المنهج التربوي والنفسي في القرآن الكريم

الناقل : heba | الكاتب الأصلى : د. عبدالحسين رزوقي الجبوري | المصدر : www.tarbya.net

المنهج التربوي والنفسي في القرآن الكريم 
د. عبدالحسين رزوقي الجبوري 
تربية نت 
13/08/2005
  

 

إن القرآن الكريم دستور أنزله الله سبحانه وتعالى منهجا حياتيا لجميع أوجه النشاط الإنساني، فربى الله جل وعلا نبـيه وربى به النبي صلى الله عليه واله وسلم، جيلا من المؤمنين، فنقلهم نقلة هائلة من الُظلمات والجهل إلى النور واليقين على أساس مبادئه وتعاليمه العظيمة تقررت فيه لأول مرة في تاريخ البشرية كرامة الإنسان بوصفه إنساناً فيه نفحة من روح الله وأنشأ به حضارة ملأت الدنيا بالهدى والنور، وكَون به أمة كانت خير أمة أخرجت للناس.

 

إن المنهج التربوي والنفسي للقرآن الكريم يتضمن النور والهدى والموعظة الحسنة والمثل والعِبرة والتوجيه والمشورة وآداب المعاملة وفضائل السلوك وكل ما يخص حياة الإنسان وخير ما تصف ذلك الآية الكريمة (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمة وبشرى للمسلمين).

 

لا شك أن القرآن الكريم هو الروح الذي يؤنس المؤمن في رحلته الشاقة في هذه الأرض، والنور الذي يضيء جوانب روحه، والمعلم الذي يلقنه والهادي الذي يبين له معالم الطريق، والحياة مع القرآن تثير في النفس عالما من المشاعر لا يعرفها، ولا يتذوقها آلا من يصاحب القرآن بحسِ متطلع، وقلب منفتح، فهو علم تسبح الروح في جنباته، ويجول الفكر في جولاته، والحياة مع القرآن هي الحياة مع الله، فالقرآن كتاب الله المُنزل وكلامه الموجه إلى الإنسان. وهذا التوجيه إلى كيان الإنسان المتمثل بنفسه وقلبه وفكره وروحه وهو كذلك حديث متصل عن الله جل جلاله وجل ثنائه يصفه بأسمائه وصفاته وأفعاله، يصفه بقدراته المعجزة يصفه برحمته الواسعة بصفة بكبريائه وجبروته يصفه بكل ما تستطع النفس البشرية أن تدركه من الصفات. وحينما يتلو الإنسان القرآن فإن تلاوته عبادة، والقران الكريم المتُْعبد بتلاوته الذي يكتب الله لقارئه أجره على كل حرف من يتلوه طالما كان التوجه في تلك التلاوة إلى الله والرغبة فيه إلى الله.

 

إن القران الكريم هو المنبر والذكر الحكيم وهو المنهج القويم ومن تمسك به هدى ورشد ومن حاد عنه ضل وهلك. وهو الدستور الحق الذي اخرج الله تعالى بهديه البشرية من ظلمات الجهالة إلى نور الحق. وهو الذي سمعته الجن فآمنت به إذ قالوا (..أنا سمعنا قرآناً عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا).

 

يبدو تقييم الإنسان في البعد النفسي من شخصيته بشكل بهيج حينما يكون هذا الإنسان قريباً من القرآن، إذ أن من أسعد أوقات حياته حينما يعيش مع القرآن الكريم بروحه وعقله وقلبه وعمله، وذلك في تطبيق مبادئه على نفسه وعلى أهله وذويه. فالواجب اليوم يحتم العمل بجد واعتناء في تعليم القرآن الكريم وفهمه، وهذا نابع من كون القرآن الكريم بوصفه كنزا من كنوز الثقافة الإنسانية، لاسيما الروحية منها، وهو أول ما يكون كتاب تربية وتهذيب على وجه العموم، وكتاب تربية اجتماعية وأخلاقية على وجه الخصوص. وإذا كانت الفلسفة تعنى بدراسة بدايات الأمور ونهايتها وبدراسة العلاقات والارتباطات بين الإنسان وأخيه وبين الإنسان والكون وبين الإنسان وخالق الكون سبحانه وتعالى، فالقرآن الكريم يشمل كل ذلك وإذا كانت التربية تعنى بتنشئة الإنسان ونموه في الجنس البشري فحسب فالقرآن الكريم يعنى بتربية الموجدات كلها بما في ذلك تربية الإنسان.

 

إن القرآن الكريم ليس كتاب نظريات نفسية أو علمية أو فكرية ولكنه يحوي التوجيهات الكاملة لإنشاء هذه النظريات. إنه كتاب تربية وتوجيه، وفي سبيل هذا التوجيه يكتشف الإنسان نفسه، وأسرار الكون من حوله، ويدعو إلى دراسة ما يحيط به ومن ثم يتجه الاتجاه الصحيح. فضلا عن ذلك فإن القرآن الكريم الذي يعد معجزة حارت فيه العقول حين نزل به الأمين جبرائيل عليه السلام ولم يستطع أحد أن يأتي بجزء يسير من مثله فقد رسم صورة الإسلام وكيفية التعامل بين البشر بمختلف الأديان التي يؤمنون بها.

 

إن المنهج النفسي في القرآن الكريم ينطلق من أصول الدين وفروعه وتعد هذه المنطلقات أساسية إذ أن الإنسان المؤمن في هذه الدنيا بحاجة إلى من يكون لديه الدليل إلى طريق الإيمان والسعادة. فالقرآن الكريم قد تضمَّن جميع هذه المنطلقات التي تحقق الصحة والأمن والسكينة مصداقاً لقول عز من قائل (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين).

 

إن لتأدية العبادات التي حث عليها القرآن الكريم الأثر النفسي في حياة الإنسان.. وتعتبر المواظبة على الصلاة فضلا عن الوسائل الأخرى كالاستغفار والجهاد والتوكل والتفويض والتوسل إلى الله من أنجع الوسائل لشفاء النفس من الأسقام..

 

 أما الصوم فهو قهر للشيطان وحب الشهوات وهنا نجد الإنسان الصائم يمثل درجة عالية من الصبر ووصفه الرسول الأكرم صلى اله عليه واله وسلم بأنه نصف الصبر كما في الحديث الشريف (الصوم نصف الصبر).

 

وكذلك هو الحج فهو فرصة يقف الإنسان فيها لإعادة حساباته، ويرجع عن ما بدر من إساءة للآخرين وما بدر من تقصير في الطاعات فهي فرصة للإنسان لأن يبدأ حياته على المنهج الصحيح.. وأيضاً الزكاة، التي تطرد الرياء من النفس إذ أكانت تؤدي خالصة إلى الله.

 

إن التدريب النفسي للشخصية الإنسانية للتعامل مع من حوله ينطلق من الآية الكريمة (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) وبهذا تتخلص النفس الإنسانية من الغرور وتبتعد عن الاستخفاف بالفقراء.

 

فإذن، معنى التزام الإنسان بنهج القرآن تحصين النفس الإنسانية من الانحرافات السلوكية والتحلي بالأخلاق الفاضلة التي تجعل منه عنصرا فعالا في مجتمعه لذلك نرى ما ورد في القرآن الكريم من آيات بينات تنظم حياة الإنسان تنظيما صحيحا مع من يعيش معه، إذ يقول المولى سبحانه وتعالى (انه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).

 

إن الحياة النفسية للإنسان التي يركز عليها القرآن الكريم من أجل تحقيق الاستقرار النفسي تتلخص بالمواظبة على ذكر الله، ويبدو ذلك واضحا  في قوله تعالى (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).. وفي المقابل حينما يبتعد الإنسان عن ذكر الله فإن حالته النفسية تراها في قلق مستمر ويبين القرآن الكريم هذا الابتعاد بقوله تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين)، والشيطان يجلب له الوساوس والقلق والفحشاء ويتناول القران الكريم حالة الابتعاد عن الله وما يترتب عليه من مشكلات بقوله تعالى ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء).

 

فلو نظرنا للجانب النفسي للشخصية المبتعدة عن ذكر الله نجدها شخصية خائفة لو أرادت أن تنفق في مرضاة الله فان الشيطان يوسوس بأنه سوف يصبح فقير لذلك نراها تبتعد عن عمل المعروف وكذلك تكون هذه الشخصية مسلوبة الإرادة لديها استعداد عالي للمعصية والإثم.

 

 لقد بين الله سبحانه وتعالى أن شفاء القلوب للمتمسك بالقرآن الكريم بقوله (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين).

 

ونجد في معنى هذه الآية الكريمة الراحة النفسية التي تتحقق من خلال الالتزام بنهج القرآن الكريم على العكس الإنسان الذي ابتعد عن المنهج الرباني الذي تضمنه كتاب الله المجيد فنجد الآية الكريمة تتناول ذلك الموقف في قوله تعالى (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون).

 

لو تناولنا تفسير مرضى القلوب نجد وصفا ذكرته الآية المباركة فيه من العبر لأولي الألباب وتمثل وصفا نفسيا للحالة التي يمر بها من يبتعد عن المعاني التي تضمنها القرآن الكريم، فمن أراد سعادة الدنيا والآخرة ونقاوة السريرة فعليه الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله الأكرم صلى الله عليه وواله سلم وما ورد من أحاديث شريفة من الأئمة المعصومين عليهم السلام.

 

 إن المنهج التربوي والنفسي في القرآن الكريم يتلخص بالعبادات والمعاملات وان يطبق ما أحل للإنسان ويبتعد عن ما حرم عليه وكتاب الله من التزم به نجا ومن تخلى عنه هلك، وبما أن الإنسان يمتاز بالعقل يتطلب منه أن يحتكم لعقله في عباداته ومعاملاته ليسعد في الدنيا والآخرة ويكون من الفائزين ويبتعد عن ما يشغله عن ذكر الله.

 

اللهم ارحمنا بالقرآن الكريم واجعله لنا إماما ونورا وهدى ورحمة، اللهم ذكرنا منه ما نسيناه وعلمنا منه ما جهلناه، وارزقنا تلاوته وفهم معناه على طاعتك أناء الليل وأطراف النهار أخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.