سورة غافر
التسميَــة
مصدر إنزال القرآن، وحال المجادلين فيه
حال الملائكة الأطهار والمؤمنين الأبرار
أحوال الكفار يوم القيامة، والتذكير بقدرته تعالى
وصف يوم القيامة بأوصاف مخيفة
قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون
دفاع مؤمن آل فرعون عن موسى عليه السلام
تكبر فرعون بسؤاله عن إله موسى عليه السلام
متابعة الرجل المؤمن نصحه لقومه
مخاصمة الأسياد والاتباع في النار
نصرة الله لرسله على أعدائهم في الدنيا والآخرة
دلائل قدرته ووحدانيته
النهي عن عبادة غير الله، وبيان فضله على الإنسان
جزاء المجادلين بالباطل
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى
تذكير الله بنعمه
تهديد المكذبين المجادلين في ءايات الله
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة غافر مكية، وهي تُعنى بأمور العقيدة كشأن سائر السور المكية، ويكاد يكون موضوع السورة البارز هو المعركة بين "الحق والباطل" و"الهدى والضلال" ولهذا جاء جوُّ السورة مشحوناً بطابع العنف والشدة، وكأنه جو معركة رهيبة يكون فيها الطعن والنزال، ثم تسفر عن مصارع الطغاة فإِذا بهم حطام وركام.
* ابتدأت السورة الكريمة بالإِشادة بصفات الله الحسنى، وآياته العظمى، ثم عرضت لمجادلة الكافرين في ءايات الله، فمع وضوح الحق وسطوعه، جادل فيه المجادلون، وكابر فيه المكابرون.
* وعرضت السورة لمصارع الغابرين وقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلم يفلت منهم إنسان.
* وفي ثنايا هذا الجو الرهيب، يأتي مشهد حملة العرش، في دعائهم الخاشع المنيب.
* وتحدثت السورة عن بعض مشاهد الآخرة وأهوالها، فإِذا العباد واقفون للحساب، بارزون أمام الملك الديان، تغمرهم رهبة وخشوع، وإِذا القلوب لدى الحناجر تكاد لشدة الفزع والهول تنخلع، وفي ذلك الموقف الرهيب، واليوم العصيب، يلقى الإِنسان جزاءه إن خيراً فخير، وإِن شراً فشر.
* ثم يأتي الحديث عن قصة الإِيمان والطغيان، ممثلة في دعوة موسى عليه السلام لفرعون الطاغية الجبار، ففرعون يريد -بكبريائه وجبروته- أن يقضي على موسى وأتباعه خشية أن ينتشر الإِيمان بين الأقوام، وتبرز في ثنايا هذه القصة حلقة جديدة، لم تُعرض في قصة موسى من قبل، ألاَ وهي ظهور رجلٍ مؤمنٍ من آل فرعون يُخفي إِيمانه، يَصدع بكلمة الحق في تلطفٍ وحذر، ثم في صراحةٍ ووضوح، وتنتهي القصة بهلاك فرعون الطاغية الجبار بالغرق في البحر مع أعوانه وأنصاره، وبنجاة الداعية المؤمن وسائر المؤمنين.
* ثم تعرض السورة إلى بعض الآيات الكونية، الشاهدة بعظمة الله، الناطقة بوحدانيته وجلاله، الذي يشركون به ويكفرون بآياته، وتضرب مثلاً للمؤمن والكافر بالبصير والأعمى، فالمؤمن على نور من الله وبصيرة، والكافر يتخبط في الظلام.
* وتختم السورة الكريمة بالحديث عن مصارع المكذبين، والطغاة المتجبرين، ومشهد العذاب يأخذهم وهم في غفلتهم سادرون.
التسميَــة:
سميت "سورة غافر" لأن الله تعالى ذكر هذا الوصف الجليل - الذي هو من صفات الله الحسنى - في مطلع السورة الكريمة {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} وكرر ذكر المغفرة في دعوة الرجل المؤمن {وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} وتسمى سورة المؤمن لذكر قصة مؤمن آل فرعون.
{حم(1)تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2)غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3)مَا يُجَادِلُ فِي ءاياتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ(4)كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(5)وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(6)}
سبب النزول:
نزول الآية (4):
{مَا يُجَادِلُ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي ءاياتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: نزلت في الحارث بن قيس السهمي.
{حم} الحروف المقطَّعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وللإِرشاد على أن هذا القرآن المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} أي هذا القرآن تنزيلٌ من الله {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي العزيز في ملكه، العليم في خلقه {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} أي الذي يعفو عن ذنوب العباد، ويقبل توبة العصاة لمن تاب منهم وأناب {شَدِيدِ الْعِقَابِ} أي شديد العقاب لمن تكبر وطغى، وأعرض عن طاعة المولى {ذِي الطَّوْلِ} أي ذي الفضل والإِنعام {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا الله، ولا ربَّ في الوجود سواه {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي إليه وحده مرجع الخلائق فيجازيهم بأعمالهم، وإِنما قدَّم المغفرة والتوبة على العقاب، للإِشارة إلى سعة الفضل وأن رحمته سبقت عذابه، ثم لما ذكر أن القرآن هداية الله للعالمين، أعقبه بذكر المجادلين المعاندين فقال {مَا يُجَادِلُ فِي ءاياتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ما يدفع الحق ويجادل في هذا القرآن - بعد وضوح ءاياته وظهور إعجازه - إلا الجاحدون لآياتِ الله، المعاندون لرسله {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} أي فلا تغترَّ أيها العاقل بتصرفهم وتقلبهم في هذه الدنيا، بالمساكن والمزارع، والممالك والتجارات، فإِنهم أشقى الناس، وما هم عليه من النعيم متاعٌ قليل، وظلٌ زائل، فإِني وإِن أمهلتهم لا أهملُهم، بل آخذهم بعد ذلك النعيم أخذ عزيز مقتدر، قال ابن جزي: والآية تسليةٌ للنبي صلىالله عليه وسلم، ووعيدٌ شديد للكفار {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي كذَّب قبل كفار مكة أقوام كثيرون، منهم قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم ولم يقبلوا ما جاءوا به من عند الله كقوم عاد وثمود وفرعون وأمثالهم {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي وهمت كل أمةٍ من الأمم المكذبين أن يقتلوا رسولهم ويبطشوا به، قال ابن كثير: أي حرصوا على قتله بكل ممكن ومنهم من قتل رسوله {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أي جادلوا رسلهم بالباطل ليزيلوا ويبطلوا به الحق الواضح الجلي {فَأَخَذْتُهُمْ} أي فأهلكتهم إهلاكاً مريعاً {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} استفهام تعجيب أي فكيف كان عقابي لهم؟ ألم يكن شديداً فظيعاً؟ {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وكذلك وجبت كلمة العذاب على هؤلاء المكذبين من قومك، كما وجبت لمن سبقهم من الكفار {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} أي لأنهم أهل النار، قال الطبري: أي كما حقَّ على الأمم التي كذبت رسلها وحلَّ بها عقابي، كذلك وجبت كلمة العذاب على الذين كفروا بالله من قومك لأنهم أصحاب النار.
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(7)رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(8)وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)}
ثم ذكر تعالى حال الملائكة الأطهار، والمؤمنين الأبرار، بعد أن ذكر الكفار والفجار فقال {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي هؤلاء العباد المقربون - حملةُ العرش - ومن حول العرش من أشراف الملائكة وأكابرهم، ممن لا يُحصي عددهم إلا الله، هم في عبادة دائبة لله، ينزهونه عن صفات النقص، ويثنون عليه بصفات الكمال {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أي ويصدقون بوجوده تعالى، وبأنه لا إله لهم سواه، ولا يستكبرون عن عبادته، قال الزمخشري: فإِن قلت: ما فائدة قوله {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ولا يخفى أن حملة العرش وجميع الملائكة يؤمنون بالله؟ فالجواب أن ذلك إظهار لفضيلة الإِيمان وشرفه والترغيب فيه {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي وهم مع عبادتهم واستغراقهم في تسبيح الله وتمجيده، يطلبون من الله المغفرة للمؤمنين قائلين {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} أي يا ربنا وسعت رحمتُك وعلمك كل شيء، قال المفسرون: وفي وصف الله تعالى بالرحمة والعلم - وهو ثناءٌ قبل الدعاء - تعليمُ العباد أدب السؤال والدعاء، فهم يبدؤون دعاءهم بأدبٍ ويستمطرون إحسانه وفضله وإِنعامه {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي فاصفح عن المسيئين المذنبين، التائبين عن الشرك والمعاصي، المتبعين لسبيل الحق الذي جاء به أنبياؤك ورسلك {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي واحفظهم من عذاب جهنم {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم} أي أدخلهم جنات النعيم والإِقامة التي وعدتهم إياها {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي وأدخل الصالحين من الآباء والأزواج والأولاد في جنات النعيم أيضاً ليتم سرورهم بهم، قال ابن كثير: أي اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في الجنة بمنازل متجاورة {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي العزيز الذي لا يُغلب ولا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} هذا من تمام دعاء الملائكة أي احفظهم يا ربّ من فعل المنكرات والفواحش التي توبق أصحابها {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أي ومن حفظته من نتائجها وعواقبها يوم القيامة، فقد لطفت به ونجيته من العقوبة {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي وذلك الغفران ودخول الجنان، هو الظفر العظيم الذي لا ظفر مثله.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ(10)قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ(11)ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ(12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ ءاياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ(13)فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(14)رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ(15)يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(16)الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(17)}
ولما تحدث عن أحوال المؤمنين، ذكر شيئاً من أحوال الكافرين فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي تناديهم الملائكة يوم القيامة على جهة التوبيخ والتقريع: لبغض الله الشديد لكم في الدنيا أعظم من بغضكم اليوم لأنفسكم {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} أي حين كنتم تُدعون إلى الإِيمان فتكفرون كبراً وعتواً، قال قتادة: بغضُ الله لأهل الضلالة حين عُرض عليهم الإِيمان في الدنيا فأبوا أن يقبلوه، أكبرُ مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أي قال الكفار لما رأوا الشدائد والأهوال ربَّنا أمتَّنا مرتين، وأحييتنا مرتين {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} أي فاعترفنا بما جنيناه من الذنوب في الدنيا {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} أي فهل تردنا إلى الدنيا لنعمل بطاعتك؟ وهل تخرجنا من النار لنسلك طريق الأبرار؟ قال المفسرون: الموتةُ الأولى حين كانوا في العدم، والموتة الثانية حين ماتوا في الدنيا، والحياة الأولى حياة الدنيا، والحياة الثانية حياةُ البعث يوم القيامة، فهاتان موتتان وحياتان، وإِنما قالوا ذلك على سبيل التعطف والتوسل إلى رضى الله، بعد أن عاينوا العذاب، وقد كانوا يكفرون وينكرون، ولهذا جاء الجواب {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} أي ذلكم العذاب والخلود في جهنم بسبب كفركم وعدم إِيمانكم بالله، فإِذا دعيتم إلى التوحيد كفرتم {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} وإِن دعيتم إلى اللات والعزَّى وأمثالهما من الأصنام، آمنتم وصدَّقتم بألوهيتها {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} أي فالقضاء لله وحده، لا للأوثان والأصنام، ولا سبيل إلى نجاتكم، لأن الله هو المتعالي على خلقه، العظيم في ملكه الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد .. ولما ذكر تعالى ما يوجب التهديد الشديد للمشركين، أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته ليصير بمنزلة البرهان على عدم جواز عبادة الأوثان فقال {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ ءاياتِهِ} أي الله جل وعلا هو الذي يريكم أيها الناس دلائل قدرته الباهرة في مخلوقاته، في العالم العلوي والسفلي الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ} أي وينزِّل لكم من السماء المطر بهذه الآيات الباهرة، وما يتفكّر كل هذه النعم ويشكرها إلا من يرجع إلى الله بالتوبة والإِنابة، والعمل الصالح البعيد عن الرياء والنفاق {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي فاعبدوا الله أيها المؤمنون مخلصين له العبادة والطاعة ولا تعبدوا معه غيره {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} هذا للمبالغة أي اعبدوه وأخلصوا له قلوبكم، حتى ولو كره الكافرون ذلك، وغاظهم إخلاصهم وقاتلوكم عليه {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ } أي هذا الإله الذي تدعونه عظيم الشأن والسلطان، صاحب الرفعة والمقام العالي {ذُو الْعَرْشِ} أي صاحب العرش العظيم، لا شيء يشبهه من مخلوقات الله، قال ابن كثير: أخبر تعالى عن عظمته وكبريائه، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، وقد ذُكر أن العرش من ياقوتةٍ حمراء ولا يعلم سعته إلا الله، وقال أبو السعود: وكونُ العرش العظيم المحيط بأكناف العالم العلوي والسفلي، تحت ملكوته وقبضة قدرته، مما يقضي بكون علو شأنه وعظم سلطانه، في غايةٍ لا غاية وراءها {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي ينزل الوحي على من شاء من خلقه، ويختص بالرسالة والنبوة من أراد من عباده، وإِنما سمَّى الوحي روحاً لأنه يسري في القلوب كسريان الروح في الجسد، قال القرطبي: سمَّاه روحاً لأن الناس يحيون به من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} أي ليخوِّف الرسول العباد، ويذكّرهم بيوم المعاد، حيث يلتقون جميعاً ليحاسبوا على أعمالهم، ويلتقي الخلق بالخالق في ساعة الحساب، قال قتادة: يلتقي فيه أهل السماء بأهل الأرض، والخالق والخلق {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} أي يوم هم ظاهرون بادون للعيان، لا شيء يكنُّهم ولا يظلّهم ولا يسترهم من جبلٍ أو أكمةٍ أو بناء، لأنهم في أرض مستوية هي أرض المحشر {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} أي لا يخفى على الله شيء من أحوالهم وأعمالهم ولا من سرائرهم وبواطنهم، قال الصاوي: والحكمة في تخصيص ذلك اليوم - مع أن الله لا يخفى عليه شيء في سائر الأيام - أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان مثلاً لا يراهم الله، وفي هذا اليوم لا يتوهمون هذا التوهم {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟ أي ينادي الله سبحانه والناسُ بارزون في أرض المحشر: لمن المُلكُ اليوم؟ ويسكت الخلائق هيبةً لله تعالى وفزعاً، فيجيب تعالى نفسه قائلاً {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أي لله المتفرد بالملك، الذي قهر بالغلبة كل ما سواه، قال الحسن: هو تعالى السائل وهو المجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي في ذلك اليوم -يوم القضاء والفصل بين العباد - تُجازى كل نفسٍ بما عملت من خيرٍ أو شر {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} أي لا يُظلم أحد شيئاً، لا بنقص ثواب، ولا بزيادة عقاب {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي سريعٌ حسابه، لا يشغله شأنٌ عن شأن، فيحاسب الخلائق جميعاً في وقتٍ واحد، قال القرطبي: كما يرزقهم في ساعةٍ واحدة، يحاسبهم كذلك في ساعةٍ واحدة، وفي الخبر: "لا ينتصف النهارُ حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار".
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ(18)يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(20)أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ(21)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ(22)}
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ} أي خوّفهم ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة، قال ابن كثير: "الآزفة" اسم من أسماء القيامة، سميت بذلك لقربها كقوله تعالى {أزفت الآزفة} {إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} أي تكاد قلوبهم لشدة الخوف والجزع تبلغ الحناجر - وهي الحلوق - مكان البلعوم {كَاظِمِينَ} أي ممتلئن غماً وحسرةً شأن المكروب، قال في التسهيل: معنى الآية أن القلوب قد صعدت من الصدور لشدة الخوف حتى بلغت الحناجر، ويحتمل أن يكون ذلك حقيقةً أو مجازاً عبَّر به عن شدة الخوف، والحنجرة هي الحلق {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} أي ليس للظالمين صديقٌ ينفعهم {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي ولا شفيع يشفع لهم لينقذهم من شدة العذاب {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} أي يعلم جلَّ وعلا العين الخائنة بمسارقتها النظر إلى محرم، قال ابن عباس: هو الرجل يكون جالساً مع الناس، فتمرُّ المرأة فيسارقهم النظر إليها {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أي ويعلم السرَّ المستور تخفيه الصدور {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي يقضي ويحكم بالعدل {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي والذين يعبدونهم من دون الله من الأوثان والأصنام {لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أي لا حكم لهم أصلاً فكيف يكونون شركاء لله؟ قال أبو السعود: وهذا تهكّمٌبهم لأن الجماد لا يقال في حقه يقضي أو لا يقضي {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي هو السميع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ}؟ أي أولم يعتبر هؤلاء المشركون في أسفارهم بما يرون من آثار المكذبين {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} أي فينظروا ما حلَّ بالمكذبين من العذاب والنكال؟ فإِنَّ العاقل من اعتبر بغيره {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهمْ قُوَّةً} أي كانوا أشدَّ قوةً من هؤلاء الكفار من قومك {وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} أي وأقوى آثاراً في الأرض من الحصون والقصور والجند الأشداء، ومع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أهلكهم الله لما كذبوا الرسل {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكهم الله إهلاكاً فظيعاً بسبب إجرامهم وتكذيبهم رسل الله {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} أي وما كان لهم أحد يدفع عنهم عذاب الله، ولا يقيهم من عقابه .. ثم ذكر تعالى سبب عقابه لهم فقال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي ذلك العذاب بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالمعجزات الباهرات، والآيات الساطعات الواضحات {فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أي فكفروا مع هذا البيان والبرهان فأهلكهم الله ودمَّرهم {إِنَّهُ قَوِيٌّ} أي إنه تعالى قويٌ لا يُقهر، ذو قوة عظيمة وبأسٍ شديد {شَدِيدُ العِقَابِ} أي إنّ عذابه أليم لمن عصاه، أعاذنا الله من عقابه وأجارنا من عذابه.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(23)إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(24)فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ(25)وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ(26)وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ(27)}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} اللام موطئة للقسم أي والله لقد بعثنا رسولنا موسى بالآيات البينات، والدلائل الواضحات، وبالبرهان البيّن الظاهر وهو معجزة اليد والعصا {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} أي إلى فرعون الطاغية الجبار، ووزيره هامان، وقارون صاحب الكنوز والأموال، قال أبو حيّان: وخصَّ قارون وهامان بالذكر لمكانتهما في الكفر، ولأنهما أشهر أتباع فرعون {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أي فقالوا عن موسى إنه ساحر فيما أظهر من المعجزات، كذَّاب فيما ادعاه أنه من عند الله، وصيغة كذَّاب للمبالغة {فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا} أي فلما جاءهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقه، والتي أيَّده الله بها {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ} أي اقتلوا الذكور لئلا يتناسلوا، واستبقوا الإِناث للخدمة، قال الصاوي: وهذا القتلُ غيرُ الأول، لأن فرعون بعد ولادة موسى أمسك عن قتل الأولاد، فلما بُعث موسى وعجز عن معارضته أعاد القتل في الأولاد ليمتنع الناس من الإِيمان، ولئلا يكثر جمعهم فيكيدوه، فأرسل الله عليهم أنواع العذاب كالضفادع والقُمَّل والدم والطوفان، إلى أن خرجوا من مصر فأغرقهم الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أي وما تدبيرهم ومكرهم إلا في خسران وهلاك، لأن الله لا يوفّقهم فيما يكيدونه للمؤمنين {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} أي قال فرعون الجبار: اتركوني حتى اقتلْ لكم موسى {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} أي وليناد ربه حتى يخلصه مني، وإِنما ذكره على سبيل الاستهزاء وكأنه يقول: لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإِنه لا حقيقة له وأنا ربكم الأعلى، وغرضُه أن يوهمهم بأنه إِنما امتنع عن قتله رعايةً لقلوب أصحابه، قال أبو حيان: والظاهر أن فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبيٌ، وأن ما جاء به ءاياتٌ باهرة وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خبثٌ وجبروت وكان قتالاً سفاكاً للدماء لأهون شيء، فكيف لا يقتل من أحسَّ منه بأنه يهدّد عرشه ويهدم ملكه، ولكنه يخاف إن همَّ بقتله أن يُعاجل بالهلاك، وكان كلامه للتمويه على قومه وإيهامهم أنهم هم الذين يكفّونه، وما كان يكفُّه إلا شدةُ الخوف والفزع {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أي إني أخشى أن يغيّر ما أنتم عليه من عبادتكم لي إلى عبادة ربه {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} أي أو أن يثير الفتن والقلاقل في بلدكم، ويكون بسببه الهرجُ، وهذا كما قال المثل "صار فرعون واعظاً" {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي إني استجرتُ بالله واعتصمتُ به ليحفظني {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} أي من شر كل جبارٍ عنيد متكبر عن الإِيمان بالله، لا يصدِّق بالآخرة، قال في التسهيل: وإِنما قال {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} ولم يذكره باسمه ليشمل فرعون وغيره، وليكون فيه وصفٌ لغير فرعون بذلك الوصف القبيح.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(28)يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ(29)وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ(30)مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ(31)وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ(32)يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(33)وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ(34)الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ(35)}
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} قال المفسرون: كان هذا الرجل ابن عم فرعون وكان قبطياً يخفي إيمانه عن فرعون، فلما سمع قول الجبار متوعداً موسى بالقتل نصحهم بقوله {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ} استفهام إنكاري للتبكيت عليهم أي أتقتلون رجلاً لا ذنب له إلا لأجل أن قال: ربيَ الله من غير تفكرٍ ولا تأملٍ في أمره؟ {وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} أي والحال أنه قد أتاكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها من عند ربكم {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} أي إن كان كاذباً في دعوى الرسالة فضرر كذبه لا يتعداه، قال القرطبي: ولم يكن ذلك لشكٍ منه في رسالته وصدقه، ولكنْ تلطفاً في الاستكفاف، واستنزالاً عن الأذى {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي وإِن كان صادقاً في دعواه أصابكم بعضُ ما وعدكم به من العذاب {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} أي لا يوفق للهداية والإِيمان من هو مسرفٌ في الضلال، مبالغ في الكذب على الله، قال الإِمام فخر الدين الراي: وفي هذا إشارة إلى رفع شأن موسى لأن الله هداه وأيده بالمعجزات، وتعريضٌ بفرعون في أنه مسرفٌ في عزمه على قتل موسى، كذَّاب في إِقدامه على ادعاء الإِلهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يبطله ويهدم أمره، وقال أبو حيّان: هذا نوعٌ من أنواع علم البيان يسميه علماؤنا "استدراج المخاطب" وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، وقومه على تكذيبه، أراد الانتصار له بطريق يُخفي عليهم بها أنه متعصبٌ له، وأنه من أتباعه، فجاءهم بطريق النصح والملاطفة فقال {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} ولم يذكر اسمه بل قال رجلاً ليوهمهم أنه لا يعرفه، ثم قال {أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ} ولم يقل رجلاً مؤمناً بالله أو هو نبيُ الله، إذ لو قال ذلك لعلموا أنه متعصب ولم يقبلوا قوله، ثم أتبعه بقوله {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا} فقدَّم الكذب على الصدق موافقة لرأيهم فيه ثم تلاه بقوله {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا} ولم يقل هو صادق وكذلك قال {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} ولم يقل كلُّ ما يعدكم ولو قال ذلك لعلموا أنه متعصب له، وأنه يزعم نبوته وأنه يصدّقه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدِّق له وهو قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وفيه تعريضٌ بفرعون، إذ هو في غاية الإِسراف والكذب على الله، إذْ ادعى الألوهية والربوبية {يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} كرر النصح مع التلطف والمعنى: أنتم غالبون عالون على بني إسرائيل في أرض مصر قد قهرتموهم واستعبدتموهم اليوم {فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا} أي فمن ينقذنا من عذاب الله وينجينا منه إن قتلتم رسوله، قال الرازي: وإِنما قال {يَنصُرُنَا}و{جَاءنَا} لأنه كان يُظهر لهم أنه منهم، وأنَّ الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه .. وهنا تأخذ فرعون العزةُ بالإِثم، ويستبدُّ به الجبروت والطغيان {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} أي ما أشير عليكم برأيٍ سوى ما ذكرتُه من قتل موسى حسماً لمادة الفتنة {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي وما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الصواب والصلاح {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} أي أخشى عليكم مثل أيام العذاب التي عُذّب بها المتحزبون على الأنبياء {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} هذا تفسير للأحزاب أي مثل عادة قوم نوح وعاد وثمود وما أصابهم من العذاب والدمار بتكذيبهم لرسلهم {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي والمكذبين بعد أولئك كقوم لوط {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} أي لا يعاقب العباد بدون ذنب، قال الزمخشري: أي إن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وفيه مبالغة حيث جعل المنفي إرادة الظلم، ومن كان بعيداً عن إرادة الظلم، كان عن الظلم أبعد {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} خوَّفهم بعذاب الآخرة بعد أن خوفهم بعذاب الدنيا والمعنى إني أخاف عليكم من ذلك اليوم الرهيب يوم الحشر الأكبر، حيث ينادي المجرمون بالويل والثبور {دعوا هنالك ثُبُوراً} {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي تولون منهزمين من هول عذاب جهنم، قال المفسرون: إن الكفار إذا سمعوا زفير النار أدبروا هاربين، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة يتلقونهم يضربون وجوههم، فيرجعون إلى مكانهم فتتلقفهم جهنم {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي ليس لكم مانع ولا دافع يصرف عنكم عذاب الله {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن يضلله اللهُ فليس له من يهديه إلى طريق النجاة {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} أي ووالله لقد جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالمعجزات الظاهرات {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءكُمْ بِهِ} أي فلَم تزالوا شاكين في رسالته كافرين بما جاء به من عند الله، قال المفسرون: المراد ءاباؤكم وأصولكم {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} أي حتى إذا مات قلتم على سبيل التشهّي والتمني من غير حجة ولا برهان لن يأتي أحد يدعي الرسالة بعد يوسف، قال أبو حيان: وليس هذا تصديقاً لرسالة يوسف، كيف وما زالوا في شك منه، وإِنما المعنى لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق، ففيه نفي الرسول ونفي بعثته {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} أي مثل ذلك الضلال الفظيع يُضلُّ الله كل مسرفٍ في العصيان، شاكٍّ في الدين، بعد وضوح الحجج والبراهين {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} هذا من تتمة كلام الرجل المؤمن والمعنى الذين يجادلون في شريعة الله بغير حجة وبرهان جاءهم من عند الله {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي عظُم بغضاً عند الله وعند المؤمنين جدالُهم بغير برهان، قال أبو حيّان: عدل الواعظ عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب، لحسنِ محاورته لهم واستجلاب قلوبهم، لئلا يفجأهم بالخطاب، وفي قوله {كبُر مقتاً} ضربٌ من التعجب والاستعظام لجدالهم، كأنه خارج عن حدِّ أمثاله من الكبائر {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أي كما ختم على قلوب هؤلاء المجادلين كذلك يختم بالضلال على قلب كل متكبر عن الإِيمان، متجبرٍ على العباد، حتى لا يعقل الرشاد، ولا يقبل الحق، وإِنما وصف القلب بالتكبر والجبروت لكونه مركزهما ومنبعهما، وهو سلطان الأعضاء، فمتى فسد فسدت.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ(37)}
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أي قال فرعون لوزيره هامان ابن لي قصراً عالياً، وبناءً شامخاً منيفاً، قال القرطبي: لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فرعون أن يتمكن كلامه في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فأمر وزيره هامان ببناء الصرح {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي لعلي أصل وأنتهي إلى طرق السماوات وما يؤدي إليها، وكررها للتفخيم والبيان {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} أي فأنظر إلى إله موسى نظر عيان {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} أي وإِني لأعتقد موسى كاذباً في ادعائه أن له إلهاً غيري، قال أبو حيان: وبلوغُ أسباب السماوات غير ممكن، لكنَّ فرعون أبرزه في صورة الممكن تمويهاً على سامعيه، ولما قال {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} كان ذلك إقراراً بالإِله فلذلك استدرك هذا الإِقرار بقوله {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} أي ومثل ذلك التزيين زُيّن لفرعون عمله السيء حتى رآه حسناً {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} أي ومُنع بضلاله عن طريق الهدى {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ} أي وما تدبير فرعون ومكره إلا في خسار وهلاك، خسر ملكه في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بالخلود في النار.
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ(38)يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ(39)مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ(40)وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ(41)تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ(42)لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(43)فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(44)فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ(45)النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46)}.
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} كرَّر مؤمن آل فرعون نصحه لهم بعد تلك المراوغة التي لقيها من فرعون، ودعا قومه إلى الإِيمان بالله الواحد الأحد، وكشف لهم عن قيمة الحياة الزائلة، وشوَّقهم إلى نعيم الحياة الباقية، وحذَّرهم من عذاب الله، ومعنى الآية: امتثلوا يا قوم أمري واسلكوا طريقي أرشدكم إلى طريق الفوز والنجاة -طريق الجنة- {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أي ليست الدنيا إلا متاعاً زائلاً، لا ثبات له ولا دوام {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} أي وإِن الدار الآخرة هي دار الاستقرار والخلود، التي لا زوال لها ولا انتقال منها، فإِما خلود في النعيم، أو خلود في الجحيم، قال القرطبي: ومراده بالدار الآخرة الجنة والنار لأنهما لا يفنيان {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} أي من عمل في هذه الدنيا سيئةً فلا يعاقب في الآخرة إلا بمقدارها دون زيادة، رحمة منه تعالى بالعباد {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي ومن فعل في الدنيا العمل الصالح سواءً كان ذكراً أو أنثى بشرط الإِيمان {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي فأولئك المحسنون يدخلون جنات النعيم، ويعطون جزاءهم بغير تقدير، بل أضعافاً مضاعفة فضلاً من الله وكرماً، فقد اقتضى فضله تعالى أن تضاعف الحسناتُ دون السيئات، قال ابن كثير: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي لا يقدّر بجزاء، بل يثيبه الله ثواباً كثيراً عظيماً، لا انقضاء له ولا نفاد {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} ؟ أي ما لي أدعوكم إلى الإِيمان الموصل إلى الجنان، وتدعونني إلى الكفر الموصل إلى النار ؟ والاستفهام للتعجب كأنه يقول: أنا أتعجب من حالكم هذه، أدعوكم إلى النجاة والخير، وتدعونني إلى النار والشر؟ ثم وضَّح ذلك بقوله {تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أي تدعونني للكفر بالله، وأن أعبد ما ليس لي علمٌ بربوبيته، وما ليس بإِلهٍ كفرعون {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} أي وأنا أدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد، العزيز الذي لا يُغلب، الغفَّار لذنوب العباد {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أي حقاً إنما تدعونني لعبادته {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} أي لا يصلح أن يُعبد لأنه لا يستجيب لنداء داعيه، ولا يقدر على تفريج كربته لا في الدنيا ولا في الآخرة {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} أي وأن مرجعنا إلى الله وحده فيجازي كلاً بعمله {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} أي وأن المسرفين في الضلال والطغيان سيخلدَّون في النار {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} أي فستذكرون صدق كلامي عندما يحل بكم العذاب، وهو تهديد ووعيد {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ}أي أتوكل على الله، وأسلّم أمري إليه، قال القرطبي: وهذا يدل على أنهم هدَّدوه وأرادوا قتله {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أي مطلع على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} أي فنجاه الله من شدائد مكرهم، ومن أنواع العذاب الذي أرادوا إلحاقه به {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} أي ونزل بفرعون وجماعته أسوأ العذاب، وهو الغرق في الدنيا، والحرق في الآخرة، ثم فسَّره بقوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} أي النار يُحرقون بها صباحاً ومساء، قال المفسرون: المراد بالنار هنا نار القبر وعذابهم في القبور بدليل قوله بعده {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} أي ويوم القيامة يقال للملائكة: ادخلوا فرعون وقومه نار جهنم التي هي أشد من عذاب الدنيا.
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنْ النَّارِ(47)قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ(48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ(49)قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ(50)}
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} أي واذكر حين يختصم الرؤساء والأتباع في نار جهنم {فَيقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي فيقول الأتباع الضعفاء للرؤساء المستكبرين عن الإِيمان واتباع الرسل، إِنا كنا لكم في الدنيا أتباعاً كالخدم ننقاد لأوامركم، ونطيعكم فيما تدعوننا إليه من الكفر والضلال {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} ؟ أي فهل أنتم دافعون عنا جزءاً من هذا العذاب الذي نحن فيه؟ قال الرازي: علموا أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف، وإِنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل الرؤساء، وإِيلام قلوبهم، لأنهم سعوا في إيقاعهم في أنواع الضلالات {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} أي قال الرؤساء جواباً لهم: إنَّا جميعاً في نار جهنم، فلو قدرنا على إزالة العذاب عنكم لدفعناه عن أنفسنا {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} أي قضى قضاءً مبرماً لا مردَّ له، بدخول المؤمنين الجنة، والكافرين النار، فلا نستطيع أن نفعل لكم شيئاً {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} لما يئس أهل النار بعضهم من بعض التجأوا إلى حراس جهنم يطلبون منهم التخفيف، قال البيضاوي: وإِنما وضع جهنم موضع الضمير {لِخَزَنَةِ جهَنَّمَ} بدلاً من "لخزنتها" للتهويل والتفظيع {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} أي أدعوا لنا الله أن يخفف عنا ولو مقدار يوم واحد من العذاب {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؟ أي أجابتهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع: ألم تأتكم الرسل بالمعجزات الظاهرات فكفرتم بهم وكذبتموهم؟ {قَالُوا بَلَى} أي قال الكفار بل جاءونا {قَالُوا فَادْعُوا} أي قالت لهم الملائكة: فادعوا اللهَ أنتم فإِنا لا نجترئ على ذلك، قال الرازي: وليس قولهم {فَادْعُوا} لرجاء المنفعة، ولكنْ للدلالة على الخيبة، فإِن الملائكة المقربين إذا لم يُسمع دعاؤهم، فكيف يسمع دعاء الكفار؟ ثم يصرّحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم فيقولون {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أي دعاؤكم لا ينفع ولا يجدي لأن دعاء الكافرين ما هو إلا في خسار وتبار.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ(51)يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(52)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ(53)هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ(54)فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ(55)إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(56)}.
نزول الآية (56):
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا الدجال، فقالوا: يكون منا في آخر الزمان، فعظَّموا أمره، وقالوا: يصنع كذا ويملكون به الأرض، فأنزل الله: {فِي ءاياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال.
ومع أن الآية نزلت في مشركي مكة منكري البعث أو في اليهود كما تبين، فهي عامة في كل مجادل مبطل. لكن قال ابن كثير عما ذكره أبو العالية: وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم. والأصح أن الآية نزلت في المشركين والكفار عامة.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي ننصر الرسل والمؤمنين بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة المجرمين في هذه الحياة الدنيا {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} أي وفي الآخرة يوم يحضر الأشهاد الذين يشهدون بأعمال العباد، من مَلك ونبيٍ ومؤمن، قال الرازي: الآية وعدٌ من الله تعالى لرسوله بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} أي لا ينفع المجرمين اعتذارهم، قال ابن جرير: لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل {وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ} أي الطردُ من رحمة الله {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أي ولهم جهنم أسوأ مرجع ومصير، قال ابن عباس: {سُوءُ الدَّارِ} سوءُ العاقبة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} أي والله لقد أعطينا "موسى بن عمران" ما يُهتدى به في الدين، من المعجزات والصحف والشرائع {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} أي أورثناهم العلم النافع والكتاب الهادي وهو "التوراة" {هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} أي هادياً وتذكرةً لأصحاب العقول السليمة {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين، فإِن وعد الله لك ولأتباعك بالنصر على الأعداء، حقٌ لا يمكن أن يتخلف، لأن الله لا يخلف الميعاد، قال الإِمام فخر الدين الرازي: لما بيَّن تعالى أنه ينصر رسله، وضرب المثال في ذلك بحال موسى، خاطب بعده رسوله بقوله {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} والمراد أنَّ الله ناصرك كما نصرهم، ومنجزٌ وعده لك كما أنجزه في حقهم {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} أي واطلب المغفرة من ربك على ما فرط منك من ترك الأولى والأفضل، قال الصاوي: والمقصودُ من هذا الأمر تعليم الأمة ذلك، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم معصومٌ من الذنوب جميعاً، صغائر وكبائر قبل النبوة وبعدها على التحقيق، وقال ابن كثير: وهذا تهييجٌ للأمة على الاستغفار {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} أي ودمْ على تسبيح ربك في المساء والصباح، قال الرازي: والمرادُ منه الأمرُ بالمواظبة على ذكر الله، وألاَّ يفتر اللسان عنه، حتى يصبح في زمرة الملائكة الأبرار، الذين {يسبّحون الليلَ والنهار لا يفْتُرون} والمرادُ بالتسبيح تنزيهُ اللهِ على كل ما لا يليق به، ثم نبه تعالى إلى السبب الدافع للكفار إلى المجادلة بالباطل فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ} أي يخاصمون في الآيات المنزلة {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أي بلا برهانٍ ولا حجةٍ من الله {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ} أي ما في قلوبهم إلا تكبرٌ وتعاظم يمنعهم من اتباعك والانقياد إليك {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} أي ما هم بواصلين إلى مرادهم من إطفاء نور الله، ولا بمؤملين مقصدهم بالعلو عليك {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي فالتجئ وتحصَّنْ بالله من كيدهم، فإن الله يدفع عنك شرهم، لأنه هو السميعُ لأقوالهم العليمُ بأحوالهم.
{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(57) وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ(58)إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ(59)وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ(61)ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(62)كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(63)اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(64)هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(65)}.
ثم ذكر تعالى الدلائل الدالة على قدرته ووحدانيته فقال {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} اللام لام الابتداء أي لخلقُ الله للسماواتِ والأرضِ وإِنشاؤُهما وابتداعهما من غير شيء أعظم من خلق البشر، فمن قدر على خلقهما مع عظمهما كيف يعجز عن خلق ما هو أحقر وأهون؟ قال ابن جزي: والغرض الاستدلال على البعث، لأن الإِله الذي خلقَ السماواتِ والأرض على كبرها، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد فنائها {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك، لأنهم لا يتأملون لغلبة الجهل عليهم، وفرط غفلتهم واتباعهم لأهوائهم {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} أي لا يتساوى المؤمن والكافر {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ} أي ولا البرُّ والفاجر {قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} أي لا تتعظون بهذه الأمثال إلا قليلاً قال ابن كثير: والمراد أنه كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار، والكفرة الفجار، ما أقلَّ ما يتذكر كثيرٌ من الناس؟ {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} أي إن القيامة آتيةٌ لا محالة، لا شك في ذلك ولا مرية {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يصدقون بمجيئها، ولذلك ينكرون البعث والجزاء، قال الرازي: والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي ادعوني أجبْكم فيما طلبتم، وأعطكم ما سألتم، قال ابن كثير: ندب تعالى عباده إلى دعائه، وتكفَّل لهم بالإِجابة فضلاً منه وكرماً {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي إنَّ الذين يتكبرون عن دعاء الله سيدخلون جهنم أذلاء صاغرين .. ثم ذكر تعالى من آثار قدرته ووحدانيته، ما يلزم منه إفراده بالعبادة والشكر فقال {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي الله جل وعلا بقدرته وحكمته هو الذي جعل لكم الليل مظلماً لتستريحوا فيه من تعب وعناء العمل بالنهار، وجعل النهار مضيئاً لتتصرفوا فيه بأسباب الرزق وطلب المعاش {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي إنه تعالى متفضل على العباد، وهو صاحب الجود والإِحسان إليهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون الله على إحسانه، ويجحدون فضله وإِنعامه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي ذلكم المتفرد بالخلق والإِنعام هو الله ربكم، خالق كل الأشياء {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود في الوجود سواه {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تصرفون عن عبادة الخالق المالك إلى عبادة الأوثان؟ {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي كذلك يُصرف عن الهدى والحق الذين جحدوا بآيات الله وأنكروها، قال الصاوي: وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى لا تحزن يا محمد على إِنكار قومك فإِن من قبلهم فعل ذلك، ثم زاد في البيان ودلائل القدرة فقال {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا} أي جعلها مستقراً لكم في حياتكم وبعد مماتكم، قال ابن عباس: جعلها منزلاً لكم في حال الحياة وبعد الموت {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي وجعل السماء سقفاً محفوظاً، كالقبة المبنية مرفوعة فوقكم {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي صوَّركم أحسن تصوير، وخلقكم في أحسن الأشكال، متناسبي الأعضاء، ولم يجعلكم كالبهائم منكوسين تمشون على أربع، قال الزمخشري: لم يخلق تعالى حيواناً أحسن صورةً من الإِنسان، وهذه مثل قوله تعالى {لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم}. {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي ورزقكم من أنواع اللذائذ {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أي ذلكم الفاعل لهذه الأشياء والمنعم بهذه النعم هو ربكم لا إله إلا هو {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي فتعالى وتمجَّد وتقدس ربُّ جميع المخلوقات الذي لا تصلح الربوبية إلاَّ له {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي هو تعالى المتفرد بالحياة الذاتية الحقيقية، الباقي الذي لا يموت، لا إله سواه {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي فاعبدوه وحده مخلصين له العبادة والطاعة ظاهراً وباطناً قائلين {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي الثناء والشكر لله مالك جميع المخلوقات، لا للأوثان التي لا تملك شيئاً.
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(66)هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(67)هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(68)}.
نزول الآية (66):
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ..}: أخرج جويبر عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة قالا: يا محمد، ارجع عما تقول بدين ءابائك، فأنزل الله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.
ولما بيَّن صفات الجلال والعظمة، نهى عن عبادة غير الله فقال {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قل يا محمد إن ربي العظيم الجليل نهاني أن أعبد هذه الآلهة التي تعبدونها من الأوثان والأصنام، قال الصاوي: أمر تعالى نبيه أن يخاطب قومه بذلك زجراً لهم، حيث استمروا على عبادة غير الله، بعد ظهور الأدلة العقلية والنقلية {لَمَّا جَاءنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} أي حين جاءتني الآيات الواضحات من عنده، الدالة على وحدانيته، قال الرازي: والبيناتُ هي أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به، وأن جعل الحجارة المنحوتة والأخشاب المصورة، شركاء له في المعبودية مستنكرٌ في بديهة العقل {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وأمرت أن أذل وأخضع لله وحده، وأن أخلص له ديني، وأطهّر نفسي من عبادة غيره.
{هوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} هذا بيانٌ للأطوار التي مرَّ بها خلقُ الإِنسانِ أي هو جْل وعلا بقدرته الذي أوجدكم أيها الناس من العدم، فخلق أصلكم آدم من تراب، ثم خلق ذريته من النطفة وهي المنيُّ، ثم من علقة وهي الدم الغليظ، إلى آخر تلك الأطوار {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي ثم بعد أن ينفصل الجنين من بطن الأم يكون طفلاً {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل، وهو سنُّ الأربعين {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} أي ثم لتصبحوا في سنِّ الهرم والشيخوخة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: رتَّب تعالى عمر الإِنسان على ثلاث مراتب: الطفولة، وبلوغ الأشد، والشيخوخة، وهذا ترتيب مطابق للعقل، فإِن الإِنسان في أول عمره يكون في النمَّاء والنشوء وهو المسمى بالطفولة، إلى أن يبلغ إلى كمال النشوء من غير أن يحصل له ضعف، وهذا بلوغ الأشد، ثم يبدأ بالتراجع ويبدأ فيه الضعف والنقص، وهذه مرتبة الشيخوخة {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} أي ومنكم من يُتوفى قبل أن يخرج إلى العالم وهو السِّقطُ، وقال مجاهد: من قبلِ سنِّ الشيخوخة {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى} أي ولتصلوا إلى الزمان الذي حُدِّد لكل شخصٍ وهو الموتُ {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي ولكي تعقلوا دلائل قدرته تعالى وتؤمنوا بأنه الواحد الأحد {هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ} أي هو القادر جل وعلا على الإِحياء والإِماتة {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي فإِذا أراد أمراً من الأمور فلا يحتاج إلى تعب وعناء، وإِنما يوجد فوراً دون تأخير، قال أبو السعود: وهذا تمثيلٌ لكمال قدرته، وتصوير لسرعة وجودها من غير أن يكون هناك أمرٌ ومأمور.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ(69)الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(70)إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ(71)فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ(72)ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ(73)مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ(74)ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ(75)ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(76)}.
ثم عاد إلى ذم المجادلين في ءايات الله بالباطل فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} الاستفهام للتعجيب أي ألا ترى أيها السامع وتعجبْ من حال هؤلاء المكابرين، الذين يجادلون في آيات الله والواضحة، كيف تُصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟ ثم بيَّنهم بقوله {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} أي الذين كذبوا بالقرآن، وبسائر الكتب والشرائع السماوية {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيدٌ وتهديد أي سوف يعلمون عاقبة تكذيبهم {إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} أي حين يدخلون النار، وتربط أيديهم إلى أعناقهم بالأغلال والسلاسل {يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} أي يسحبون بتلك السلاسل في الماء الحارِّ المسخّن بنار جهنم، ثم يُوقدون ويحرقون فيها، قال ابن كثير: ومعنى الآية أن السلاسل متصلة بالأغلال وهي بأيدي الزبانية، يسحبونهم على وجوههم تارةً إلى الحميم، وتارة إلى الجحيم كما قال تعالى {يطوفون بينها وبين حميم آنْ} {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ثم قيل لهم تبكيتاً: أين هي الأوثان والأصنام التي كنتم تعبدونها وتجعلونها شركاء لله؟ {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي فيقولون: غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} أي بل لم نكن نعبد شيئاً، قال المفسرون: جحدوا عبادتهم، وإِنما فعلوا ذلك لحيرتهم واضطرابهم {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} أي مثل إضلال هؤلاء المكذبين يضلُّ الله كل كافر {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي ذلكم العذاب بما كنتم تظهرونه في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال وإِنفاقه في المحرمات {وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} أي وبسبب بطركم وأشركم وخيلائكم، قال الصاوي: وهذا وإِن كان ذماً في الكفار، إلا أنه يجرُّ بذيله على كل من توسَّع في معاصي الله، فله من هذا الوعيد نصيب {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي ادخلوا من أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم ماكثين فيها أبداً {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي بئست جهنم مقراً وسكناً للمستكبرين عن ءايات الله، المعرضين عن دلائل الإِيمان والتوحيد، وإِنما قال {مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ولم يقل فبئس مدخل المتكبرين وهو مقتضى النظم، لأن الدخول لا يدوم، وإِنما يدوم المثوى ولذا خصه بالذمِّ.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(77)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ(78)}.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي فاصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، فإِن وعد الله بتعذيبهم كائنٌ لا محالة، قال الصاوي: هذا تسلية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ووعدٌ حسن بالنصر له على أعدائه {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي إنْ أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره فذلك هو المطلوب، او لتقرَّ به عينُك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي أو نتوفينَّك يا محمد قبل إنزال العذاب عليهم، فإِلينا مرجعهم يوم القيامة فننتقم منهم أشدَّ الانتقام، ثم أخبره تعالى بأنباء الرسل تسليةً له عليه السلام فقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ} أي والله لقد بعثنا يا محمد رسلاً كثيرين قبلك، وأيدناهم بالمعجزات الباهرة فجادلهم قومهم وكذبوهم فتأسَّ بهم في الصبر على ما ينالك، قال القرطبي: عزَّاه تعالى بما لقيت الرسلُ من قبله {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} أي من هؤلاء الرسل من أخبرناك عن قصصهم مع قومهم، ومنهم من لم نخبرك عن قصصهم وأخبارهم {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي وما صحَّ ولا استقام لرسولٍ من الرسل أن يأتي قومه بشيء من المعجزات إلا بأمر الله، وهذا ردٌ على قريش حيث قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا الصفا ذهباً وغير ذلك من مقترحاتهم {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} أي فإِذا جاء الوقت المسمّى لعذابهم أهلكهم الله {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} أي خسر في ذلك الحين المعاندون الذين يجادلون في ءايات الله، ويقترحون المعجزات على سبيل التعنت.
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(79)وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ(80)وَيُرِيكُمْ ءاياتِهِ فَأَيَّ ءاياتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ(81)}.
ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه فقال {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَنْعَامَ} أي الله جلَّ وعلا الذي لا تصلح الألوهية إلا له، هو الذي سخَّر لكم هذه الأنعام "الإِبل والبقر والغنم" وخلقها لكم ولمصلحتكم {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي لتركبوا على ظهور بعض هذه الحيوانات، وتأكلوا من لحومها وألبانها، {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي ولكم في هذه الأنعام منافع عديدة في الوبر والصوف والشعر، واللبن والزبد والسمن {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي بحمل الأثقال في الأسفار البعيدة {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} أي وعلى هذه الإِبل في البر، وعلى السفن في البحر تُحملون، وإِنما قرن بين الإِبل والسفن لما بينهما من شدة المناسبة حتى سميت الإِبل سفن البر أي ويريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته في الآفاق والأنفس {فَأَيَّ ءاياتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} توبيخٌ لهم على إِنكارهم لوحدانيته مع ظهور ءاياته الكثيرة والمعنى أيَّ آية من تلك الآيات الباهرة والدلائل الكثيرة الساطعة تنكرون مع وضوحها وجلائها وكثرتها؟ فإِن هذه الدلائل لظهورها لا تقبل الإِنكار.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(82)فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون(83)فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ(84)فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّت اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(85)}.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الاستفهام إنكاري أي أفلم يسر هؤلاء المشركون في أطراف الأرض ليعرفوا عاقبة المتكبرين المتمردين، وآثار الأمم السالفة قبلهم، ماذا حلَّ بهم من العذاب والدمار بسبب كفرهم وتكذيبهم ؟ {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} أي كانوا أكثر عدداً من أهل مكة، وأقوى منهم قوة، وآثارهم لا تزال باقية بعدهم من الأبنية والقصور والمباني الضخمة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي فلم ينفعهم ما كانوا يكسبونه من الأبنية والأموال شيئاً، ولا دفع عنهم العذاب {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي فلما جاءتهم الرسل بالمعجزات الظاهرات، والآيات الواضحات {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي فرح الكفار بما هم عليه من العلم الدنيوي، الخالي عن نور الهداية والوحي، فرح بطرٍ وأشر، واغتروا بذلك العلم {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي نزل بهم جزاء كفرهم واستهزائهم بالرسل والآيات {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} أي فلما رأوا شدة العذاب وعاينوا أهواله وشدائده قالوا آمنا بالله الواحد الأحد {وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أي كفرنا بالأصنام والأوثان التي أشركناها في العبادة مع الله {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أي فلم يكن ينفعهم ذلك الإِيمان حين شاهدوا العذاب، لأنه إيمانٌ عن قسر وإِلجاء {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أي سنَّ الله ذلك سنةً ماضيةً في العباد، أنه لا ينفع الإِيمان إذا رأوا العذاب {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون بربهم، الجاحدون لتوحيد خالقهم.