إن الإيمان باليوم الآخر، وما اشتمل عليه من أهوال ومشاهد، ابتداءً بحياة البرزخ إلى ما بعد ذلك من بعث، وحشر، وحساب، وجنة، ونار ..، ضرورة حتمية، إذ هو من مقتضيات الإيمان بحكمة الله تعالى وعدله قال تعالى: (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ{21}) [الجاثية:21] .
والعاقل يرى في هذه الحياة، الطائعين القائمين بما أمر الله به وافترض عليهم، وبالمقابل يرى المكذبين لأمر الله المعرضين عن أوامره، ومع هذا فقد لا يحصل أحدٌ منهم على جزائه في الدنيا، وحكمة الله تعالى تأبى أن تجعلهما متساويين: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ{35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ{36}) [القلم:35-36].
والمتأمل لهذا الكون العظيم، بما اشتمل عليه من دلائل الربوبية والألوهية، يعلم علماً يقينياً بأن هذا لم يخلق عبثاً ولا سدى (1) .
قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ{115}) [المؤمنون:115] .
والإيمان باليوم الآخر من الإيمان بالغيب الذي مدح الله تعالى المتصفين به في قوله تعالى: (الم{1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{3}) [البقرة:1-3] .
واليوم الآخر عالم آخر فيه أمور عظيمة، وأهوال جسيمة، لا ينجو منها إلا من نجاه الله فأسعده بطاعته، ولهذا كثرت أسماؤه وتعددت في القرآن الكريم، فمنها يوم البعث، ويوم الجمع، ويوم الفزع الأكبر، ويوم التناد، ويوم الدين، ويوم الحسرة، يوم الفصل، الواقعة، والحاقة، والطامة، ويوم الحشر .. إلخ (2) .
تعريف البعث:
البعث في اللغة: الإرسال يقال: "بعثه وابتعثه بمعنىً، أي أرسله، فانبعث" (3) .
ويأتي بمعنى الإسراع يقال: "انبعث في السير أي أسرع" (4) .
ويأتي بمعنى الإحياء بعد الموت (5) ، ويأتي بمعنى الإثارة، والنشر، والتحريك (6) .
أما في اصطلاح الشرع:
فيراد به البعث بعد الموت، بإحياء الأجساد، وعودة الأرواح إليها، وذلك بعد النفخ في الصور، النفخة الثانية.
قال ابن كثير – رحمه الله – : "البعث وهو المعاد، وقيام الأرواح، والأجساد يوم القيامة" (7) .
وقال الشيخ عبدالعزيز السلمان – حفظه الله – في تعريف البعث هو: "إعادة الأبدان وإدخال الأرواح فيها فيخرجون من الأجداث أحياء مهطعين إلى الداعي" ا.هـ (8) .
وهذه التعاريف تدل على اشتمال البعث على بعث الأجساد والأرواح، إذ المعاد الجسماني هو: "المتبادر عند الإطلاق، ويجب الإيمان به واعتقاده ويكفر منكره" (9) .
وأيضاً تعاد هذه الأبدان، بأعيانها وأعراضها قال القرطبي – رحمه الله – : "وعند أهل السنة أن تلك الأجساد الدنياوية تعاد بأعيانها وأعراضها بلا خلاف بينهم" (10) .
وقال ابن حزم – رحمه الله – : "أجمع جميع المسلمين على أن الله تعالى يبعث الأجساد يوم القيامة، فيرد إليها أرواحها" ا.هـ (11) .
بل معاد الأجساد أمر متفق عليه عند أصحاب الملل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : "ومعاد الأبدان متفق عليه عند المسلمين واليهود والنصارى" ا.هـ (12) .
وقال صاحب المواقف: "أجمع أهل الملل عن آخرهم على جوازه ووقوعه" ا.هـ (13) .
واختلف أهل الكلام هل الإعادة عن عدم، أم عن تفريق على قولين:
الأول: إن الإعادة عن عدم، بمعنى أن الأجساد تعدم، ثم تعاد خلقاً آخر.
الثاني: إن الإعادة عن تفريق، بمعنى أن أجزاء الميت تتفرق، ثم يجمعها الله تعالى بعد ذلك، وينفخ فيها الروح، وقال به بعض المعتزلة(14).
ورجحه القرطبي (15) ، ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية (16) ، وتلميذه ابن القيم (17) ، وتوقف فيه الأيجي (18) – رحمهم الله – .
واختلفوا أيضاً هل المبعوث الجسم الأول بعينه، أو غيره على قولين أيضاً (19) .
والذي عليه سلف الأمة أن الأجساد تستحيل تراباً كما كانت (20) ، عدا عجب الذنب (21) كما في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق وفيه يركب" (22) ، وهذه الاستحالة ليست أمراً مستحيلاً فها هي النطفة تستحيل علقة، ثم مضغة، ثم تكتمل بشراً سوياً، وكذلك في أثناء حياته فهو يبدأ طفلاً ثم شاباً، ثم كهلاً، وهكذا الإعادة، يعاد الخلق بعد أن استحالوا تراباً (23) .
والقول بأن المبعوث جسم آخر، أو خلق جديد، قول باطل، ويدل على بطلانه عدة أمور:
الأول: ما دلَّ عليه الحديث السابق، ولقولـه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض، فقال:ا جمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيت، فغفر له" (24) .
الثاني: إن قولهم هذا قوى شبهة الفلاسفة في نفي المعاد الجسماني، حيث أن الله تعالى يخلق جسماً آخر تتنعم فيه الروح أو تتعذب، فهي – أي الروح – المقصودة بالعذاب أو النعيم.
الثالث: إن الإعادة التي ذكرها الله تعالى في كتابه، هي الإعادة التي فهمها المسلمون والمشركون، وهي تقتضي إعادة المخلوق من المادة التي استحال منها بعد فنائه، من الفرق بين النشأة الأولى والثانية، والجسد هو الأول بعينه (25) .
الرابع: إن هذا القول لو كان صحيحاً، لم يكن هناك ما يدعو الكفار إلى التعجب وإنكار البعث، لأنهم يرون خلق البشر يوماً بعد يوم ماثلاً للعيان، وإنما إنكارهم وتعجبهم أن تعود تلك الأجسام والأرواح كما كانت قال تعالى: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ{16}) [الصافات:16].
الخامس: إن هذا القول يلزم منه، ألا يسمى البعث بهذا الاسم، وإنما يسمى خلقاً جديداً، وهذا باطل (26) .
ومع اتفاق الشرائع على الإخبار بالبعث تأكيده، فقد أنكره قوم، وتأولـه آخرون على المعاد الروحاني، دون الجسماني، اعتماداً على استحالة ذلك في عقولهم القاصرة، والخلاصة أنَّ الناس في البعث على أربع طوائف:
الأول: إثبات المعاد للبدن والروح جميعاً، وهو قول سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم، بل على ذلك أيضاً اتفق المسلمون، وغيرهم من أهل الملل كاليهود والنصارى،كما سبق بيان ذلك (27) .
الثاني: إنكار المعاد للأبدان والأرواح، كما هو اعتقاد مشركي العرب، واليونان والهند، وهو مذكور في القرآن.
الثالث: قول من يثبت المعاد للأبدان فقط، ونسب شيخ الإسلام – رحمه الله – هذا القول إلى كثير من المتكلمين من الجهمية والمعتزلة.
الرابع: المعاد للأرواح فقط دون الأبدان وهو قول الفلاسفة أتباع أرسطو (28) من أمثال ابن سينا (29) ، والفارابي (30) ، وغيرهما من المنافقين، والصابئين، والمجوس، والباطنية (31) ... (32) .
وقد صرح ابن سينا وغيره من الفلاسفة بإنكار البعث الجسماني، وإن كان نُقل عن ابن سينا أقوال بإثباته لكن لا يعول عليها للأسباب التالية:
1- تصريحه بنفي البعث الجسماني في مصنفاته، وخاصة في الرسالة الأضحوية كما سيأتي.
2- إن هذا الأمر من الخطورة بمكان، إذ هو إنكار ما ثبت عند المسلمين، بالسمع والعقل والفطرة، فلو رجع عن ذلك الأمر لصرَّح بنقض رأيه السابق.
3- إنه من الباطنية، الذين يظهرون غير ما يبطنون، فقد يكون تصريحه هذا نفاقاً وتقية كما ذكر ذلك ابن القيم (33) – رحمه الله – .
ومن تصريحه بنفي المعاد قولـه: "فإذا أبطل أن يكون المعاد للبدن وحده، وبطل أن يكون للبدن والنفس جميعاً وبطل أن يكون للنفس على سبيل التناسخ فالمعاد إذن للنفس وحدها على ما تقرر" (34) .
الشبه التي تمسك بها منكرو البعث:
تمسك منكرو البعث بشبه ثلاث كلها باطلة:
الأولى: أن الميت إذا مات تفتتت أجزاؤه، واختلطت بالتراب على وجه لا يمكن تمييزه وقالوا "أنت إذا تأملت وتدبرت، ظهر لك أن الغالب على ظاهر التربة المعمورة جثث الموتى المتربة، وقد حرق فيها وزرع، وتكون منها الأغذية، وتغذّى بالأغذية جثث أخرى، فأنى يمكن بعث مادة كانت حاملة لصورتي إنسانين في وقتين لهما جميعاً في وقت واحد، بلا قسمة" (35) .
الثاني: إن البعث لا علاقة له بالقدرة.
الثالث: إن البعث والحشر أمر لا فائدة منه، ولا تقتضيه الحكمة والحكمة بقاء النوع الإنساني وتجدده (36) .
وهناك شبه أخرى، أعرضت عنها لأنها تعود إلى ما سبق (37) .
وهذا الضلال منشؤه القياس الفاسد، فقد قاسوا بعقولهم قدرة الرب تعالى بقدرة البشر، فاعتقدوا استحالة ذلك، ولهذا نجد أن القرآن الكريم في تقريره لقضية البعث، يركز على ثلاثة أصول:
الأول: تقرير كمال العلم، قال تعالى: ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ{61})[يونس:61] وهذه الآية جاءت بعد الآيات التي فيها إثبات البعث.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ{78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ{79}) [يس:78-79] .
الثاني: تقرير كمال القدرة كما في قوله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ{81} إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ{82}) [يس:81-82] .
الثالث: تقرير كمال الحكمة قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ{115}) [المؤمنون:115] وقوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى{36} )[القيامة:36] .. (38) .
وأدلة إثبات البعث والرد على منكريه كثيرة جداً، منها ما يتعلق بالإمكان ومنها ما يتعلق بالوقوع كما قصه الله تعالى علينا في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ{243})[البقرة:243] .
وقوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{259}) [البقرة:259]
وقوله تعالى في شأن أصحاب الكهف: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ) [الكهف:19] .
وغير ذلك وبيان ذلك في مواطنه (39) ، وقد تعددت أساليب القرآن الكريم وتنوعت طرقه في إثبات قضية البعث، بل لم يتناول القرآن الكريم – بعد الإيمان بالله – أمراً من أمور العقيدة أبلغ مما تناول أمر البعث ومن خلال هذه الأدلة يأتي الرد على منكري البعث، وبالله التوفيق ومنه أستمد العون.
الدليل الأول: ما ورد في سورة يونس من تأكيد هذه القضية بتعدد الأساليب، وتنوعها ومن ذلك:
1- نفي الشك عن وقوع البعث، بحيث يصبح قضية مسلَّمة، لا جدال فيها قال تعالى: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس:4].
2- توبيخ المكذبين بالبعث، وبيان حالهم يوم القيامة، وما هم فيه من الذل والندامة، قال تعالى: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ{7} أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ{8}) [يونس:7-8] .
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{23}) [يونس:23].
وقوله: ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ{45} وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ{46}) [يونس:45-46] .
وقوله: (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ{69} مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ{70})[يونس:69-70] .
وقولـه: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ{96} وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ{97}) [يونس:96-97] .
وهذه الآيات وغيرها فيها من الوعيد، والتهديد، وبيان حال المكذبين ما من شأنه أن يوقظ القلب الغافل، للإيمان بالله تعالى واليوم الآخر.
3- بيان عجز الآلهة عن إعادة الخلق، فدل ذلك على أن من مقتضى الكمال لله تعالى القدرة على إعادة الخلق بعد موتهم.
قال تعالى: (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ{34}) [يونس:34] .
ويقول تعالى في سورة الفرقان: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً{3}) [الفرقان:3] .
4- ما ورد ذكره في القرآن الكريم والسنة النبوية مما يعقب البعث من حشر وعرض وحساب وجزاء وجنة ونار كل ذلك من أدلة البعث، إذ لا يمكن حصول ذلك إلا بالبعث، وعلى هذا فمنكر البعث، لابد أن يكون منكراً لكل هذه العقائد.
قال تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ{28} فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ{29} هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ{30}) [يونس:28-30].
ويقول تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ{45})
[يونس:45] .
وغير ذلك من الآيات الكثيرة، التي تبين ما بعد البعث من أهوال مما يصعب حصره واستقصاؤه.
5- الإنذار من عذاب الآخرة:
إذ المؤمن يعمل الصالحات امتثالاً لما أمره الله به، وتأهباً ليوم البعث والنشور، وهو في تلك الحال موعود بالجنة،وعليه فهو ناج، أما الكافر فهو مُعرٍضٌ عن أمر الله تعالى، مستكبر عن عبادته، والله تعالى قد توعده وأنذره، فتبين أن الاحتياط – وهذا على سبيل التنزل مع الخصم – هو الإيمان بالمعاد، إذ غاية ما في الباب فوات بعض اللذات الجسدية، والعاقل لا يأبه لها لعدة أسباب:
1- أن في الحلال غنية وكفاية عن الحرام.
2- زوالها وسرعة انقطاعها.
3- أن هذه اللذات تشترك معه في الالتذاذ بها سائر البهائم، والمخلوقات وعليه فليست غاية (40) .
قال تعالى: (فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{23}) [يونس:23].
ويقول تعالى في سورة النساء: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً{39}) [النساء:39] .
6- الإخبار عن قرب موعده:
كما في قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{48} قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ{49} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ{50}) [يونس:48-50].
قال ابن كثير – رحمه الله – : "وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كقولـه: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ{112} قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ{113}) [المؤمنون:112-113] ا.هـ (41) .
ويقول تعالى في سورة المعارج: (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً{5} إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً{6} وَنَرَاهُ قَرِيباً{7}) [المعارج:5-7] .
7- أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالإقسام على وقوعه (42):
قال تعالى: (وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ{53}) [يونس:53] .
ونظير ذلك في سورتي سبأ والتغابن في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ{3}) [سبأ:3] .
وقوله: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ{7}) [التغابن:7] .
الدليل الثاني: الاستدلال ببدء الخلق على إعادته، فمن بدأ الخلق من العدم فهو قادر على الإعادة قال تعالى: ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ{4}) [يونس:4] الآية.
ويقول تعالى في سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [الحج:5] الآية.
وبيان وجه الاستدلال على بدء الخلق بإعادته أن الإنسان يمر في خلقه بعدة مراحل:
المرحلة الأولى: كونه تراباً، إذ إن أصل الإنسان آدم عليه السلام، وقد خلقه الله تعالى من تراب.
المرحلة الثانية: كونه نطفة وهو الماء اليسير، الذي هو ناتج من الأغذية التي يتناولها الشخص، ثم يحفظها الله ويودعها في الرحم.
المرحلة الثالثة: كونه علقة وهي قطعة الدم الجامد، فقد كانت ماءً ثم تحولت إلى قطعة دم عالقة بجدار الرحم، ومعلوم ما بين الماء والدم من تفاوت.
المرحلة الرابعة: كونه مضغة وهي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ(43).
المرحلة الخامسة: خروجه طفلاً كامل الأعضاء.
المرحلة السادسة: بلوغه سن الشباب والقوة والفتوة، بعد الضعف.
المرحلة السابعة: عودته ببلوغه سن الشيخوخة والعجز، فتعود تلك القوة ضعفاً وربما بلغ سناً لا يعلم فيها شيئاً كما قال تعالى:
(وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ( [الحج:5].
ولاشك أن من قدر على ذلك، قادر على الإعادة، إذ هي من باب أولى (44) .
قال ابن القيم – رحمه الله – : "خلق الإنسان فإنه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد، وأي دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدمية بأعضائها وقواها وصفاتها، وما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والعلوم والإرادات والصناعات كل ذلك من نطفة ماء"ا.هـ(45) .
الدليل الثالث: إن حكمة الرب تعالى وعدلـه تقتضي أن البعث والجزاء:
قال تعالى: (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ{4}) [يونس:4] .
فالله تعالى خلق العباد وأمرهم ونهاهم، ووعدهم على امتثال أوامره وتوعدهم على ترك الأمر، فلو لم يكن هناك بعث وجزاء لكان هذا الأمر والنهي والوعد والوعيد عبثاً، وهذا ينزه عنه البارئ جل وعلا.
قال ابن القيم – رحمه الله – : "لهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب تعالى، وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه .. (46) ا.هـ.
"فلو لم يكن للإنسان عاقبة ينتهي إليها غير هذه الحياة الخسيسة المملوءة نصباً وهماً وحزناً ولا يكون بعدها حال مغبوطة لكان أخس الحيوانات أحسن حالاً من الإنسان" (47) .
وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ{13})
[يونس:13].
وقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ{44}) [يونس:44].
ويقول تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ{92} عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ{93}) [الحجر:92-93].
ويقول جل ذكره: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{84})
[القصص:84].
الدليل الرابع: نفي أن يكون الله تعالى خلق الخلق عبثاً:
والقول بإنكار البعث، يؤدي إلى ذلك:
قال تعالى: (إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ{6} إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ{7} أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ{8}) [يونس:6-8] .
فغفلتهم عن آيات الله تعالى الكونية، وعظيم خلقه الذي يستحيل أن يخلقه عبثاً، جعلهم يركنون إلى الحياة الدنيا، وينسون البعث والجزاء، ولهذا قال تعالى مشيراً إلى ذلك في سورة ق بعد أن ذكر إنكارهم للبعث: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ{6} وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ{7} تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ{8}) [ق:6-8].
الدليل الخامس: إحياء الأرض الميتة بالنبات:
قال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{24}) [يونس:24] .
ويقول تعالى في سورة الأعراف: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{57}) [الأعراف:57] .
ويقول تعالى في سورة الحج: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ{5} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{6}) [الحج:5-6] .
وبيان دلالة إحياء الأرض على البعث تتبين من خلال ما يلي:
أولاً: صعود الماء إلى السماء ثم نزولـه على هيئة مطر، دليل القدرة، إذ الماء ثقيل بطبعه، وصعوده إلى أعلى خلاف المألوف، فمن قدر على تغيير طبيعة الماء، فهو قادر على أن يعيد الحياة إلى الجسم الذي بلي، وأصبح تراباً.
ثانياً: إن الماء بعد تبخره تتفرق أجزاؤه، ثم يجمعها الرب عز وجل مرة أخرى فتنزل مجتمعة، فمن جمعها فلا شك أنه قادر على جمع ما تفرق من أجزاء الإنسان بعد موته.
ثالثاً: إن خروج النبات من الأرض، إنما هو لحاجة العباد إليه في معاشهم، وكذلك تسيير السحاب والرياح إنما هو لمصلحة العباد، فكذلك بعثهم وحشرهم إنما هو لمصلحتهم، ولمجازاتهم بما عملوا، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
رابعاً: إن إنكارهم للبعث ناتج عن قصور إدراكهم عن إعادة الإنسان بعد موته، وبعد أن أصبح رميماً، فلفت الحق جل وعلا أنظارهم إلى الأرض اليابسة فهي أشد جموداً وخموداً، ومع ذلك تفتقت بالنبات الأخضر وأينعت أطرافها، وعادت لها الحياة والنمو، فكذلك الإنسان (48) .
الدليل السادس: الاستدلال على البعث بوقوع المتضادات، وخلق الله تعالى لها (49) :
قال تعالى: (هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{56}) [يونس:56] .
ويقول تعالى في سورة النجم: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى{43} وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا{44} وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى{45})[النجم:43-45].
فالذي أمات بعد الحياة، قادر على الإحياء بعد الممات، وهذا ظاهر الدلالة.
وكذلك خلقه تعالى للمتضادات، فيه دليل على وقوع البعث، إذ إن منكريه يستبعدون عودة الحياة إلى عظام قد بليت وأصبحت رفاتاً.
الدليل السابع: التنبيه بخلق الأعلى على الأدنى:
ومن ذلك لفت النظر إلى خلق السماوات والأرض، وخلق الأفلاك والكواكب، على ما اشتملت عليه من العظمة التي تعلو على خلق الإنسان أضعافاً مضاعفة، ولهذا عقب الله تعالى بعد ذكره لخلق السماوات والأرض في ستة أيام، بقولـه تعالى: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس:4] .
ويقول جل ذكره: (أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ{55} هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{56}) [يونس:55-56] .
ويقول أيضاً: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ{101}) [يونس:101] .
ويقول تعالى: ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ{81} )[يس:81] .
وبيّن شيخ الإسلام – رحمه الله – إمكان الاستدلال بالدليل العقلي على البعث من خلال هذه الأدلة بقوله: "الإنسان يعلم الإمكان الخارجي تارة بعلمه بوجود الشيء وتارة بعلمه بوجود نظيره، وتارة بعلمه بوجود ما الشيء أولى بالوجود منه، فإن وجود الشيء دليل على أن ما هو دونه أولى بالإمكان منه، ثم إنه إذا تبين كون الشيء ممكناً فلابد من بيان قدرة الرب على ذلك (50) ا.هـ.
ثم أثبت – رحمه الله – البعث على ضوء هذا الاستدلال إذ خلق السماوات والأرض أبلغ من خلق الإنسان: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{57}) [غافر:57] .
وكذلك البدء أشق من الإعادة: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{27}) [الروم:27] .
وهذه الأمور موجودة، ومعلومة.
وكونه – أي البعث – ممكناً لأنه داخل في القدرة الربانية، فثبت صحة الاستدلال عليه بالدليل العقلي (51) .
وبهذه الأدلة مجتمعة، وغيرها مما ورد في القرآن الكريم، تبطل دعاوي منكري البعث والنشور.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص463 وما بعدها، والعقيدة الإسلامية وأسسها، ص621-327.
(2) انظر التذكرة للقرطبي، ص214، وفتح الباري (11/403) وقال ابن حجر – رحمه الله – : "جمعها الغزالي ثم القرطبي فبلغت ثمانين اسماً" ا.هـ، وقيل: إنما كثرت أسماؤه لتعدد أحواله وتغيرها فسمي كل حال بما يناسبه، وهناك أقوال أخرى، انظر لوامع الأنوار (2/168-169).
(3) الصحاح (1/273)، وانظر لسان العرب (2/116)، والقاموس المحيط ص 211.
(4) لسان العرب (2/117).
(5) انظر المرجع السابق، وانظر الصحاح (1/273).
(6) انظر الصحاح (1/273).
(7) تفسير ابن كثير (4/614).
(8) الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، ص78-79.
(9) الكواكب الدرية لشرح الدرة المصنية محمد بن مانع، ص65.
(10) التذكرة، ص182.
(11) الأصول والفروع، ص16.
(12) مجموع الفتاوى (4/284)، وانظر أيضاً (4/262، 313-315)، وتفسير الرازي
(17/7) ويقظة أولي الاعتبار، ص23 وما بعدها، ولم يخالف إلا فرقة الصدوقيين من النصارى كما ذكر ذلك الأشقر في اليوم الآخر، ص (92-94) وقولهم في الإصحاح الثاني والعشرين من إنجيل متى فقرة 23.
(13) المواقف، ص372.
(14) انظر الأربعين في أصول الدين للرازي 284-286، والمواقف، ص373-374، وشرح الطحاوية، ص470، وتحفة المريد شرح جوهرة التوحيد، ص171.
(15) انظر التذكرة ، ص178-179.
(16) انظر مجموع الفتاوى (17/179).
(17) انظر الفوائد 15-16.
(18) انظر المواقف 373-374.
(19) انظر روح المعاني للألوسي (23/57-61).
(20) يستثنى من ذلك أجساد الأنبياء والشهداء ونحوهم ممن خصهم الدليل، انظر حديث جابر – رضي الله عنه – ص211.
(21) عجب الذنب هو العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز، وهو العسيب من الدَّواب، النهاية في غريب الحديث (3/184).
(22) رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ما بين النفختين، رقم: 2955 (4/2271)، ورواه أبو داود في كتاب السنة، باب: ذكر البعث والصور رقم 4743 (2/649) عن أبي الزناد به بنحوه، ورواه النسائي في السنن في كتاب الجنائز باب أرواح المؤمنين رقم 2077 (4/111-112) به.
(23) انظر شرح العقيدة الطحاوية، ص471.
(24) رواه البخاري في كتاب الأنبياء، باب: "أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم" رقم: 3294 (3/1283) عن أبي هريرة ورواه مسلم في كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه رقم: 2756 (4/2109-10) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – بنحوه.
(25) انظر مجموع الفتاوى (17/246).
(26) انظر الفوائد، ص15-16.
(27) انظر ص366-368.
(28) هو أشهر فلاسفة اليونان الأقدمين، لقب بأمير الفلسفة، ولد سنة (384) ق.م وتوفي سنة (322) ق.م، ذهب إلى أثينا في عصر ازدهار الفلسفة، وكان شيخها أفلاطون فالتحق به حوالي عشرين سنة ثم اعتزله فجأة، مما كان مسوغاً لنقد أعدائه وطعنهم، يلقب بالمعلم الأول، ولـه مؤلفات كثيرة في الإلهيات والطبيعيات، انظر دائرة معارف القرن العشرين (1/164-169).
(29) الحسين بن عبدالله بن سينا أبو علي فيلسوف، أصله من بلخ، ولد في إحدى قرى بخارى سنة 370هـ، وكانت وفاته سنة 438هـ، أظهر الإسلام، وأبطن الإلحاد والزندقة، قال ابن القيم – رحمه الله – : "وكان ابن سينا، كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة، الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا ربٍ خالق، ولا رسول، مبعوث جاء من عند الله" ا.هـ، إغاثة اللهفان (2/80) له مؤلفات كثيرة مليئة بالكفر والزندقة منها (المعاد) و(الشفا) و(القانون) وغيرها، انظر الأعلام للزركلي (2/241-242).
(30) محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، أبو نصر الفارابي، يلقب بالمعلم الثاني، من الفلاسفة المنتسبين للإسلام ولد في فاراب سنة 260، نشأ في بغداد وألف فيها معظم كتبه، ومن مؤلفاته (الفصوص)، و"آراء أهل المدينة الفاضلة" وغيرهما، توفي بدمشق سنة 339هـ، انظر الأعلام للزركلي (7/20).
(31) الباطنية: فرقة إباحية مؤسسها ميمون بن ديصان المعروف بالقداح يدعي أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، لهم صلة بالمجوس، لا يعترفون باليوم الآخر ولازم قولهم إبطال الشريعة وسقوط التكاليف وهم فرق شتى منها الصباحية والناصرية والقرامطة البابكية .. الخ، انظر اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، ص118-125.
(32) انظر الجواب الصحيح (40/96-100)، ومجموع الفتاوى (40/313-315) والمواقف 371-374، والقيامة الكبرى 71/72.
(33) انظر إغاثة اللهفان (2/380).
(34) الأضحوية في أمر المعاد، ص126، للاستزادة من آراء الفلاسفة وشبههم والرد عليها انظر رسالة الدكتوراه في "البعث عند الفلاسفة" للشيخ عبدالكريم الحميدي،ص168-374. واليوم الآخر في اليهودية والمسيحية والإسلام ص317 وما بعدها.
(35) الأضحوية في أمر المعاد لابن سينا، ص57.
(36) انظر الفوائد، ص15-16، وانظر المواقف، ص373.
(37) انظر رسالة "البعث عند الفلاسفة" للشيخ عبدالكريم الحميدي، ص326-332.
(38) انظر الفوائد، ص16-17، وانظر تفسير الرازي (17/27).
(39) انظر المواقف للايجي، ص371-373، وتفسير الرازي (17/17-26)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/32-38) ومجموع الفتاوى (17/246-261)، والفوائد ص15-17، وشرح العقيدة الطحاوية، ص463-472.
(40) انظر تفسير الرازي (17/25)، وكتاب اليوم الآخر بين اليهودية والنصرانية والإسلام، ص412-413.
(41) تفسير ابن كثير (3/506).
(42) انظر تفسير ابن كثير (3/508).
(43) النهاية في غريب الحديث (4/339).
(44) انظر تفسير الرازي (17/26)، وانظر الصواعق المرسلة (2/473-475، 480).
(45) الفوائد، ص21.
(46) الفوائد، ص17.
(47) تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين للراغب الأصفهاني، ص198.
(48) انظر اليوم الآخر في اليهودية والنصرانية والإسلام، تأليف، د. فرج الله عبدالباري، ص397 وانظر محمد المثل الأعلى، تأليف أحمد جاد المولى، ص148-149.
(49) انظر مناهج الجدل في القرآن الكريم، د. زاهر الألمعي، ص317.
(50) درء تعارض العقل والنقل (1/31/32).
(51) انظر درء تعارض العقل والنقل (1/32-34