السلام عليكم ورحمة الله وبركاته العلم فضله وآدابه ووسائله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أولا: ما المراد بالعلم ثانيا: أهمية العلم الذي يحتاج إلى تعلمه ثالثا: كيفية التعلم نقول إن المراد بالعلم، هو العلم الشرعي الذي أخذ من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، يقول ابن القيم في نونيته: العلم قال الله قال رسوله ******** قال الصحابة هم أولو العرفان ما العلم نصبك للخلاف سفاهة **** بين النصوص ويبن رأي فلان هـذا حقيقة العلم ، وذلك لأن القرآن الذي نحن نهتم به ونقرأه ونتلوه ونتعلمه هو منبع العلوم وأصلها، ولأجل ذلك يؤمر الذين يتعلمونه ويحفظونه أن يتعلموا معانيه كما يتعلمون ألفاظه، وقد ثبت أن الصحابة – رضي ا لله عنهم – كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قالوا فعلمنا العلم والعمل. لا شك أن القرآن فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، فهو الفصل ليس بالهزل .. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله . ذكر الله تعالى أن الجن لما استمعوه { فقالوا إنا سمعنا قرانا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا } [الجن : 1-2] .. فما فيه كله رشد وكله هدى، وقد تكفل الله تعالى بحفظه، قال الله تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر : 9] ، هكذا أخبر سبحانه أنه تولى حفظه . كذلك أيضا قد تولى الصحابة رضي الله عنهم بيان معانيه، تولوا تفسيره وبيان ما فيه من المعاني، ثم يسر الله من العلماء من فسروا ألفاظه، وفسروا معانيه، وبينوا ما يستنبط منه من الأحكام، فما بقي لأحد عذر في أن يجهل معاني القرآن . لا شك أن القرآن قد تناوله بعض المحرفين من المعتزلة والمبتدعة، وحرفوا الكلم فيه، ولكن صانه الله تعالى وحماه عن أن يحرفوا ألفاظه، وإنما فسروا معانيه بتفاسير بعيدة، فيسر الله من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة من فسره التفسير الصحيح، فلذلك نقول: إن على طالب العلم أن يقتصر على التفاسير التي اعتنت ببيان ألفاظه واقتصرت على القول الصحيح، مثل تفسير ابن جرير الطبري رحمه الله، وتفسير ابن أبي حاتم، وتفسير البغوي ، وابن كثير رحمهم الله .. هؤلاء من علماء أهل السنة، وكذلك من المتأخرين مثل تفسير ابن سعدي وتفسير الجزائري، أما أكثر التفاسير فإن فيها ضلالات وتحريفات ، فيقتصر المسلم على تفسير يكون موثوقا. أما بالنسبة إلى السنة، فإن السنة - التي هي الأحاديث النبوية - تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه، وقد أمر ا لله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين هذا القرآن ، فقال له : { وأنزل إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } [النحل : 44] ، وقد بينه صلى الله عليه وسلم بأقواله وبأفعاله، وكذلك بين الشريعة التي أرسل بها، وقد وفق الله تعالى صدر هذه الأمة للعناية بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فنقلوه نقلا ثابتا، ثم كتبوه في مؤلفات، وبينوه ، وتكلموا على صحيحه وما ليس بصحيح، وما هو حسن، وما يعمل به وما لا يعمل به، وشرحوه أيضا، وشرحوا غريبه، وتكلموا على أسانيده .. فأصبحت السنة محفوظة، لأن حفظها من تمام حفظ الشريعة التي شرعها ا لله تعالى . فنقول أيضا: إن على طالب العلم أن يهتم بحفظ السنة، أو بقراءة ما تيسر منها، فإن فيها علما جما، علما نافعا، وحيث أن الكتب كثيرة قد لا يسمح الوقت لكي يقرأها طالب العلم كلها، فإن عليه أن يهتم بمبادئها، فإن أصح الكتب صحيح البخاري ثم مسلم، ولطول الكتابين يشق قراءتهما في وقت قصير، فلذلك يسر الله تعالى من العلماء من اختصر الصحيحين، فهناك كتاب " اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان " ، وفي الإمكان أن يستفيد منه ويعرف الأحاديث الصحيحة التي اتفق عليها البخاري ومسلم، وإذا أراد مختصر واحد منهما وجده فيستفيد منه، وإذا أراد نبذا من هذين الصحيحين وجد أيضا مختصرات، وكذلك أيضا إذا أراد شروحا وجد شروحا توضح المعاني والألفاظ .. كذلك أيضا أقوال الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - ، وذلك لأن الصحابة تعلموا من نبيهم صلى الله عليه وسلم ، والتابعون تعلموا من الصحابة ؛ فلذلك تعتبر أقوالهم، وتعتبر أحكامهم وتفاسيرهم من السنة، من تعلمها فإنه على هدى، وقد يسر الله تعالى من حفظ أقوالهم ورواها بالأسانيد، واعتبروها من السنة، واعتبروها من الشريعة، فمن طلبها وجدها. فهذه هي المراجع الأساسية للعلم، كتاب الله أولا، ثم سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أقوال الصحابة وأفعالهم، وتلامذتهم، هذا هو العلم الذي ينبغي أن يبدأ به . بعد ذلك نقول ما حكم تعلم هذا العلم ؟ الجواب: ما تعلمه : منه ما هو واجب ، ومنه ما هو مستحب . الواجب هو ما كان مكلفا به كل إنسان، فإن كل فرد من الأمة مطالب بالعمل، مطالب بالعبادات أن يتعبد بها، ولا شك أن التعبد على جهل لا يقبل ؛ فلأجل ذلك فرض عليك أن تتعلم ما أنت مأمور بالعمل به، حتى لا تتخبط في الأعمال .. فإن التخبط في العمل ، والعمل على جهل ، وسيلة وذريعة إلى رد العمل وعدم قبوله وعدم إجزائه، فلا بد أن تتعلم، وأهم شيء تتعلمه هو علم الديانة، العلم الذي أنت مطالب به . تتعلم كيف طهارتك وكيف صلاتك وكيف عباداتك، والمراد بالعبادة التي أنت مخلوق لها، وما حرم الله عليك حتى تتجنبه، وما كلفك به حتى تطبقه، وما أنت مأمور بفعله حتى تعمله، وتتعلم الآداب وتتعلم الأحكام، وكلها – والحمد لله – ميسرة ما بين مختصر وما بين مبسوط، وتعلمها سهل يسير، ولا شك أن من تعلم هذا له أجر كبير. إذا تعلمها أثابه الله على تعلمه لما هو فرض ولما هو نفل، والأدلة على ذلك كثيرة. مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ومن سلك طريقا يلتمسن فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة " .. ثواب عظيم، فالجنة هي أعلى مقاصد الإنسان في الآخرة، من دخل الجنة فقد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وكيف يحصل عليها؟ هذا إذا سلك طريقا يتعلم فيه علما شرعيا، وليس المراد بالطريق أن يسافر سفرا بعيدا يقطعه في أيام أو في أشهر ، بل يعم ذلك كل من توجه إلى مكان يتعلم فيه ولو بضع دقائق بينه وبين مسكنه ، فإنه والحال هذه يعتبر قد حصل على علم وسلك طريقًا .. إذا توجهتَ من بيتك إلى حلقات علمية أو ندوات أو محاضرات أو حلقات تحفيظ قرآن وقصدك أن تتزود من هذا العلم، من القرآن أو من السنة أو من المسائل والأحكام الدينية فأنت قد سلكت طريقا تلتمس فيه علما، وقد اشتمل هذا الحديث الذي هذا أوله على فضل طالب العلم ، ففي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال : " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " يتكرر هذا الحديث على المسامع دائما، ولكن الهمم ضعيفة، يسمعه الكثير وما رأينا حوافز تدفع إلى تعلم العلم الصحيح !! آداب ووسائل طلب العلم : وبعد أن عرفنا أهمية وفضل تعلمه نذكر بعض الأسباب التي تكون وسيلة إلى تعلمه وتحصيله ، وتسمى آدابا ووسائل يتوصل بها طالب العلم إلى أن يبارك الله تعالى في أيامه، ويبارك في علومه، ولو كانت علوما قليلة : أولا: الإخلاص في تعلم العلم: فإن الإخلاص شرط في قبول الأعمال كلها ومن جملتها العلم، أمر الله بالإخلاص في الدين في قوله تعالى : { فاعبد الله مخلصا له الدين ألا له الدين الخالص } [الزمر :2-3] ، وفي قوله سبحانه : { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين } [الزمر : 11] ، وذلك بإصلاح القصد وإصلاح النية في طلب العلم. فإن هناك من ينوي بتعلمه شغل الوقت، يقول عندي وقت فراغ أشغله بهذا التعلم، وليس له قصد في المنفعة، ولا شك أن هذا قصد قاصر، قصد ناقص إذا كان لمجرد شغل الوقت ، لأن هؤلاء إذا وجد أحدهم ما يشغل به وقته غير العلم انشغل به، فكأنه وجد فراغا فأخذ المصحف أو أخذ الكتاب حتى يشغل هذا الفراغ، ولو وجد كتابا ليس علميا لشغل به وقته، ولو وجد من يحدثه لشغل وقته بهذا الكلام الدنيوي أو اللهو. ومن الناس من يكون قصده بتعلمه أمرا دنيويا ، فيقول أتعلم حيث أنه يبذل في هذا التعلم مكافأة، أو أجرة، أو مال أو نحو ذلك، فيكون من الذين تعلموا العلم لأجل الدنيا، ولا شك أن هذا يفسد النية، ولا يحصل له الفضل الذي ورد في فضل تعلم العلم. ومن الناس من يكون قصده بالتعلم مجرد شهادة أو مؤهل يحصل به على ترقية أو وظيفة أو نحو ذلك، وهذا أيضا مقصد دنيء لا يليق بالمؤمن أن يقصد هذا المقصد ؛ وذلك لأنه لا يبارك له في علمه إذا كان يدرس لمجرد أن يحصل على كفاءة أو توجيه، أو ما أشبه ذلك، فيكون قصده قصدا دنيئا، وغير ذلك من المقاصد الدنيوية. وإذا قلت فما المقصد الصحيح؟ وكيفا إذا تعلمت العلم يكون قصدي قصدا حسنا ؟ الجواب: أولا: تنوي إزالة النقص، وذلك لأن الجهل نقص، فالله تعالى أخبر بأنه أخرجنا إلى الدنيا من بطون أمهاتنا جهلاء، قال تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } [النحل : 78] ، فإذا عرفت أن الإنسان ناقص في حالة جهله، ونويت أن تزيل هذا النقص لتحصل لك صفة كمال فإن هذا مقصد حسن، فتقول إني رأيت الجهلاء لا يعرفون وقدرهم ناقص عند الناس فأنا أريد أن أسد هذا الفراغ وأن أكمل ذلك النقص. ثانيا: أن تنوي شرف العلم وشرف العلماء، إذا عرفت أن للعلم فضلا، وأن العلماء لهم شرف، ولهم ميزة، يرفعهم الله تعالى بهذا العلم، إن ا لله يرفع بهذا العلم أقواما ويضع به آخرين، يقول الله تعالى : { و إذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [المجادلة : 11] . ويقول الشاعر: العلم يرفع بيتا لا عماد له ****** والجهل يهدم بيت العز والشرف فأنت تنوي أن يكون هذا العلم فضلا وشرفا يرفعك الله به. ثالثا: أن تنوي العمل على بصيرة، لأنك مكلف، فإن الإنسان منا عليه أعمال وعليه واجبات وطاعات مأمور أن يتعبد بها، ومحرمات منهي عن فعلها .. وكيف يؤديها وتكون مجزئة ؟ لا بد من أن يتعلم، حتى يعمل على بصيرة .. فمن توضأ وهو جاهل لم يعمل بالوضوء الصحيح، ومن لم يتعلم نواقض الوضوء انتقض وضوءه وهو لا يشعر، ومن لم يتعلم كيفية الصلاة وما يجب فيها ما قبلت منه صلاته، ومن لم يتعلم كيفية الحج وقع في أخطاء تفسده أو تبطله . فإذا نويت أن تتعلم حتى تعمل على بصيرة ويجزئك العمل ويصير مقبولا فهذه نية صالحة يثيبك الله تعالى على ذلك ويوفقك. رابعا: إذا نويت حمل هذا العلم الذي هو علم الكتاب والسنة، لتبلغ من يجهل من أهلك وأقاربك وغيرهم ما يجهلونه، فقد ورد في الحديث " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " (1). ففي هذا أن حملة العلم هم أهل العدالة ، فالذي ينبغي أن يكون من هؤلاء العدول نية صالحة ، نية صادقة، وهكذا تكون المقاصد . هكذا ذكرنا أربعة أسباب تكون بها نية الإنسان صالحة، وأربعة تكون بها نيته فاسدة. كيفية طلب العلم : بعد ذلك كيفية التعلم والآداب التي يحصل بها على العلم .. فقد يقول قائل إن التعلم خاص بالصغار وأن الإنسان إذا أسنَّ فاته سن التعلم، وأنا قد كبرتُ، وقد طعنتُ في السن، فكيف أحصل على العلم؟ فنقول إن الإنسان يتعلم ولو بلغ الستين أو السبعين ، فإن باب العلم مفتوح ووسائله مهيأة، وليس هناك عوائق، ونعرف أن كثيرا من الصحابة أسلموا وهم كبار السن، منهم ابن الستين وابن السبعين سنة ومع ذلك تعلموا، وكذلك التابعون الذين دخلوا في الإسلام وقد أسنوا ، تعلموا وأصبحوا حفظة وعلماء ورواة .. لا شك أن هذا ليس عذرا أن يكون الإنسان قد تجاوز السن الذي يتعلم فيه فيترك التعلم. فللعلم آداب، ونذكر بعض تلك الآداب التي تكون وسيلة لذلك : أولا: إحضار القلب عند التعلم، فإن الكثير الذين يحضرون مجالس العلم والقلب غافل يجول في الشهوات، أو كذلك يحضرون خطب الجمع وأحدهم ناعس أو يوسوس في أمور بعيدة، فإنه لا يستفيد من الخطب، ولا يستفيد من التعلم ولا من الحلقات العلمية، فلا يكون بذلك مستفيدا، فلا بد أن تحضر قلبك ولبك. ثانيا: الحرص، فلا بد أن يكون طالب العلم حريصا على التعلم، فإن الذي يقول إن وجدت وسيلة تعلمت وإلا فلست بحاجة إلى العلم، ولست مُكَلِّفًا نفسي ..! ليس هذا وصفُ طالب العلم، لا بد أن يحرص على التعلم، ويكون في قلبه همة واندفاع إلى التعلم. ثالثا: تفريغ وقت لطلب العلم، فإن الكثير الذين جعلوا أوقاتهم إما في مجالس عادية : زيارات ومجالسات مع أصدقاء أو مع زملاء أو مع أهل أو نحو ذلك، يفوتهم التعلم . كذلك أيضا إذا جعلوا أوقاتهم كلها في طلب الدنيا : في حرفة ، في تجارة ، في مصنع ؛ وكذلك إذا جعلوا أوقاتهم في أسفار لنزهة أو زيارة عادية ، أو أسفار لا أهمية لها ، لا شك أنه يضيع عليهم الأوقات، فلا بد أن يخصص طالب العلم وقتا، كما إذا خصص كل يوم ساعة أو ساعتين ، فإنه مع المواصلة يحصل على علم، بخلاف من شغل وقته بالقيل والقال، أو شغله بالزيارات، أو شغله بالخرافات، أو بالسماعات، أو بالعكوف على الملاهي، أو ما أشبه ذلك، فإنه قل أن يستفيد. وكثير قد تعلموا علما، ثم انشغلوا عن العلم به وانشغلوا عن ترداده، فكان ذلك سببا لنسيانه ولغفلتهم عنه. ومعلوم أن الإنسان في هذه الدنيا لا بد أن يكون له رزق يقتات به، فإذا يسر الله تعالى له من القوت ما يكتفي به فعليه أن يجعل بقية الوقت في طلب العلم، وإذا ضاقت به الحالة فإنه مرخص له أن يطلب الرزق، وأن يبتغى من فضل الله، لقوله تعالى : {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة : 10] ، ولقوله : {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل : 20] ، يبتغون الرزق، فإذا يسر الله للإنسان رزقا هنيئا حلالا يتقوت به، ويقوت به من تحت يده ومن يعول، فإن عليه أن يجعل وقته أو بقية وقته للاستفادة ولطلب العلم . رابعا: الصبر والتحمل، فإنه قد يلقى مشقة، لكن عليه أن يتحمل، فإذا عرض له من يعوقه قطع تلك العوائق، وإذا نازعته نفسه وشعر بالملل والتعب والسآمة عصى تلك الدوافع ، فإن النفس قد تميل إلى الراحة، وقد تميل إلى النوم وإلى الكسل وإلى الخمول، ولكن إذا عزم الإنسان ودفع نفسه، فإنها تطاوعه. وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ****** فإن أطمعت تاقت وإلا تسلتِ والنفس كالطفل إن تهمله شب على ***** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم فهكذا النفس إذا أطيعت فإنها تندفع إلى الشهوة، وإلى اللذة، وإلى النوم، وإلى الراحة . نجد أن كثيرا أضاعوا أوقاتهم، فإذا دخلت إلى الحدائق وجدتها مليئة ، وإذا دخلت إلى المقاهي وجدتها مليئة، وليس لهم حاجة إلا مجرد التسلي والترفيه بزعمهم يرفهون عن أنفسهم . فإذا تركت النفس على ما هي عليه اندفعت إلى ذلك اللهو، وإذا فطمت وترك ما تميل إليه انتفع الإنسان بالوقت ولم يضع عليه وقته. خامسا: الاستمرار وعدم الانقطاع، فهكذا طالب العلم لا ينقطع عن التعلم ولا عن العلم في وقت من الأوقات، بل يستمر عليه إلى الممات .. يقول بعض السلف : اطلب العلم من المهد إلى اللحد، أي منذ أن تكون صغيرا إلى الموت، وكان كثير من السلف يطلبون العلم ويكتبونه، فيدخل أحدهم إلى الأسواق ومعه المحبرة - الدواة التي فيها الحبر - ، وسنه كبير، فيُقال : لا تزال تحمل المحبرة ؟ فيقول : من المحبرة إلى المقبرة، أي لا نزال نواصل العلم. ونسمع عن كثير من طلبة العلم أنهم يواصلون طلب العلم ليلا ونهارا ولا يملون ولا يتكاسلون، ويذكر أن أحد مشايخ مشايخنا كان طوال ليله وهو يقرأ للتحفظ أو يكتب العلم، فيجيئه بعض المحسنين بعشاء بعد صلاة العشاء ويوضع إلى جنبه ولا يتفرغ لأكله إلا بعد الأذان الأول في آخر الليل، ويجعله سحوره، يجعل عشاءه سحورا انشغالا بطلب العلم، انشغالا بالقراءة والكتابة وما أشبه ذلك. ونسمع عن الأولين أن أحدهم يسافر مسيرة شهر وشهرين في طلب حديث أو أحاديث ويغيب عن أهله سنة أو سنتين أو سنوات كل ذلك لطلب العلم ولا يملون، ولا يقولون أضعنا أهلنا، أو هجرنا بلادنا .. لأن الدافع قوي وهو تحصيل العلم النافع، فهكذا يكون طالب العلم. سادسا: التكرار، أي تكرار ما علمه وذلك لأنه إذا تعلم فائدة ثم تغافل عنها ذهبت من ذاكرته ونسيها بسرعة، وأما إذا تذكرها مرة بعد مرة، قرأ الحديث وبعد حفظه راجعه بعد شهر وبعد أشهر حتى يرسخ ويثبت في ذاكرته فإنه يكون من حملة العلم وحفظته . لذلك كان السلف يوصون بمذاكرة العلم ، يقول بعضهم: مذاكرة ليلة أحب إلي من إحيائها. يعني كوني أجلس في هذه الليلة أتذكر العلم وأتذكر ما حفظته أحب إلي من أن أقومها قراءة وتهجدا وصلاة وركوعا وسجودا ، وذلك لأن هذا - أي مذاكرة العلم - نفع متعد . سابعا: كتابة ما استفاده ، فكلما استفاد فائدة أثبتها معه في دفتر أو ورقة وكررها إلى أن يحفظها . يقول العلماء : " إن ما حفظ فر وما كتب قر " ، أي أن ما كتبته ستجده فيما بعد .. ويشبهون العلم بالصيد، فيقول بعضهم: العلم صيد والكتابة قيده ******** قيد صيودك بالحبال الواثقة فمن الحماقة أن تصيد غزالة ****** وتتركها بين الخلائق طالقة إذا صاد الإنسان غزالة ثم أطلقها فإنها تهرب، بخلاف ما إذا قيدها بحبل وثيق، فهكذا الكتابة تثبت هذه العلوم بحيث أنك تجدها فيما بعد ويصل عليها . وقد يسر الله أيضا في هذه الأزمنة التسجيلات التي تحفظ الكلام الذي أنت تريد حفظه لتراجعه فيما بعد وتستفيد منه بعد يوم أو بعد أيام أو ما أشبه ذلك. ثامنا: الواضع، لا سيما في مجالس العلماء، وذلك أن العالم هو الذي يتواضع لمن يعلمه، وقد ورد في الأثر : " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر " (1) . فالذي يتكبر ولا يتواضع لمن هو أصغر منه لا يوفق للعلم كما إذا رأى عالما أصغر منه سنا يقول كيف أتعلم من هذا الطفل ؟ أو من هذا الصغير الذي أنا أكبر منه ؟ نقول : إن الله تعالى شرفه وفضله بالعلم فعليك أن تصغر نفسك وتتواضع وتأخذ العلم ممن هو معه ، ولو كنت أشرف وأغنى وأكبر وأرقى فإن العلم يؤخذ من منابعه ومن أهله. تاسعا: الجرأة وعدم الاستحياء، يعني أنك إذا صرت تستحي من أن تسأل بقيت على جهلك ؛ ولذلك قال بعض السلف : " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر " ، يحمله تكبره على أن يعجب بنفسه ويبقى على جهله، وكذلك أيضا يحمله استحياؤه عن أن لا يطلب أو يستفيد ممن معه علم فيبقى على جهله. نقول إن الإنسان إذا تأدب بهذه الآداب الشرعية فإن الله تعالى يوفقه ويفتح عليه ويرزقه العلم النافع والعمل الصالح، ونذكر الخصال الستة التي أشرنا إليها حيث نظمها بعضهم : أخي لن تنال العلم إلا بستة ***** سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة **** وصحبة أستاذ وطول زمان هذه هي الوسائل التي يمكن أن ينال طالب العلمِ العلمَ بها ، ولا شك أن العلم موهبة وفضل من الله تعالى ، فإن الكثير من العلماء المشاهير لهم أولاد انحرفوا عن العلم وصاروا دنيويين، وكثير من الجهلة يسر الله لأولادهم فتعلموا وصاروا قادة وسادة، فهو فضل من الله تعالى، متى كان عند الإنسان نية صادقة وأحب مواصلة التعلم يسر الله تعالى له العلم. نكتفي بهذا، نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا، وعملا صالحا متقبلا، وأن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه على كل شيء قدير. الشيخ عبد الله الجبرين