سورة الواقعة
قيام القيامة، وحال المطيعين والعاصين
إثابة السابقين بجنات النعيم
أحوال أصحاب اليمين في الجنة
أنواع عذاب أهل الشمال في الآخرة
أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء
إثبات صدق القرآن، وتوبيخ المشركين على فساد اعتقادهم
بَين يَدَي السُّورَة
* تشتمل هذه السورة الكريمة على أحوال يوم القيامة، وما يكون بين يدي الساعة من أهوال، وانقسام الناس إِلى ثلاث طوائف (أصحاب اليمين، أصحاب الشمال، السابقون).
* وقد تحدثت السورة عن مآل كل فريق، وما أعده الله تعالى لهم من الجزاء العادل يوم الدين، كما أقامت الدلائل على وجود الله ووحدانيته، وكمال قدرته في بديع خلقه وصنعه، في خلق الإِنسان، وإِخراج النبات، وإِنزال الماء، وما أودعه الله من القوة في النار .. ثم نوّهت بذكر القرآن العظيم، وأنه تنزيل رب العالمين، وما يلقاه الإِنسان عند الاحتضار من شدائد وأهوال.
* وختمت السورة بذكر الطوائف الثلاث وهم أهل السعادة، وأهل الشقاوة، والسابقون إلى الخيرات من أهل النعيم، وبيّنت عاقبة كل منهم، فكان ذلك كالتفصيل لما ورد في أول السورة من إجمال، والإِشادة بذكر مآثر المقربين في البدء والختام.
فـضـــلـهَا: أ- عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً).
ب- وأخرج الحافظ ابن عساكر في ترجمة (عبد الله بن مسعود) بسنده عن أبي ظبية قال: "مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيبُ أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً) فكان أبو ظبية لا يدعها".
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجًّا(4)وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا(5)فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا(6)وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً(7)فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(8)وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ(9)وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(12)}
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي إِذا قامت القيامة التي لا بد من وقوعها، وحدثت الداهية الطامة التي ينخلع لها قلب الإِنسان، كان من الأهوال ما لا يصفه الخيال، قال البيضاوي: سميت واقعة لتحقق وقوعها، وقال ابن عباس: الواقعة اسم من أسماء القيامة كالصاخة والآزفة والطامة، وهذه الأشياء تقتضي عظم شأنها {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي لا يكون عند وقوعها نفس كاذبة تكذِّب بوقوعها كحال المكذبين اليوم، لأن كل نفسٍ تؤمن حينئذٍ لأنها ترى العذاب عياناً كقوله تعالى {فلمَّا رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده} {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} أي هي خافضة لأقوام رافعةٌ لآخرين، تخفض أعداء الله في النار، وترفع أولياء الله في الجنة، قال الحسن: تخفض أقواماً إِلى الجحيم وإِن كانوا في الدنيا أعزة، وترفع آخرين إِلى أعلى عليين وإِن كانوا في الدنيا وضعاء .. ثم بيَّن تعالى متى يكون ذلك فقال {إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجًّا} أي زلزلت زلزالاً عنيفاً، واضطربت اضطراباً شديداً، بحيث ينهدم كل ما فوقها من بناء شامخ، وطودٍ راسخ، قال المفسرون: تُرجُّ كما يرجُّ الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها من بناء، وينكسر كل ما فيها من جبال وحصون {وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا} أي فتِّتت تفتيتاً حتى صارت كالدقيق المبسوس - وهو المبلول - بعد أن كانت شامخة {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} أي فصارت غباراً متفرقاً متطايراً في الهواء، كالذي يُرى في شعاع الشمس إِذا دخل النافذة فهذا هو الهباء، والمنبثُّ المتفرق، وهذه الآية كقوله تعالى {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} وقوله {وسُيّرت الجبالُ فكانت سراباً} {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} أي وكنتم - أيها الناس - أصنافاً وفرقاً ثلاثة "أهل اليمين، وأهل الشمال، وأهل السبق" فأما السابقون فهم أهل الدرجات العُلى في الجنة، وأما أصحاب اليمين فهم سائر أهل الجنة، وأما أصحاب الشمال فهم أهل النار، وهذه مراتب الناس في الآخرة، قال ميمون بن مهران: اثنان في الجنة وواحد في النار، ثم فصَّلهم تعالى بقوله {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}؟ استفهام للتفخيم والتعظيم أي هل تدري أيُّ شيء أصحاب الميمنة؟ من هم وما هي حالهم وصفتهم؟ إنهم الذين يؤتون صحائفهم في أيمانهم، فهو تعجيبٌ لحالهم، وتعظيم لشأنهم في دخولهم الجنة وتنعمهم بها {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}؟ أي هل تدري من هم؟ وما هي حالهم وصفتهم؟ إنهم الذين يؤتون صحائفهم بشمالهم، ففيه تعجيب لحالهم في دخولهم النار وشقائهم، قال القرطبي: والتكرير في {ما أصحابُ الميمنة} و {ما أصحاب المشأمة} للتفخيم والتعجيب كقوله {الحاقة ما الحاقة} وقوله {القارعةُ ما القارعة} وقال الألوسي: والمقصود التفخيم في الأول، والتفظيع في الثاني، وتعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل: فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال، وأصحاب المشأمة في غاية سوء الحال {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} هذا هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة أي والسابقون إِلى الخيرات والحسنات، هم السابقون إلى النعيم والجنات، ثم أثنى عليهم بقوله {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} أي أولئك هم المقربون من الله، في جواره، وفي ظل عرشه، ودار كرامته {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي هم في جنات الخلد يتنعمون فيها قال الخازن: فإِن قلت: لم أخَّر ذكر السابقين وكانوا أولى بالتقديم على أصحاب اليمين؟ قلت: فيه لطيفة وذلك أنَّ الله ذكر في أول السورة الأمور الهائلة عند قيام الساعة تخويفاً لعباده، فإِما محسنٌ فيزداد رغبةً في الثواب، وإمّا مسيء فيرجع عن إِساءته خوفاً من العقاب، فلذلك قدَّم أصحاب اليمين ليسمعوا ويرغبوا، ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا، ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجدوا ويجتهدوا.
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ(13)وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ(14)عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ(15)مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ(16)يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ(17)بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(18)لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ(19)وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ(20)وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ(21)وَحُورٌ عِينٌ(22)كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ(23)جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا(25)إِلا قِيلاً سَلامًا سَلامًا(26)}
{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} أي السابقون المقربون جماعة كثيرة من الأمم السالفة {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} أي وهم قليلٌ من هذه الأمة، قال القرطبي: وسمُّوا قليلاً بالإِضافة إِلى من كان قبلهم، لأن الأنبياء المتقدمين كانوا كثرة، فكثر السابقون إِلى الإِيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إِلى التصديق من أمتنا، قال الحسن: سابقو من مضى أكثر من سابقينا ثم تلا الآية وقيل: إِن المراد بقوله {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أول هذه الأمة، والآخرون المتأخرون من هذه الأمة، فيكون كلا الفريقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} أي جالسين على أسَّرة منسوجة بقضبان الذهب، مرصَّعة بالدر والياقوت، قال ابن عباس: { مَوْضُونَةٍ} أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} أي حال كونهم مضطجعين على تلك الأسرَّة شأن المنعَّمين المترفين {مُتَقَابِلِينَ} أي وجوه بعضهم إلى بعض، ليس أحد وراء أحد، وهذا أدخل في السرور، وأكمل في أدب الجلوس {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي يدور عليهم للخدمة أطفال في نضارة الصبا، لا يموتون ولا يهرمون، قال أبو حيان: وُصفوا بالخلد - وإِن كان كل من في الجنة مخلداً - ليدل على أنهم يبقون دائماً في سنِّ الولدان، لا يتحولون ولا يكبرون كما وصفهم جل وعلا {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} أي بأقداح كبيرة مستديرة لا عُرى لها {وَأَبَارِيقَ} جمع إِبريق أي وبأباريق لها عُرى تبرق من صفاء لونها {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي وكأسٍ من خمرٍ لذة جارية من العيون، قال ابن عباس: لم تعصر كخمر الدنيا بل هي من عيون سارحة، قال القرطبي:والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون، ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصرٍ وتكلف معالجة {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي لا تتصدع رؤوسهم من شربها {وَلا يُنزِفُونَ} أي ولا يسكرون فتذهب بعقولهم كخمر الدنيا، قال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السُّكرُ، والصُّداع، والقيءُ، والبول، وقد ذكر تعالى خمر الجنة ونزَّهها عن هذه الخصال الذميمة {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي ولهم فيها فاكهة كثيرة يختارون ما تشتهيه نفوسهم لكثرتها وتنوعها {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي ولحم طيرٍ مما يحبون ويشتهون، قال ابن عباس: يخطر على قلب أحدهم لحم الطير فيطير حتى يقع بين يديه على ما اشتهى مقلياً أو مشوياً وفي الحديث (إنك لتنظر إِلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً) قال الرازي: وقدَّم الفاكهة على اللحم لأن أهل الجنة يأكلون لا عن جوع بل للتفكه، فميلهم إِلى الفاكهة أكثر كحال الشبعان في الدنيا فلذلك قدمها {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي ولهم مع ذلك النعيم نساء من الحور العين، الواسعات العيون، في غاية الجمال والبهاء، كأنهن اللؤلؤ في الصفاء والنقاء، الذي لم تمسه الأيدي، قال ابن جزي: شبههن باللؤلؤ في البياض، ووصفه بالمكنون لأنه أبعد عن تغيير حسنه، وحين سألت "أم سلمة" رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه قال "صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي" {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي جعلنا لهم ذلك كله جزاءً لعملهم الصالح في الدنيا .. ثم أخبر تعالى عن كمال نعيمهم في الجنة فقال {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} أي لا يطرق آذانهم فاحشُ الكلام، ولا يلحقهم إِثمٌ مما يسمعون، قال ابن عباس: لا يسمعون باطلاً ولا كذباً {إِلا قِيلاً سَلامًا سَلامًا} أي إلا قول بعضهم لبعضٍ سلاماً سلاماً، يُحيي به بعضهم بعضاً ويفشون السلام فيما بينهم، قال أبو حيّان: والظاهر أنه استثناء منقطع لأنه لم يندرج في اللغو ولا في التأثيم، وقال أبو السعود: والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلّمون سلاماً بعد سلام، أو لا يسمع كلٌ منهم إِلا سلام الآخر بدءاً أو ردّاً.
{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ(27)فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ(28)وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ(29)وَظِلٍّ مَمْدُودٍ(30)وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ(31)وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ(32)لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ(33)وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ(34)إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً(35)فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا(36)عُرُبًا أَتْرَابًا(37)لأَصْحَابِ الْيَمِينِ(38)ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ(39)وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ(40)}
سبب النزول:
نزول الآية (27):
{وأصحاب اليمين ..}: أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا: لما سأل أهل الطائف الوادي يُحمى لهم، وفيه عسل، ففعل، وهو واد معجب، فسمعوا الناس يقولون: في الجنة كذا وكذا، قالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فأنزل الله: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود} الآيات.
نزول الآية (29):
{وطلح منضود}: أخرج البيهقي من وجه آخر عن مجاهد قال: كانوا يعجبون بوَجّ - واد مخصب في الطائف - وظلاله وطلحِه وسِدْرِه، فأنزل الله: {وأصحاب اليمين، ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود}.
ثم شرع في تفصيل أحوال الصنف الثاني وهم أصحاب اليمين فقال {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِين}؟ استفهام للتعظيم والتعجيب من حالهم أي ما أدراك من هم، وما هي حالهم؟ {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} أي هم تحت أشجار النبق الذي قطع شوكه، قال المفسرون: والسِّدرُ: شجر النبق، والمخضود الذي خُضد أي قُطع شوكه، وفي الحديث: (أن أعرابياً جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إن الله تعالى ذكر في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، فقال: وما هي؟ قال: السدر فإِن له شوكاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس اللهُ يقول {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ}؟ خضَدَ اللهُ شوكه فجعل مكان كل شوكةٍ ثمرة، وإِن الثمرة من ثمره تفتَّق عن اثنين وسبعين لوناً من الطعام، ما فيها لونٌ يشبه الآخر) {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} هو شجر المود ومعنى {مَنْضُودٍ} أي متراكم قد نُضد بالحمل من أسفله إِلى أعلاه {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} أي وظل دائم باقٍ لا يزول ولا تنسخه الشمس، لأن الجنة ظل كلها لا شمس فيها {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} وفي الحديث (إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم) {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وقال الرازي: ومعنى {مَمْدُودٍ} أي لا زوال له فهو دائم {أُكلُها دائم وظلُّها} أي دائم، والظلُّ ليس ظل الأشجار، بل ظل يخلقه الله تعالى {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} أي وماءٍ جارٍ دائماً لا ينقطع، يجري في غير أخدود، قال القرطبي: كانت العرب أصحاب بادية، والأنهار في بلادهم عزيزة، لا يصلون إِلى الماء إِلا بالدلو والرشاء، فوعدوا بالجنة بأسباب النزهة وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار وجريانها {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي وفاكهةٍ كثيرة متنوعة، ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم، لا تنقطع كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء، وليست ممنوعة عن أحد، قال ابن عباس: لا تنقطع إِذا جُنيت، ولا تتمنع من أحدٍ إِذا أراد أخذها وفي الحديث (ما قُطعت ثمرةٌ من ثمار الجنة إِلا عاد مكانها أخرى) {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي عالية وطيئة ناعمة وفي الحديث (ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمس مائة عام) قال الألوسي: ولا تستبعد هذا من حيث العروجُ والنزولُ، فالعالم عالم آخر فوق طور عقلك تنخفض للمؤمن إِذا أراد الجلوس عليها ثم ترتفع به، والله على كل شيء قدير {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} أي خلقنا نساء الجنة خلقاً جديداً، وأبدعناهن إِبداعاً عجيباً، قال في التسهيل: ومعنى إنشاء النساء أن الله تعالى يخلقهن في الجنة خلقاً آخر في غاية الحسن بخلاف الدنيا، فالعجوز ترجع شابة، والقبيحة ترجع جميلة، قال ابن عباس: يعني الآدميات العجائز الشمط خلقهن الله بعد الكبر والهرم خلقاً آخر {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} أي فجعلناهن عذارى، كلما أتاهنَّ أزواجهن وجدوهنَّ أبكاراً {عُرُبًا} جمع عروب وهي المتحببة لزوجها العاشقة له، قال مجاهد: هنَّ العاشقات لأزواجهن المتحببات لهم اللواتي يشتهين أزواجهن {أَتْرَابًا} أي مستويات في السنِّ مع أزواجهن، في سنّ أبناء ثلاث وثلاثين، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {إِنا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} فقال يا أم سلمة: هنَّ اللواتي قُبضن في الدنيا عجائز، شُمطاً، عُمشاً، رُمصاً، جعلهن الله بعد الكِبر أتراباً على ميلادٍ واحد في الاستواء) وفي الحديث أن امرأة عجوزاً جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: أُدع الله أن يُدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان إِن الجنة لا تدخلها عجوز، فولَّت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، فإِن الله تعالى يقول {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} {لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي أنشأنا هؤلاء النساء الأبكار لأصحاب اليمين ليستمتعوا بهنَّ في الجنة، ثم قال تعالى {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} أي هم جماعة من الأولين من الأمم الماضية، وجماعة من المتأخرين من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال أبو حيّان: ولا تنافي بين هذه الآية {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} وبين الآية التي سبقتها وهي قوله {وقليلٌ من الآخرين} لأن الثانية في السابقين فلذلك قال {وقليل من الآخرين} وهذه في أصحاب اليمين ولذلك قال {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ}.
{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ(41)فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ(42)وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ(43)لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ(44)إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ(45)وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ(46)وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(47)أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ(48)قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ(49)لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(50)ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ(51)لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ(52)فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(53)فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ(54)فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ(55)هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ(56)}
ثم شرع تعالى في بيان الصنف الثالث وهم أهل النار فقال {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} استفهام بمعنى التهويل والتفظيع والتعجيب من حالهم أي وأصحابُ الشمال - وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم - ما أصحاب الشمال؟ أي ما حالهم وكيف مآلهم؟ ثم فصَّل تعالى حالهم فقال {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} أي في ريح حارة من النار تنفذ في المسام، وماءٍ شديد الحرارة {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي وفي ظلٍ من دخان أسود شديد السواد {لا بَارِدٍ} أي ليس هذا الظل بارداً يستروح به الإِنسان من شدة الحر {وَلا كَرِيمٍ} أي وليس حسن المنظر يُسرُّ به من يستفيء بظله، قال الخازن: إِن فائدة الظل ترجع إِلى أمرين: أحدهما: دفع الحر، والثاني: حسن المنظر وكون الإِنسان فيه مكرماً، وظلُّ أهل النار بخلاف هذا لأنهم في ظل من دخان أسود حار .. ثم بيَّن تعالى سبب استحقاقهم ذلك فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أي لأنهم كانوا في الدنيا منعَّمين، مقبلين على الشهوات والملذات {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} أي وكانوا يداومون على الذنب العظيم وهو الشرك بالله، قال المفسرون: لفظ الإِصرار يدل على المداومة على المعصية، والحنثُ هو الذنب الكبير والمراد به هنا الكفر بالله كما قال ابن عباس {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي هل سنبعث بعد أن تصبح أجسادنا تراباً وعظاماً نخرة؟ وهذا استبعادٌ منهم لأمر البعث وتكذيب له {أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ}؟ تأكيدٌ للإِنكار ومبالغة فيه أي وهل سيبعث آباؤنا الأوائل بعد أن بليت أجسامهم وتفتَّتت عظامهم؟ {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي قل لهم يا محمد: إِن الخلائق جميعاً السابقين منهم واللاحقين، سيجمعون ويحشرون ليوم الحساب الذي حدَّده الله بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر {ذلك يومٌ مجموعٌ له الناس وذلك يومٌ مشهود * وما نؤخره إِلا لأجلٍ معدود} {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} أي ثم إنكم يا معشر كفار مكة، الضالون عن الهدى، المكذبون بالبعث والنشور، لآكلون من شجر الزقوم الذي ينبت في أصل الجحيم {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي فمالئون بطونكم من تلك الشجرة الخبيثة لغلبة الجوع عليكم {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} أي فشاربون عليه الماء الحار الذي اشتد غليانه {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} أي فشاربون شرب الإِبل العطاش، قال ابن عباس: الهيمُ الإِبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، وقال أبو السعود: إنه يسلط على أهل النار من الجوع ما يضطرهم إِلى أكل الزقوم الذي هو كالمُهل، فإِذا ملأوا منه بطونهم - وهو في غاية الحرارة والمرارة - سُلِّط عليهم العطش ما يضطرهم إِلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم وهي الإِبل التي بها الهيام وهو داء يصيبها فتشرب ولا تروى {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي هذه ضيافتهم وكرامتهم يوم القيامة، وفيه تهكم بهم، قال الصاوي: والنُزُل في الأصل ما يهيأ للضيف أول قدومه من التحف والكرامة، فتسمية الزقوم نُزلاً تهكم بهم.
{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ(57)أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ(58)ءأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ(59)نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ(60)عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ(61)وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ(62)أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ(63)ءأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ(64)لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلتُمْ تَفَكَّهُونَ(65)إِنَّا لَمُغْرَمُونَ(66)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(67)أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ(68)ءأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ(69)لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ(70)أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ(71) ءأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ(72)نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ(73)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ(74)}
{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي نحن خلقناكم أيها الناسُ من العدم، فهلاَّ تصدقون بالبعث؟ فإِن من قدر على البدء قادرٌ على الإِعادة {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} أي أخبروني عمَّا تصبُّونه من المنيّ في أرحام النساء {ءأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}؟ أي هل أنتم تخلقون هذا المنيَّ بشراً سوياً، أم نحن بقدرتنا خلقناه وصوَّرناه؟! قال القرطبي: وهذا احتجاج على المشركين وبيانٌ للآية الأولى والمعنى إِذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي نحن قضينا وحكمنا عليكم بالموت وساوينا بينكم فيه، قال الضحاك: ساوى فيه بين أهل السماء والأرض، سواء في الشريف والوضيع، والأمير والصعلوك {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي وما نحن بعاجزين {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي على أن نهلككم ونستبدل قوماً غيركم يكونون أطوع لله منكم كقوله تعالى {إن يشأ يُذهبكم ويأتِ بخلقٍ جديد} {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} أي ولسنا بعاجزين أيضاً أن نعيدكم يوم القيامة في خلقةٍ لا تعلمونها ولا تصل إِليها عقولكم، والغرضُ أن الله قادر على أن يهلكهم وأن يعيدهم وأن يبعثهم يوم القيامة، ففي الآية تهديد واحتجاج على البعث {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} أي ولقد عرفتم أن الله أنشأكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، فخلقكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة {فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} أي فهلا تتذكرون بأن الله قادر على إِعادتكم كما قدر على خلقكم أول مرة؟ {أولاَ يذكُر الإِنسان أنَّا خلقناه من قبل ولم يكُ شيئاً}؟! {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} هذه حجة أخرى على وحدانية الله وقدرته أي أخبرووني عن البذر الذي تلقونه في الطين {ءأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؟ أي أأنتم تنبتونه وتنشئونه حتى يكون فيه السنبل والحبُّ أم نحن الفاعلون لذلك؟ فإِذا أقررتم أن الله هو الذي يخرج الحبَّ وينبت الزرع، فكيف تنكرون إِخراجه الأموات من الأرض؟ {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} أي لو أردنا لجعلنا هذا الزرع هشيماً متكسراً لا ينتفع به في طعام ولا غيره، قال القرطبي: والحُطام الهشيم الهالك الذي لا يُنتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبههم بذلك على أمرين: أحدهما: ما أولاهم به من النعم في زرعهم ليشكروه الثاني: ليعتبروا في أنفسهم فكما أنه تعالى يجعل الزرع حُطاماً إِذا شاء، كذلك يهلكهم إِذا شاء ليتعظوا فينزجروا {فَظلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي فظللتم وبقيتم تتفجعون وتحزنون على الزرع مما حلَّ به وتقولون {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي إنا لمحمَّلون الغرم في إِنفاقنا حيث ذهب زرعنا وغرمنا الحبَّ الذي بذرناه {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي بل نحن محرومون الرزق، غرمنا قيمة البذر، وحُرمنا خروج الزرع {أفرأيتمُ الماءَ الذي تشربون} أي أخبروني عن الماء الذي تشربونه عذباً فراتاً لتدفعوا عنكم شدة العطش {ءأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} أي هل أنتم الذين أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون له بقدرتنا؟ قال الخازن: ذكَّرهم تعالى نعمته عليهم بإِنزال المطر الذي لا يقدر عليه إِلا اللهُ عز وجل {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} أي لو شئنا لجعلناه ماءً مالحاً شديد الملوحة لا يصلح لشرب ولا لزرع، قال ابن عباس: {أُجَاجًا} شديد الملوحة، وقال الحسن: مُرّاً زُعافاً لا يمكن شربه {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} أي فهلاّ تشكرون ربكم على نعمه الجليلة عليكم؟! وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا شرب الماء قال "الحمد لله الذي سقاناً عذباً فُراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أُجاجاً بذنوبنا" {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أي أخبروني عن النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب {ءأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} أي هل أنتم الذين خلقتم شجرها أم نحن الخالقون المخترعون؟ قال ابن كثير: وللعرب شجرتان: إِحداهما المرخُ، والأُخرى العُفار، إِذا أُخذ منهما غصنان أخضران، فحُك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار، وقيل: أراد جميع الشجر الذي توقد منه النار، لما روي عن ابن عباس أنه قال: ما من شجرة ولا عود إِلا وفيه النار سوى العُناب {نحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} أي جعلنا نار الدنيا تذكيراً للنار الكبرى "نار جهنم" إِذا رآها الرائي ذكر بها نار جهنم، فيخشى اللهَ ويخاف عقابه وفي الحديث (ناركم هذه التي توقدون جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم، فقالوا يا رسول الله: إِنْ كانت لكافية!! فقال: والذي نفسي بيده لقد فضّلت عليها بتسعة وتسعين جزءاً، كلهن مثل حرها) {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} أي ومنفعةً للمسافرين، قال ابن عباس: {لِلْمُقْوِينَ} المسافرين، وقال مجاهد: للحاضر والمسافر، المستمتعين بالنار من الناس أجمعين، قال الخازن: والمقوي النازلُ في الأرض القواء - وهي الأرض الخالية البعيدة عن العمران - والمعنى أنه ينتفع بها أهل البوادي والسُفَّار، فإِن منفعتهم أكثر من المقيم، فإِنهم يوقدون النار بالليل لتهرب السباع ويهتدي بها الضال إِلى غير ذلك من المنافع وهو قول أكثر المفسرين .. ولما ذكر دلائل القدرة والوحدانية في الإِنسان، والنبات، والماء، والنار، أمر رسوله بتسبيح الله الواحد القهار فقال {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فنزِّه يا محمد ربك عما أضافه إِليه المشركون من صفات العجز والنقص وقل: سبحان من خلق هذه الأشياء بقدرته، وسخَّرها لنا بحكمته، سبحانه ما أعظم شأنه، وأكبر سلطانه!! عدَّد سبحانه وتعالى نعمه على عباده، فبدأ بذكر خلق الإِنسان فقال {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} ثم بما به قوامه ومعيشته وهو الزرع فقال {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} ثم بما به حياته وبقاؤُه وهو الماء فقال {أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} ثم بما يصنع به طعامه، ويصلح به اللحوم والخضار وهو النار فقال {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} فيا له من إله كريم، ومنعمٍ عظيم!!
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ(79)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ(81)وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ(83)وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ(84)وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ(85)فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ(86)تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(87)فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ(88)فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ(89)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(90)فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(91)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ(92)فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ(93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ(94)إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ(95)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ(96)}
نزول الآية (75):
{فلا أقسم ..}: أخرج مسلم عن ابن عباس قال: مُطِر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر،قالوا: هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، فنزلت هذه الآيات: {فلا أقسم بمواقع النجوم} حتى بلغ {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} اللام لتأكيد الكلام وتقويته، وزيادة "لا" كثير في كلام العرب ومشهور قال الشاعر:
تذكرتُ ليلى فاعترتني صبابةٌ وكاد نياطُ القلب لا يتقطَّع
أي كاد يتقطع قال القرطبي: "لا" صلة في قول أكثر المفسرين والمعنى "فأقسم" بدليل قوله بعده {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} أي فأقسم بمنازل النجوم وأماكن دورانها في أفلاكها وبروجها {لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أي وإِن هذا القسم العظيم جليل، لو عرفتم عظمته لآمنتم وانتفعتم به، لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته تعالى أن لا يترك عباده سُدى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} هذا هو المقسم عليه، والمعنى أقسم بمواقع النجوم إِن هذا القرآن قرآن كريم، ليس بسحرٍ ولا كهانة وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم مجيد، جعله الله معجزة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو كثير المنافع والخيرات والبركات {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} أي في كتاب مصونٍ عند الله تعالى، محفوظ عن الباطل وعن التبديل والتغيير، قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ، وقال مجاهد: هو المصحف الذي بأيدينا {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} أي لا يمس ذلك الكتاب المكنون إِلا المطهرون، وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة من الشرك والذنوب والأحداث، أو لا يمسُّه إِلا من كان متوضئاً طاهراً، قال القرطبي: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا وهو الأظهر لقول ابن عمر "لا تمسَّ القرآن إلا وأنت طاهر" ولكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم "وألاَّ يمسَّ القرآن إِلا طاهر" {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي منزَّل من عند الله جل وعلا .. ثم لمَّا عظم أمر القرآن ومجَّد شأنه وبخ الكفار فقال {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} أي أفبهذا القرآن يا معشر الكفار تكذبون وتكفرون؟ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون برازقكم، وهو المنعم المتفضل عليكم؟ {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أي فهلاَّ إِذا بلغت الروح الحلقوم عند معالجة سكرات الموت {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي وأنتم في ذلك الوقت تنظرون إِلى المحتضر وما يكابده من شدائد وأهوال {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} أي ونحن بعلمنا واطلاعنا أقرب إِلى الميت منكم ولكنْ لا تعلمون ذلك، ولا تبصرون ملائكتنا الذين حضروه لقبض روحه، قال ابن كثير: ومعنى الآية ملائكتنا أقرب إِليه منكم ولكن لا ترونهم كما قال تعالى {حتى إِذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي فهلاَّ إِن كنتم غير مجزيين بأعمالكم كما تزعمون {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي تردون نفس هذا الميت إِلى جسده بعد ما بلغت الحلقوم، قال ابن عباس: {غير مدينين} أي غير محاسبين ولا مجزيين، قال الخازن: أجاب عن قوله {فلولا إِذا بلغت الحلقوم} وعن قوله {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} بجوابٍ واحد وهو قوله {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} ومعنى الآية: إن كان الأمر كما تقولون أنه لا بعث ولا حساب، ولا إِله يجازي، فهلاّ تردون نفس من يعزُّ عليكم إِذا بلغت الحلقوم؟ وإِذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إِلى غيركم وهو الله تعالى فآمنوا به .. ثم ذكر تعالى طبقات الناس عند الموت وعند البعث، وبيَّن درجاتهم في الآخرة فقال {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أي فأما إِن كان هذا الميت من المحسنين السابقين بالدرجات العلا، فله عند ربه راحة تامّة ورزق حسن وجنة واسعة يتنعم فيها، قال القرطبي: والمراد بالمقربين السابقون المذكورون في أول السورة {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي وأما إِن كان المحتضر من السعداء أهل الجنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي فسلامٌ لك يا محمد منهم، لأنه في راحةٍ وسعادة ونعيم {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} أي وأما إِن كان المحتضر من المنكرين للبعث، الضالين عن الهدى والحق {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي فضيافتهم التي يُكرمون بها أول قدومهم، الحميمُ الذي يصهر البطون لشدة حرارته، قال ابن جزي: النُزل أول شيءٍ يُقدم للضيف {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي ولهم إِصلاءٌ بنار جهنم وإِذاقة لهم من حرها {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي إِن هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من جزاء السابقين، والسعداء، والأشقياء لهو الحقُّ الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب، وهو عين اليقين الذي لا يمكن إِنكاره {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فنزِّه ربك عن النقص والسوء، وعمَّا يصفه به الظالمون، لما نزلت هذه الآية الكريمة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم).