سورة الشعراء
التِســميَـة
تكذيب المشركين للقرآن، إظهار دلائل وحدانيته تعالى
قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون
مجادلة موسى فرعون في إثبات وجود الله
وصف فرعون معجزة موسى عليه السلام بالسحر
إيمان السحرة بالله في المبارزة بينهم وبين موسى
نجاة موسى وقومه وغرق فرعون وجنوده
قصة إبراهيم عليه السلام وتنديده بعبادة الأصنام
إخلاص إبراهيم عليه السلام في دعائه
صورة شاملة ليوم القيامة، وتخاصم المشركين فيما بينهم
قصة نوح عليه السلام مع قومه
قصة هود عليه السلام
قصة صالح عليه السلام
قصة لوط عليه السلام
قصة شعيب عليه السلام
تنزيل القرآن من رب العالمين
أدب الدعاة في الدعوة
تنزُّل الشياطين على الكذبة الفَسقَة
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الشعراء مكية وقد عالجت أصول الدين من "التوحيد، والرسالة، والبعث" شأنها شأن سائر السور المكية، التي تهم بجانب العقيدة وأصول الإِيمان.
* ابتدأت السورة الكريمة بموضوع القرآن العظيم الذي أنزله الله هدايةً للخلق، وبلْسماً شافياً لأمراض الإِنسانية، وذكرت موقف المشركين منه، فقد كذبوا به مع وضوح آياته، وسطوع براهينه، وطلبوا معجزة أُخرى غير القرآن الكريم عناداً واستكباراً.
* ثم تحدثت السورة عن طائفةٍ من الرسل الكرام، الذين بعثهم الله لهداية البشرية، فبدأت بقصة الكليم "موسى" مع فرعون الطاغية الجبار، وما جرى من المحاورة والمداورة بينهما في شأن الإِله جلَّ وعلا، وما أيَّد به موسى من الحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل، وقد ذكرت في القصة حلقات جديدة، انتهت ببيان العظة والعبرة من الفارق الهائل، بين الإِيمان والطغيان.
* ثم تناولت قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، وموقفه من قومه وأبيه في عبادتهم للأوثان والأصنام، وقد أظهر لهم بقوة حجته، ونصاعة بيانه، بطلان ما هم عليه من عبادة ما لا يسمع ولا ينفع، وأقام لهم الأدلة القاطعة على وحدانية رب العالمين، الذي بيده النفع والضر، والإِحياء والإِماتة.
* ثم تحدثت السورة عن المتقين والغاوين، والسعداء والأشقياء، ومصير كلٍ من الفريقين يوم الدين.
* وبعد أن تابعت السورة في ذكر قصص الأنبياء "نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب" عليهم الصلاة والسلام، وبيَّنت سنة الله في معاملة المكذبين لرسله، عادت للتنويه بشأن الكتاب العزيز، تفخيماً لشأنه، وبياناً لمصدره {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}.
* ثم ختمت السورة بالرد على افتراء المشركين، في زعمهم أن القرآن من تنزل الشياطين، ليتناسق البدء مع الختام في أروع تناسق والتئام .
التِسميَة:
سميت "سورة الشعراء" لأن الله تعالى ذكر فيها أخبار الشعراء، وذلك للرد على المشركين في زعمهم أن محمداً كان شاعراً، وأن ما جاء به من قبيل الشعر، فردَّ الله عليهم ذلك الكذب والبهتان بقوله {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}؟ وبذلك ظهر الحق وبان.
{طسم(1)تِلْكَ ءايات الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(3)إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ(4)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ(5)فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ(7)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(8)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(9)}.
{طسم} إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم وأنه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي، الظاهر إعجازه لمن تأمله {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي لعلك يا محمد مُهلِكٌ نفسك لعدم إِيمان هؤلاء الكفار، فيه تسلية للرسول عليه السلام حتى لا يحزن ولا يتأثر على عدم إيمانهم {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً} أي لو شئنا لأنزلنا آية من السماء تضطرهم إلى الإِيمان قهراً {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي فتظل أعناقهم منقادةً خاضعة للإِيمان قسراً وقهراً، ولكنْ لا نفعل لأنا نريد أن يكون الإِيمان اختياراً لا اضطراراً قال الصاوي: المعنى لا تحزن على عدم إيمانهم فلو شئنا إيمانهم لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهراً عليهم، ولكنْ سبق في علمنا شقاؤهم فأرحْ نفسك من التعب {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَانِ} أي ما يأتي هؤلاء الكفار شيء من القرآن أو الوحي منزلٍ من عند الرحمن {مُحْدَثٍ} أي جديد في النزول، ينزل وقتاً بعد وقت {إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} أي إلاّ كذبوا به واستهزءوا ولم يتأملوا ما فيه من المواعظ والعِبَر {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أي فقد بلغوا النهاية في الإِعراض والتكذيب فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا واستهزؤوا به، ثم نبّه تعالى على عظمة سلطانه، وجلالة قدره في مخلوقاته ومصنوعاته، الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي أولم ينظروا إلى عجائب الأرض كم أخرجنا فيها من كل صنفٍ حسنٍ محمود، كثير الخير والمنفعة ؟ والاستفهام للتوبيخ على تركهم الاعتبار {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إِنَّ في ذلك الإِنبات لآيةً باهرة تدل على وحدانية الله وقدرته {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما كان أكثرهم يؤمن في علم الله تعالى، فمع ظهور الدلائل الساطعة يستمر أكثرهم على كفرهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي هو سبحانه الغالب القاهر، القادر على الانتقام ممن عصاه، الرحيم بخلقه حيث أمهلهم ولم يعجّل لهم العقوبة مع قدرته عليهم قال أبو العالية: العزيز في نقمته ممن خالف أمره وعبَد غيره، الرحيم بمن تاب إليه وأناب وقال الفخر الرازي: إنما قدم ذكر {الْعَزِيزُ} على {الرَّحِيمُ} لأنه ربما قيل: إنه رحمهم لعجزه عن عقوبتهم، فأزال هذا الوهم بذكر العزيز وهو الغالب القاهر، ومع ذلك فإنه رحيم بعباده، فإن الرحمة إذا كانت مع القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً.
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(10)قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ(11)قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ(12)وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ(13)وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ(14)قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ(15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(16)أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(17)قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18)وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(19)قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ(20)فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ(21)وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)}.
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} أي واذكر يا محمد لأولئك المعرضين المكذبين من قومك حين نادى ربك نبيَّه موسى من جانب الطور الأيمن آمراً له أن يذهب إلى فرعون وملئه {أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي بأن ائت هؤلاء الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، واستعباد الضعفاء من بني إسرائيل {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي هم قوم فرعون، وهو عطف بيان كأن القوم الظالمين وقوم فرعون شيء واحد {أَلا يَتَّقُونَ} ؟ أي ألا يخافون عقاب الله ؟ وفيه تعجيب من غلوهم في الظلم وإِفراطهم في العدوان {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} أي قال موسى يا ربّ إني أخاف أن يكذبوني في أمر الرسالة {وَيَضِيقُ صَدْرِي} أي ويضيق صدري من تكذيبهم إياي {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} أي ولا ينطلق لساني بأداء الرسالة على الوجه الكامل {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} أي فأرسلْ إلى هارون ليعينني على تبليغ رسالتك قال المفسرون: التمس موسى العذر بطلب المعين بثلاثة أعذار كلُّ واحدٍ منها مرتب على ما قبله وهي: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وعدم انطلاق اللسان، فالتكذيبُ سببٌ لضيق القلب، وضيقُ القلب سببٌ لتعسر الكلام، وبالأخص على من كان في لسانه حُبْسة كما في قوله {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} ثم زاد اعتذاراً آخر بقوله {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أي ولفرعون وقومه عليَّ دعوى ذنب وهو أني قتلت منهم قبطياً فأخاف أن يقتلوني به {قالَ كَلا} أي قال الله تعالى له: كلاّ لن يقتلوك قال القرطبي: وهو ردعٌ وزجر عن هذا الظن، وأمرٌ بالثقة بالله تعالى أي ثقْ بالله وانزجر عن خوفك منهم فإنهم لا يقدرون على قتلك {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا} أي اذهب أنت وهارون بالبراهين والمعجزات الباهرة {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} أي فأنا معكما بالعون والنصرة أسمع ما تقولان وما يجيبكما به، وصيغةُ الجمع "معكم" أريد بها التثنية فكأنهما لشرفهما عند الله عاملهما في الخطاب معاملة الجمع تشريفاً لهما وتعظماً {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي فائتيا فرعون الطاغية وقولا له: إنا مرسلان من عند رب العالمين إليك لندعوك إلى الهدى {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أطلقْ بني إسرائيل من إسارك واستعبادك وخلِّ سبيلهم حتى يذهبوا معنا إلى الشام {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} في الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره: فأتياه فبلغاه الرسالة فقال فرعون لموسى عندئذٍ: ألم نربك في منازلنا صبياً صغيراً ؟ قصد فرعون بهذا الكلام المنَّ على موسى والاحتقار له كأنه يقول: ألست أنت الذي ربيناك صغيراً وأحسنّا إليك فمتى كان هذا الأمر الذي تدّعيه؟ {وَلَبثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} أي ومكثت بين ظهرانينا سنين عديدة نحسن إليك ونرعاك قال مقاتل: ثلاثين سنة {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} أي فجازيتنا على أن ربيناك أن كفرت نعمتنا وقتلتَ منا نفساً ؟ والتعبيرُ بالفعلة لتهويل الواقعة وتعظيم الأمر، ومرادهُ قتل القبطي {وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ} أي وأنت من الجاحدين لإِنعامنا الكافرين بإِحساننا قال ابن عباس: من الكافرين لنعمتي إذ لم يكن فرعون يعلم ما الكفر {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} أي قال موسى: فعلتُ تلك الفعلة وأنا من المخطئين لأنني لم أتعمد قتله ولكن أردت تأديبه، ولم يقصد عليه السلام الضلال عن الهدى لأنه معصوم منذ الصغر وقال ابن عباس: {وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} أي الجاهلين {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي فهربتُ إلى أرض مدين حين خفت على نفسي أن تقتلوني وتؤاخذوني بما لا أستحقه {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} أي فأعطاني الله النبوة والحكمة {وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي واختارني رسولاً إليك، فإن آمنتَ سلمتَ، وإِن جحدتَ هلكتَ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي كيف تمنُّ عليَّ بإِحسانك إليَّ وقد استعبدتَ قومي ؟ فما تعدُّه نعمة ما هو إلاّ نقمة قال ابن كثير: المعنى ما أحسنتَ إليَّ وربيتني مقابل ما اسأتَ إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيداً وخدماً، أوف في إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ وقال الطبري: أي أتمنُّ عليَّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيداً.
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ(23)قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ(24)قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ(25)قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ(26)قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27)قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(28)قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(29)قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ(30)قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(31)}.
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي قال فرعون متعالياً متكبراً: من هو هذا الذي تزعم أنه ربُّ العالمين؟ هل هناك إلهٌ غيري؟ لأنه كان يجحد الصانع ويقول لقومه {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي قال موسى: هو خالق السماواتِ والأرض، والمتصرف فيهما بالإِحياء والإِعدام، وهو الذي خلق الأشياء كلها من بحار وقفار، وجبالٍ وأشجار، ونباتٍ وثمار، وغير ذلك من المخلوقات البديعة {إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} أي إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصارٌ نافذة، فهذا أمر ظاهر جلي {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} أي قال فرعون لمن حوله من أشراف قومه على سبيل التهكم والاستهزاء: ألا تسمعون جوابه وتعجبون من أمره ؟ أسأله عن حقيقة الله فيجيبني عن صفاته، فأجاب موسى وزاد في البيان والحجة {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} أي هو خالقكم وخالق آبائكم الذين كانوا قبلكم، فوجودكم دليل على وجود القادر الحكيم، عدلَ عن التعريف العام إلى التعريف الخاص لأنَّ دليل الأنفس أقرب من دليل الآفاق، وأوضح عند التأمل {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} فعند ذلك غضب فرعون ونسب موسى إلى الجنون {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} سمَّاه رسولاً استهزاءً وأضافه إلى المخاطبين استنكافاً من نسبته له أي إن هذا الرسول لمجنون لا عقل له، أسأله عن شيء فيجيبني عن شيء، فلم يحفل موسى بسخرية فرعون وعاد إلى تأكيد الحجة بتعريفٍ أوضح من الثاني {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي هو تعالى الذي يطلع الشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب، وهذا مشاهد كل يوم يبصره العاقل والجاهل ولهذا قال {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إن كان لكم عقول أدركتم أن هذا لا يقدر عليه إلا ربُّ العالمين، وهذا من أبلغ الحجج التي تقصم ظهر الباطل كقول إبراهيم في مناظرة النمرود {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ولما انقطع فرعون وأُبلس في الحجة رجع إِلى الاستعلاء متوعداَ بالبطش والعنف {قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لاجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ} أي لئن اتخذت رباً غيري لألقينك في غياهب السجن قال المفسرون: وكان سجنه شديداً يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده لا يبصر ولا يسمع فيه أحداً حتى يموت ولهذا لم يقل "لأسجننَّك" وإنما قال لأجعلنك من المسجونين لأن سجنه كان أشدَّ من القتل قال ابن جزي: لما أظهر فرعونُ الجهل بالله فقال {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أجابه موسى بقوله { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فقال { أَلا تَسْتَمِعُونَ}؟ تعجباً من جوابه، فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} لأن وجود الإِنسان وآبائه أظهرُ الأدلة عند العقلاء، وأعظم البراهين، فإِن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها على وجود خالقهم، فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطةً منه، وأيّده بالازدراء والتهكم في قوله {إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن لأحدٍ جحدها ولا أن يدعيها لغير الله، فلما انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدَّده بالسجن، فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة وذكرها له بتلطف طمعاً في إِيمانه {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} أي أتسجنني ولو جئتك بأمرٍ ظاهرٍ، وبرهان قاطع تعرف به صدقي؟ {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي فائت بما تقول إن كنت صادقاً في دعواك.
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(32)وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(33)قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(34)يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(35)قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(36)يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ(37)}.
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} أي رمى موسى عصاه فإِذا هي حية عظيمة في غاية الجلاء والوضوح، ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي وأخرج يده من جيبه فإِذا هي تتلألأ كالشمس الساطعة، لها شعاع يكادُ يعشي الأبصار ويسدُّ الأفق {قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي قال فرعون لأشراف قومه الذين كانوا حوله : إن هذا لساحرٌ عظيم بارعٌ في فنِّ السحر .. أراد أن يُعمِّي على قومه تلك المعجزة برميه بالسحر خشية أن يتأثروا بما رأوا {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} أي يريد أن يستولي على بلادكم بسحره العظيم {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي فبأي شيء تأمروني وبمَ تشيرون عليَّ أن أصنع به ؟ لما رأى فرعون تلك الآيات الباهرة خاف على قومه أن يتبعوه، فتنزَّل إلى مشاورتهم بعد أن كان مستبداً بالرأي والتدبير {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ} أي أخِّرْ أمرهما {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} أي وأرسل في أطراف مملكتك من يجمع لك السحرة من كل مكان {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} أي يجيئوك بكل ساحر ماهر، عليم بضروب السحر قال ابن كثير: وكان هذا من تسخير الله تعالى ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة.
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(38)وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ(39)لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ(40)فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(41)قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ(42)قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ(43)فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ(44)فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(45)فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(46)قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(47)رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(48)قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(49)قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ(50)إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ(51)}.
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي فاجتمع السحرة للموعد المحدَّد وهو وقت الضحى من يوم الزينة، وهو الوقت الذي حدَّده موسى، ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد كما قال تعالى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ} أي قيل للناس: بادروا إلى الاجتماع لكي نتبع السحرة في دينهم إن غلبوا موسى {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} أي إن غلبنا بسحرنا موسى فهل تكرمنا بالمال والأجر الجزيل ؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} أي قال لهم فرعون: نعم أعطيكم ما تريدون وأجعلكم من المقربين عندي ومن خاصة جلسائي {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} في الكلام إيجاز دلَّ عليه السياق تقديره: فقالوا لموسى عن ذلك إمَّا أن تُلقي وإِما أن نكون الملقين كما ذكر في الأعراف فأجابهم موسى بقوله {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي ابدءوا بإِلقاء ما تريدون فأنا لا أخشاكم، قاله ثقةً بنصرة الله له وتوسلاً لإِظهار الحقِّ {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} أي فألقوا ما بأيديهم من الحبال والعصي وقالوا عند الإِلقاء نقسم بعظمة فرعون وسلطانه إنّا نحن الغالبون لموسى {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي فألقى موسى العصا فانقلبت حية عظيمة فإِذا هي تبتلع وتزدرد الحبال والعصي التي اختلقوها باسم السحر حيث خيلوها للناس حياتٍ تسعى، وسمّى تلك الأشياء إفكاً مبالغةً {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} أي سجدوا للهِ رب العالمين، بعدما شاهدوا البرهان الساطع، والمعجزة الباهرة {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} أي وقالوا عند سجودهم آمنا بالله العزيز الكبير الذي يدعونا إليه موسى وهارون قال الطبري: لما تبيّن للسحرة أن الذي جاءهم به موسى حقٌّ لا سحر، وأنه مما لا يقدر عليه غيرُ الله الذي فطر السماوات والأرض، خرّوا لوجوههم سجداً لله مذعنين له بالطاعة قائلين: آمنا برب العالمين الذي دعانا موسى لعبادته، دون فرعون وملئه {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } أي قال فرعون للسحرة: آمنتم لموسى قبل أن تستأذنوني ؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ} أي إنه رئيسكم الذي تعلمتم منه السحر وتواطأتم معه ليظهر أمره، أراد فرعون بهذا الكلام التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا عن بصيرة وظهور حق قال ابن كثير: وهذه مكابرة يعلم كل أحدٍ بطلانها، فإِنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل، ثم توعَّدهم بقوله {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي سوف تعلمون عند عقابي وبال ما صنعتم من الإِيمان به {لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} أي لأقطعنَّ يد كل واحد منكم اليمنى ورجله اليسرى {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أي ولأصلبنَّ كل واحد منكم على جذع شجرة وأتركه حتى الموت {قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون} أي لا ضرر علينا في وقوع ما أوعدتنا به، ولا نبالي به لأننا نرجع إلى ربنا مؤملين غفرانه {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} أي إنا نرجو أن يغفر لنا الله ذنوبنا التي سلفت منا قبل إيماننا به فلا يعاقبنا بها {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي بسبب أن بادرنا قومنا إلى الإِيمان وكنا أول من آمن بموسى.
المنَاسَبَة:
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة سبع قصص: أولها قصة موسى وهارون، وثانيها قصة إبراهيم، وثالثها قصة نوح، ورابعها قصة هود، وخامسها قصة صالح وسادسها قصة لوط وسابعها قصة شعيب، وكل تلك القصص لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من المشركين، ولا تزال الآيات تتحدث عن قصة موسى عليه السلام.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ(52)فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(53)إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54)وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ(55)وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ(56)فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(57)وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(58)كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(59)فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ(60)فَلَمَّا تَرَاءَ الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ(63)وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ(64)وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ(65)ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ(66)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(67)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(68)}.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يسير ليلاً إلى جهة البحر ببني إسرائيل قال القرطبي: أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً، وسمّاهم عباده لأنهم آمنوا بموسى {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أي يتبعكم فرعون وقومه ليردُّوكم إلى أرض مصر ويقتلوكم {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} أي أرسل فرعون في طلبهم حين أخبر بمصيرهم وأمر أن يُجمع له الجيش من كل المُدُن قائلاً لهم {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أي طائفة قليلة قال الطبري: كان بنو إسرائيل ستمائة وسبعين ألفاً ولكنه قلَّلهم بالنسبة إلى كثرة جيشه {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} أي وإِنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أي ونحن قوم متيقظون منتبهون، من عادتنا التيقظ والحذر، واستعمالُ الحزم في الأمور قال الزمخشري: وهذه معاذير اعتذر بها إلى قومه لئلا يُظنَّ به ما يكسر من قهره وسلطانه، قال تعالى {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي أخرجنا فرعون وقومه من بساتين كانت لهم وأنهار جارية {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي وأخرجناهم من الأموال التي كنزوها من الذهب والفضة، ومن المنازل الحسنة والمجالس البهية {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي مثل ذلك الإِخراج الذي وضعناه فعلنا بهم، وأورثنا بني إسرائيل ديارهم وأموالهم بعد إغراق فرعون وقومه {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي فلحقوهم وقت شروق الشمس {فَلَمَّا تَرَاء الْجَمْعَانِ} أي فلما رأى كلٌّ منهما الآخر، والمراد جمعُ موسى وجمع فرعون {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي مُلحقون يلحقنا فرعون وجنوده فيقتلوننا، قالوا ذلك حين رأوا فرعون الجبار وجنوده وراءهم، والبحر أمامهم، وساءت ظنُونهُم {قَالَ كَلا} أي قال موسى كلاَّ لن يدركوكم فارتدعوا عن مثل هذا الكلام وانزجروا {إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} إنَّ ربي معي بالحفظ والنصرة، وسيهديني إلى طريق النجاة والخلاص قال الرازي: قوَّى نفوسهم بأمرين: أحدهما بأن ربه معه وهذا دلالة على النصرة والتكفل بالمعونة، والثاني قوله {سَيَهْدِينِ} أي إلى طريق النجاة والخلاص، وإِذا دلَّه على طريق نجاته وهلاك أعدائه فقد بلغ النهاية في النصرة {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يضرب البحر بعصاه {فَانفَلَقَ} أي فضربه فانشق وانفلق {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي فكان كل جزء منه كالجبل الشامخ الثابت قال ابن عباس : صار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبطٍ منهم طريق {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} أي وقربنا هناك فرعون وجماعته حتى دخلوا البحر على إثر دخول بني إسرائيل {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} أي أنجينا موسى والمؤمنين معه جميعاً {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} أي أغرقنا فرعون وقومه قال المفسرون: لما انفلق البحر جعله الله يبَساً لموسى وقومه، وصار فيه اثنا عشر طريقاً ووقف الماء بينها كالطود العظيم، فلما خرج أصحاب موسى وتكامل دخول أصحاب فرعون أمر الله البحر أن يطبق عليهم فغرقوا فيه، فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعون ! فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إنَّ في إغراق فرعون وقومه لعبرة عظيمة على إِنجاء الله لأوليائه، وإِهلاكه لأعدائه {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي ومع مشاهدة هذه الآية العظمى لم يؤمن أكثر البشر، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيدٌ لمن عصاه {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ(69)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70)قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71)قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72)أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73)قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(74)قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78)وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79)وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81)وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)}.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} هذه بداية قصة إبراهيم أي اقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم وشأنه العظيم {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} أي حين قال لأبيه وعشيرته أيَّ شيءٍ تعبدون؟ سألهم مع علمه بأنهم يعبدون الأصنام ليبيّن لهم سفاهة عقولهم في عبادة ما لا ينفع، ويقيم عليهم الحجة {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أي نعبد أصناماً فنبقى مقيمين على عبادتها لا نتركها، قالوا ذلك على سبيل الابتهاج والافتخار، وكان يكفيهم أن يقولوا: نعبد الأصنام ولكنهم زادوا في الوصف كالمفتخر بما يصنع {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} أي قال لهم إبراهيم على سبيل التبكيت والتوبيخ: هل يسمعون دعاءكم حين تلجأون إليهم بالدعاء؟ {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} أي وهل يبذلون لكم منفعة، أو يدفعون عنكم مضرة؟ {قَالُوا بَلْ وَجَدْنا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وجدنا آباءنا يعبدونهم ففعلنا مثلهم قال أبو السعود: اعترفوا بأنها لا تنفع ولا تضر بالمرَّة، واضطروا إلى إظهار الحقيقة وهي أنه لا سند لهم سوى التقليد، وهذا من علامات انقطاع الحجة {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ} أي قال إبراهيم: أفرأيتم هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله أنتم وآباؤكم الأولون؟ {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي فإِن هذه الأصنام أعداء لي لا أعبدهم، ولكن أعبد الله ربَّ العالمين فهو وليي في الدنيا والآخرة، أسند العداوة لنفسه تعريضاً بهم وهو أبلغ في النصيحة من التصريح {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي اللهُ الذي خلقني هو الذي يهديني إلى طريق الرشاد لا هذه الأصنام {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي هو تعالى الذي يرزقني الطعام والشراب فهو الخالق الرازق الذي ساق المُزْن، وأنزل المطر، وأخرج به أنواع الثمرات رزقاً للعباد {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أي وإِذا أصابني المرض فإِنه لا يقدر على شفائي أحدٌ غيره، وأسند الشفاء إلى الله رعايةً للأدب، وإلاّ فالمرض والشفاء من الله جل وعلا فاستعمل في كلامه حسن الأدب {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} أي وهو تعالى المحيي المميت لا يقدر على ذلك أحد سواه، يميتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} أي أرجو من واسع رحمته أن يغفر لي ذنبي يوم الحساب والجزاء حيث يُجازي العباد بأعمالهم، وفيه تعليم للأمة أن يستغفروا من ذنوبهم ويقرُّوا بخطاياهم.
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(83)وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ(84)وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ(85)وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ(86)وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ(87)يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ(88)إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)}.
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أي هب لي الفهم والعلم وألحقني في زمرة عبادك الصالحين {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} أي اجعل لي ذكراً حسناً وثناءً عاطراً {فِي الآخِرِينَ} أي فيمن يأتي بعدي إلى يوم القيامة، أُذكر به ويُقتدى بي قال ابن عباس: هو اجتماعُ الأمم عليه، فكلُّ أمةٍ تتمسك به وتُعظّمه {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} أي من السعداء في الآخرة الذين يستحقون ميراث جنات الخُلد {وَاغْفِرْ لأَبِي} أي اصفح عنه واهده إلى الإِيمان {إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ} أي ممن ضلَّ عن سبيل الهدى قال الصاوي: وقد أجابه الله تعالى في جميع دعواته سوى الدعاء بالغفران لأبيه وقال القرطبي: كان أبوه وعده أن يؤمن به فلذلك استغفر له، فلما بان له أنه لا يفي تبرأ منه {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي لا تُذلَّني ولا تُهِنِّي يومَ تبعث الخلائق للحساب، وهذا تواضعٌ منه أمام عظمة الله وجلاله وإلا فقد أثنى الله عليه بقوله {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} الآية {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} أي في ذلك اليوم العصيب لا ينفع أحداً فيه مالٌ ولا ولد {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ} أي إلا من جاء ربَّه في الآخرة {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي بقلب نقيٍّ طاهر، سليم من الشرك والنفاق، والحسد والبغضاء، وإِلى هنا تنتهي دعوات الخليل إبراهيم ثم قال تعالى.
{وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ(90)وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ(91)وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(92)مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ(93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ(94)وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ(95)قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ(96)تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(98)وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ(99)فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ(100)وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ(101)فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(102)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(103)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(104)}.
{وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي قُرِّبت الجنةُ للمتقين لربهم ليدخلوها قال الطبري: وهم الذين اتقوا عقابَ الله بطاعتهم إيّاه في الدنيا {وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} أي وأُظهرت النارُ للمجرمين الضالين حتى رأوها بارزة أمامهم مكشوفة للعيان، فالمؤمنين يرون الجنة فتحصل لهم البهجة والسرور، والغاوون يرون جهنم فتحصل لهم المساءة والأحزان {وَقِيلَ لَهُمْ} أي قيل للمجرمين على سبيل التقريع والتوبيخ {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي أين آلهتكم الذي عبدتموهم من الأصنام والأنداد ؟ {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} أي هل ينقذونكم من عذاب الله، أو يستطيعون أن يدفعوه عن أنفسهم؟ وهذا كله توبيخ {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} أي أُلقوا على رءوسهم في جهنم قال مجاهد: دُهوروا في جهنم وقال الطبري: رُمي بعضُهم على بعض، وطُرح بعضُهم على بعض منكبين على وجوههم {هُمْ وَالْغَاوُونَ} أي الأصنامُ والمشركون والعابدون والمعبودون كقوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} أي وأتباعُ إبليس قاطبة من الإِنس والجن {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} أي قال العابدون لمعبوديهم وهم في الجحيم يتنازعون ويتخاصمون {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي نقسم بالله لقد كنا في ضلالٍ واضح وبعدٍ عن الحق ظاهر {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي حين عبدناكم مع ربّ العالمين وجعلناكم مثله في استحقاق العبادة {وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ} أي وما أضلنا عن الهدى إلاّ الرؤساء والكبراء الذين زينوا لنا الكفر والمعاصي {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} أي ليس لنا من يشفع لنا من هول هذا اليوم {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي ولا صديقٍ خالص الود ينقذنا من عذاب الله {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي لو أن رجعنا إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي فنؤمن بالله ونحسن عملنا ونطيع ربنا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إن فيما ذكر من نبأ إبراهيم وقومه لعبرةً يعتبر بها أولو الأبصار {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما كان أكثر هؤلاء المشركين الذين تدعوهم إلى الإِسلام بمؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ(105)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ(106)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(107)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(108)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(109)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(110)قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ(111)قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(112)إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ(113)وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ(114)إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ(115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ(116)قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ(117)فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(118)فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(119)ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ(120)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(121)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(122)}.
لما قصَّ تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خبر موسى وإِبراهيم أتبعه بذكر قصة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وكلُّ ذلك تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من قومه، وبيانٌ لسنة الله في عقاب المكذبين.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} أي كذَّب قوم نوح رسولهم نوحاً، وإِنما قال {الْمُرْسَلِينَ} لأن من كذَّب رسولاً فقد كذب الرسل {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أي أخوهم في النسب لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري: وهذا من قول العرب: يا أخا بني تميم يريدون واحداً منهم ومنه بيت الحماسة "لا يسألون أخاهم حين يندبهم" {أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عقاب الله في عبادة الأصنام ؟ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي إني لكم ناصح، أمينٌ في نصحي لا أخون ولا أكذب {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي خافوا عذابالله وأطيعوا أمري {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي لا أطلب منكم جزاءً على نصحي لكم {إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ما أطلب ثوابي وأجري إلا من الله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} كرره تأكيداً وتنبيهاً على أهمية الأمر الذي دعاهم إليه {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} أي أنصدّقك يا نوح فيما تقول {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} أي والحال أن أتباعك هم السفلة والفقراء والضعفاء ؟ قال البيضاوي: وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم، فقد قصروا الأمر على حطام الدنيا حتى جعلوا اتّباع الفقراء له مانعاً عن اتباعهم وإِيمانهم بدعوة نوح {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ليس عليَّ أن أبحث عن خفايا ضمائرهم، وأن أُنقّب عن أعمالهم هل اتبعوني إخلاصاً أو طمعاً؟ قال القرطبي: كأنهم قالوا: إِنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعاً في العزة والمال فقال في جوابهم: إني لم أقف على باطن أمرهم وإِنما لي ظاهرهم {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} أي ما حسابهم وجزاؤهم إلا على الله فإِنه المطّلع على السرائر والضمائر لو تعلمون ذلك {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} أي لست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عني، ولا بطاردهم عن مجلسي قال أبو حيان: وهذا مشعرٌ بأنهم طلبوا منه ذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد من آمن من الضعفاء {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي ما أنا إلا نذير لكم من عذاب الله، أخوفكم بأسه وسطوته فمن أطاعني نجا سواءً كان شريفاً أو ضيعاً، أو جليلاً أو حقيراً {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ} أي لئن لم تنته عن دعوى الرسالة وتقبيح ما نحن عليه لتكوننَّ من المرجومين بالحجارة، خوفوه بالقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوحٍ من فلاحهم فدعا عليهم {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} أي قال نوح يا رب إن قومي كذبوني ولم يؤمنوا بي {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} أي فاحكم بيني وبينهم بما تشاء، واقض بيننا بحكمك العادل {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي أنقذني والمؤمنين معي من مكرهم وكيدهم {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي فأنجينا نوحاً ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالرجال والنساء والحيوان {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي لعبرة عظيمة لمن تفكر وتدبَّر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما أكثر الناس بمؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي وإِن ربك يا محمد لهو الغالب الذي لا يُقهر، الرحيم بالعباد حيث لا يعاجلهم بالعقوبة.
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ(123)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ(124)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(125)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(126)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(127)أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ(128)وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(129)وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ(130)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(131)وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ(132)أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(134)إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(135)قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ(136)إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ(137)وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(138)فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(139)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(140)}.
ثم شرع تعالى في ذكر قصة "هود" فقال {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبت قبيلة عاد رسولهم هوداً، ومن كذَّب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم لغيره ! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي أمينٌ على الوحي ناصح لكم في الدين {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي فخافوا عذاب الله وأطيعوا أمري {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي لا أطلب منكم على تبليغ الدعوة شيئاً من المال إِنما أطلب أجري من الله، كررت الآيات للتنبيه إلى أنَّ دعوةَ الرسل واحدة {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ؟ استفهامٌ إنكاري أي أتبنون بكل موضع مرتفع من الطريق بناءً شامخاً كالعَلَم لمجرد اللهو والعبث ؟ قال ابن كثير: الريعْ المكان المرتفع كانوا يبنون عند الطرق المشهورة بنياناً محكماً هائلاً باهراً لمجرد اللهو واللعب وإِظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيُهم عليه السلام ذلك لأنه تضييعٌ للزمان، وإِتعابٌ للأبدان، واشتغالُ بما لا يُجدي في الدنيا ولا في الآخرة {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي وتتخذون قصوراً مشيَّدة محكمة ترجون الخلود في الدنيا كأنكم لا تموتون ؟ {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} أي وإِذا اعتديتم على أحد فعلتم فعل الجبارين من البطش دون رأفةٍ أو رحمة، وإِنما أنكر عليهم ذلك لأنه صادر عن ظلم عادة الجبابرة المتسلطين قال الفخر الرازي: وصفهم بثلاثة أمور: اتخاذ الأبنية العالية وهو يدل على السرف وحب العلو، واتخاذ المصانع - القصور المشيَّدة والحصون - وهو يدل على حب البقاء والخلود، والجبارية وهي تدل على حب التفرد بالعلو، وكلُّ ذلك يشير على أن حبَّ الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه حتى خرجوا عن حد العبودية، وحاموا حول ادعاء الربوبية، وحبُّ الدنيا رأسُ كل خطيئة {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي خافوا الله واتركوا هذه الأفعال وأطيعوا أمري، ثم شرع يذكّرهم بنعم الله فقال {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أي أنعم عليكم بأنواع النعم والخيرات {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي أعطاكم أصول الخيرات من المواشي، والبنين، والبساتين، والأنهار، وأغدق عليكم النعم فهو الذي يجب أن يُعْبد ويُشْكر ولا يُكفر {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي أخشى عليكم إن لم تشكروا هذه النعم وأشركتم وكفرتم عذاب يومٍ هائل تشيب لهوله الولدان .. دعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب، وبلغ في دعائهم بالوعظِ والتخويفِ النهاية القصوى في البيان فكان جوابهم {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ} أي يستوي عندنا تذكيرك لنا وعدُمه، فلا نبالي بما تقول، ولا نرعوي عمّا نحن عليه قال أبو حيان: جعلوا قوله وعْظاً على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوَّفهم به إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به، وأنه كاذبٌ فيما ادَّعاه {إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} أي ما هذا الذي جئتنا به إلا كذبُ وخرافاتُ الأولين {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أي فكذبوا رسولهم هوداً فأهلكناهم بريحٍ صرصرٍ عاتية قال ابن كثير: وكان إهلاكهم بالريح الشديدة الهبوب، ذات البرد الشديد وهي الريح الصرصر العاتية، وكان سبب إهلاكهم من جنسهم، فإِنهم كانوا أعتى شيءٍ وأجبره، فسلَّط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشدَّ، فحصبت الريح كل شيء حتى كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه، وترفعه في الهواء ثم تنكّسه على أم رأسه، فتشدخ رأسه ودماغه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إن في إهلاكهم لعظة وعبرة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما آمن أكثر الناس مع رؤيتهم للآيات الباهرة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي وإِن ربك يا محمد لهو العزيزُ في انتقامه من أعدائه، الرحيمُ بعبادة المؤمنين.
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ(141)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ(142)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(143)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(144)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(145)أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ(146)فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(147)وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ(148)وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ(149)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(150)وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ(151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ(152)قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(153)مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(154)قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(155)وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ(156)فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ(157)فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(158)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(159)}.
ثم شرع تعالى في ذكر قصة "صالح" فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبت قبيلة ثمود نبيَّهم "صالحاً" ومن كذَّب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} ؟ ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره ! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} كررت الآيات للتنبيه على أن دعوة الرسل واحدة، فكل رسولٍ يذكِّر قومه بالغاية من بعثته ورسالته، وأنها لصالح البشر{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} أي أيترككم ربكم في هذه الدنيا آمنين، مخلَّدين في النعيم، كأنكم باقون في الدنيا بلا موت ؟ قال ابن عباس: كانوا معمَّرين لا يقى البنيان مع أعمارهم، قال القرطبي: ودل على هذا قولُه تعالى {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} فقرَّعهم صالح ووبَّخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي في بساتين وأنهار جاريات {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} أي وسهولٍ فسيحة فيها من أنواع الزروع والنخيل والرطب اللين ؟ أتتركون في كل ذلك النعيم دون حساب ولا جزاء قال المفسرون: كانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل فذكَّرهم صالحٌ بنعم الله الجليلة من إنبات البساتين والجنات، وتفجير العيون الجاريات، وإِخراج الزروع والثمرات، ومعنى "الهضيم" اللطيف الدقيق وهو قول عكرمة، وقال ابن عباس معناه: اليانع النضيج {وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} أي وتبنون بيوتاً في الجبال أشرين بطرين من غير حاجةٍ لسكناها قال الرازي: وظاهر هذه الآيات يدل على أنَّ الغالب على قوم "هود" هو اللذاتُ الخيالية وهي الاستعلاء، والبقاء، والتجبر، والغالب على قوم "صالح" هو اللذاتُ الحسية وهي طلب المأكول، والمشروب، والمساكن الطيبة وقال الصاوي: كانت أعمارهم طويلة فإِن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، لأن الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي فاتقوا عقاب الله وأطيعوني في نصيحتي لكم {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} أي ولا تطيعوا أمر الكبراء المجرمين {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} أي الذين عادتهم الفساد في الأرض لا الإِصلاح قال الطبري: وهم الرهط التسعة الذين وصفهم الله بقوله {وكان في المدينة تسعةُ رهطٍ يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون} {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ} أي من المسحورين سُحرت حتى غُلب على عقلك قال المفسرون: والمُسحَّر مبالغةٌ من المسحور {مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي لستَ يا صالح إلا رجلاً مثلنا، فكيف تزعم أنك رسول الله ؟ {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي فائتنا بمعجزة تدل على صدقك {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ} أي هذه معجزتي إليكم وهي الناقة التي تخرج من الصخر الأصم بقدرة الله قال المفسرون: روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عُشراء - حامل - تخرج من صخرة معينة وتلد أمامهم، فقعد صالح عليه السلام يتفكر فجاءه جبريل فقال: صلِّ ركعتين وسلْ ربك الناقة ففعل، فخرجت الناقة وولدت أمامهم وبركت بين أيديهم فقال لهم هذه ناقة يا قوم {لَهَا شِرْبٌ وَلَكمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي تشرب ماءكم يوماً، ويوماً تشربون أنتم الماء قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كلَّه، وشربهُم في اليوم الذي لا تشرب هي فيه، وتلك آيةٌ أخرى {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} أي لا تنالوها بأيِّ ضرر بالعقر أو بالضرب {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي فيصيبكم عذاب من الله هائل لا يكاد يوصف قال ابن كثير: حذَّرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر، تردُ الماء وتأكل الورق والمرعى، وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً وريَّاً، فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالؤوا على قتلها وعقرها {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} أي فقتلوها رمياً بالسهام، رماها أشقاهم - قُدار بن سالف - بأمرهم ورضاهم فأصبحوا نادمين على قتلها خوف العذاب قال الفخر الرازي: لم يكن ندمهم ندم التائبين، لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} أي العذاب الموعود، وكان صيحةً خمدت لها أبدانهم، وانشقت لها قلوبهم، وزُلزلت الأرض تحتهم زلزالاً شديداً، وصُبَّت عليهم حجارة من السماء فماتوا عن آخرهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي لعظةً وعبرة لمن عقل وتدبَّر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسيرها فيما سبق.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ(160)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ(161)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(162)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(163)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(164)أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ(165)وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ(166)قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ(167)قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ(168)رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ(169)فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(170)إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ(171)ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ(172)وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ(173)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(174)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(175)}.
ثم شرع تعالى في ذكر قصة "لوط" فقال {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبوا رسولهم لوطاً {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عقاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره ! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} نفسُ الكلمات والألفاظ التي قالها من قبلُ صالحٌ، وهودٌ، ونوح مما يؤكد أن دعوة الرسل واحدة، وغايتها واحدة، وأن منشأها هو الوحي السماوي، ثم قال لهم لوط {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} استفهامُ إِنكارٍ وتوبيخٍ وتقريعٍ أي أَتنْكحون الذكور في أدبارهم، وتنفردون بهذا الفعل الشنيع من بين سائر الخلق ؟ {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} أي وتتركون ما أباح لكم ربكم من الاستمتاع بالإِناث؟ قال مجاهد: تركتم فروج النساء إلى أدبار الرجال {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي بل أنتم قوم مجاوزون الحدَّ في الإِجرام والفساد، وبَّخهم على إتيانهم الذكور، ثم أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في التوبيخ كأنه يقول خرجتم عن حدود الإِنسانية إلى مرتبة البهيمية بعدوانكم وارتكابكم هذه الجريمة الشنيعة، فالذكر من الحيوان يأنف عن إتيان الذكر، وأنتم فعلتم ما يتورع عنه الحيوان {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ} أي لئن لم تترك تقبيح ما نحن عليه لنخرجنك من بين أظهرنا وننفيك من بلدنا كما فعلنا بمن قبلك، توعدوه بالنفي والطرد {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ} أي إني لعملكم القبيح من المبغضين غاية البغض وأنا بريء منكم {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي نجني من العذاب الذي يستحقونه بعملهم القبيح أنا وأهلي قال تعالى {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} أي نجيناه مع أهله جميعاً إلا امرأته كانت من الهالكين، الباقين في العذاب قال ابن كثير: والمراد بالعجوز امرأته فقد كانت عجوز سوء، بقيت فهلكت مع من بقي من قومها حين أمره الله أن يسريَ بأهله إلا امرأته {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} أي أهلكناهم أشد إهلاكٍ وأفظعه بالخسف والحَصْب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي أمطرنا عليهم حجارة من السماء كالمطر الزاخر {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} أي بئس هذا المطر مطر القوم المُنْذرين الذين أنذرهم نبيهم فكذبوه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إنَّ في ذلك لعبرة وعظة لأولي البصائر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسيره.
{كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ(176)إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ(177)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(178)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(179)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(180)أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ(181)وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ(182)وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(183)وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ(184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(185)وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ(186)فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(187)قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ(188)فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(189)إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(190)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(191)}.
ثم شرع تعالى في ذكر قصة "شعيب" فقال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} أي كذَّب أصحاب مدين نبيهم شعيباً قال الطبري: والأيكةُ: الشجرُ الملتف وهم أهل مدين {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} سبق تفسيره {أَوْفُوا الْكَيْلَ} أي أوفوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن {وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ} أي من المُنْقِصين المُطَفِّفين في المكيال والميزان {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي زنوا بالميزان العدل السويّ {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي لا تثنقصوا حقوق الناس بأي طريق كان بالهضم أو الغبن أو الغصب ونحو ذلك {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي ولا تُفسدوا في الأرض بأنواع الفساد من قطع الطريق، والغارة، والسلب والنهب {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} أي خافوا الله الذي خلقكم وخلق الخليقة المتقدمين قال مجاهد: الجِبِلَّة: الخليقة ويعني بها الأمم السابقين {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ} أي ما أنت إلا من المسحورين، سُحِرت كثيراً حتى غُلب على عقلك {وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي أنت إنسانٌ مثلنا ولست برسول {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ} أي ما نظنك يا شعيب إلاّ كاذباً، تكذب علينا فتقول أنا رسول الله {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنْ السَّمَاءِ} أي أنزلْ علينا العذاب قِطَعاً من السماء، وهو مبالغة في التكذيب {إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي إن كنت صادقاً فيما تقول قال الرازي: وإِنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه، فظنوا أنه إذا لم يقع ظهرَ كذبه فعندها أجابهم شعيب {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي الله أعلم بأعمالكم، فإِن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم، وإن كنتم تستحقون عقاباً آخر فإِليه الحكم والمشيئة، قال تعالى {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} أي فكذبوا شعيباً فأخذهم ذلك العذاب الرهيب عذابُ يوم الظُلَّة وهي السحابة التي أظلتهم قال المفسرون: بعث الله عليهم حراً شديداً فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، بعث الله عليهم سحابةً أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ونادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً، وكان ذلك من أعظم العذاب ولهذا قال {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي كان عذاب يوم هائل، عظيم في الشدة والهَول {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} وإِلى هنا ينتهي آخر القصص السبع التي أوحيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفه عن الحرص على إسلام قومه، وقطع رجائه ودفع تحسره عليهم كما قال في أول السورة {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ففيها تسلية لرسول الله وتخفيفٌ عن أحزانه وآلامه، وإنما كرر في نهاية كل قصة قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ليكون ذلك أبلغ في الاعتبار، وأشدَّ تنبيهاً لذوي القلوب والأبصار.
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ(196)أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ(197)وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ(198)فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ(199)كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(200)لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ(201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(202)فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ(203)أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(204)أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ(205)ثُمَّ جَاءهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ(206)مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ(207)وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ(208)ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ(209)وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)}
سبب النزول:
نزول الآية (205):
{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ... } أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال : "رئي النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه متحير، فسألوه عن ذلك، فقال: ولِمَ، ورأيت عدوي يكون من أمتي بعد ؟ فنزلت: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} فطابت نفسه".
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وإِن هذا القرآن المعجز لتنزيلُ ربّ الأرباب {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} أي نزل به أمين السماء جبريل عليه السلام {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ} أي أنزله على قلبك يا محمد لتحفظه وتُنذر بآياته المكذبين {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي بلسانٍ عربي فصيح هو لسان قريش، لئلا يبقى لهم عذر فيقولوا : ما فائدة كلامٍ لا نفهمه ؟ قال ابن كثير: أنزلناه باللسان العربي الفصيح، الكامل الشامل، ليكون بيناً واضحاً، قاطعاً للعذر مقيماً للحجة، دليلاً إلى المحجة {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} أي وإِن ذكر القرآن وخبره لموجودٌ في كتب الأنبياء السابقين {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي أولم يكن لكفار مكة علامة على صحة القرآن {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أن يعلم ذلك علماء بني إسرائيل الذين يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم كعبد الله بن سلام وأمثاله {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} أي لو نزلنا هذا القرآن بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} أي فقرأه على كفار مكة قراءة صحيحة فصيحة، وانضم إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء ما آمنوا بالقرآن لفرط عنادهم واستكبارهم {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي كذلك أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، فسمعوا به وفهموه، وعرفوا فصاحته وبلاغته، وتحققوا من إعجازه ثم لم يؤمنوا به وجحدوه {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي لا يصدّقون بالقرآن مع ظهور إعجازه {حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} أي حتى يشاهدوا عذاب الله المؤلم فيؤمنوا حيث لا ينفع الإِيمان {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي فيأتيهم عذاب الله فجأة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وهم لا يعلمون بمجيئه ولا يدرون {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} أي فيقولوا حين يفجأهم العذاب - تحسراً على ما فاتهم من الإِيمان وتمنياً للإِمهال - هل نحن مؤخرون لنؤمن ونصدّق {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إِنكارٌ وتوبيخ أي كيف يستعجل العذاب هؤلاء المشركون ويقولون {ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؟ وحاُلهم عند نزول العذاب أنهم يطلبون الإِمهال والنظرة؟ {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} أي أخبرني يا محمد إن متعناهم سنين طويلة، مع وفور الصحة ورغد العيش {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} أي ثم جاءهم العذاب الذي وُعدوا به {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}؟ أي ماذا ينفعهم حينئذٍ ما مضى من طول أعمارهم، وطيب معاشهم؟ هل ينفعهم ذلك النعيم في تخفيف الحزن، أو دفع العذاب؟ {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} أي وما أهلكنا أهل قرية من القرى، ولا أُمةً من الأمم {إِلا لَهَا مُنذِرُونَ} أي إلاّ بعدما ألزمناهم الحجة بإِرسال الرسل مبشرين ومنذرين {ذِكْرَى} أي ليكون إهلاكهم تذكرةً وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي وما كنا ظالمين في تعذيبهم، لأننا أقمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم .. ثم إنه تعالى بعد أن نبّه على إعجاز القرآن وصدق نبوة محمد عليه السلام ردَّ على قول من زعم من الكفار أن القرآن من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة فقال {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} أي وما تنزَّلت بهذا القرآن الشياطين، بل نزل به الروح الأمين {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي وما يصح ولا يستقيم أن يتنزل بهذا القرآن الشياطين، ولا يستطيعون ذلك أصلاً {إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} أي لأنهم منعوا من استراق السمع منذ بعث محمد عليه السلام، وحيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب، فكيف يستطيعون أن يتنزلوا به ؟ قال ابن كثير: ذكر تعالى أنه يمتنع ذلك عليهم من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ما ينبغي لهم لأن سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه نورٌ وهدى وبرهان عظيم، الثاني: أنه لو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، وهذا من حفظ الله لكتابه وتأييده لشرعه الثالث: أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك لأنهم بمعزلٍ عن استماع القرآن، لأن السماء مُلئت حرساً شديداً وشهباً، فلم يخلص أحد من الشياطين لاستماع حرفٍ واحد منه لئلا يشتبه الأمر.
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} بدأ بأهل بيته وفصيلته، فشقَّ ذلك على المسلمين فأنزل الله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}.
{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ(213)وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ(214)وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(215)فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(216)وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(220)}.
{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره أي لا تعبد يا محمد مع الله معبوداً آخر {فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ} أي فيعذبك الله بنار جهنم قال ابن عباس: يُحذّر به غيره يقول: أنتَ أكرمُ الخلق عليَّ، ولو اتخذت من دوني إلهاً لعذبتك، ثم أمر تعالى رسوله بتبليغ الرسالة فقال {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} أي خوِّف أقاربك الأقرب منهم فالأقرب من عذاب الله إن لم يؤمنوا، روي أنه صلى الله عليه وسلم قام حين نزلت عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فقال: "يا معشر قريشٍ اشتروا أنفسكم من اللهِ لا أُغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباسُ بن عبدِ المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيةُ عمةَ رسول الله لا أُغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمةُ بنتَ محمد سليني ما شئتِ لا أُغني عنك من الله شيئاً" قال المفسرون: وإِنما أُمر صلى الله عليه وسلم بإِنذار أقاربه أولاً لئلا يظن أحدٌ به المحاباة واللطف معهم فإِذا تشدَّد على نفسه وعلى أقاربه كان قوله أنفع، وكلامه أنجع {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي تواضعْ وأَلِنْ جانبك لأتباعك المؤمنين {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي فإِن لم يطيعوك وخالفوا أمرك فتبرأ منهم ومن أعمالهم قال أبو حيان: لما كان الإِنذار يترتب عليه الطاعة أو العصيان جاء التقسيم عليهما فكأن المعنى: من اتبعك مؤمناً فتواضع له، ومن عصاك فتبرأ منهم ومن أعمالهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي فوّض جميع أمورك إلى الله العزيز، الذي يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي يراك حين تكون وحدك تقوم من فراشك أو مجلسك وقال ابن عباس: حين تقوم إلى الصلاة {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} أي ويرى تقلُّبك مع المصلين في الركوع والسجود والقيام، والمعنى يراك وحدك ويراك في الجماعة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي إنه تعالى السميع لما تقوله، العليم بما تخفيه.
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224)أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225)وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ(226)إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)}.
نزول الآية (224) وما بعدها:
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء، فأنزل الله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ} الآيات
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ} إلى قوله: {مَا لا يَفْعَلُونَ} قال عبد الله بن رَواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ السورة.
وأخرج ابن جرير والحاكم عن أبي حسن البرّاد قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ} الآية، جاء عبد الله بن رواحة، كَعْب بن مالك، وحسان بن ثابت، فقالوا: يا رسول الله، والله لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء، هلكنا، فأنزل الله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليهم.
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} ؟ أي قل يا محمد لكفار مكة: هل أخبركم، على من تتنزَّل الشياطين؟ وهذا ردٌّ عليهم حين قالوا إنما يأتيه بالقرآن الشياطين {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أي تتنزَّل على كل كذَّابٍ فاجر، مبالغٍ في الكذب والعدوان، لا على سيّد ولد عدنان {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي تُلقي الشياطين ما استرقوه من السمع إلى أوليائهم الكهنة، وأكثرهم يكذبون فيما يوحون به إليهم وفي الحديث (تلك الكلمةُ من الحقِّ يخطفها الجنيُّ فيقرقرها - أي يلقيها - في أُذن وليّه كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة) قال الزمخشري: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} هم الشياطين كانوا قبل أن يُحجبوا بالرجم يسمّعون إلى الملأ الأعلى، فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من الكهنة والمتنبئة {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فيما يوحون به إليهم، لأنهم يُسمعونهم ما لم يسمعوا، ثم ردَّ تعالى على من زعم أن محمداً شاعر فقال {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} أي يتبعهم الضالون لا أهل البصيرة والرشاد {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} أي ألم تر أيها السامع العاقل أنهم يسلكون في المديح والهجاء كل طريق، يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، ويعظّمون الشخص بعد أن احتقروه قال الطبري: وهذا مثلٌ ضربه الله لهم في افتتانهم في الوجوه التي يُفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قوماً ويهجون آخرين {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} أي يكذبون فينسبون لأنفسهم ما لم يعملوه قال أبو حيان: أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حال النبوة، إذْ أمرهُم كما ذُكر من اتّباع الغُواة لهم، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمّه، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم، وهذا مخالف لحال النبوة فإِنها طريقة واحدة لا يتبعها إلا الراشدون، ثم استثنى تعالى فقال {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي صدقوا في إيمانهم وأخلصوا في أعمالهم {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أي لم يشغلهم الشعرُ عن ذكر الله ولم يجعلوه همَّهم ودينهم {وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أي هجوا المشركين دفاعاً عن الحق ونصرةً للإِسلام {وَسيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} وعيدٌ عام في كل ظالم، تتفتت له القلوب وتتصدع لهوله الأكباد أي وسيعلم الظالمون المعادون لدعوة الله ومعهم الشعراء الغاوون {أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}؟ أي أيَّ مرجع يرجعون إليه، وأي مصيرٍ يصيرون إليه؟ فإِنَّ مرجعهم إلى العقاب وهو شرُّ مرجع، ومصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير.