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " ـ " لأتمم مكارم الأخلاق )) .
[ رواه أحمد عن أبي هريرة ] .
أي شيء جيد نأخذه عن الآخرين ، ونتقوى به ، نحن حينما نقاطع دولة معادية أو تعين أعداءنا يجب أن نقاطع بضائعها الاستهلاكية ، أما برامجها ، وإنجازاتها العلمية ينبغي ألا نقاطعها ، هذه نقوي بها المسلمين .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن نتابع هذا الدرس في الأسبوع القادم .
والحمد لله رب العالمين