شبح الإكتئاب لدى طلبة المدارس

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : وسام السبع | المصدر : www.tarbya.net

 ليس جديدا ما يسمعه العديد من الناس من تمرد الاطفال على الذهاب للمدرسة ورفضهم للتعلم او حتى التمارض وايثار البقاء في المنزل بعيدا عن الجو المدرسي الصارم واكراهات المعلم، غير ان اسباب كل ذلك تختلف من طالب لآخر.. تبدأ مظاهر الرفض هذه من الانطواء على الذات داخل اسوار المدرسة الى عدم الرغبة في التعلم الى الصمت الدائم، الى الخوف المستمر من مصدر مجهول او وهمي.. امام كل هذه المظاهر قد يقف الاب مدهوشا لهذا السلوك لا يدري كيف؟ ولا لماذا؟ ولا ما هي الاسباب؟ واذا كان الاكتئاب كما يقول علم النفس يشمل مظاهر من الحزن والاحساس بالفشل وعدم الرضا، وتوقع العقاب، وكراهية النفس، والبكاء، والانسحاب الاجتماعي (الانطواء) واضطرابات النوم، وفقدان الشهية، فإن كل ذلك يعيشه طلاب المدراس من الجنسين في مدارسنا مع اختلاف في اشكال التعبير عنها.. هذا التحقيق يمثل محاولة للوقوف امام هذه الظاهرة وانعكاساتها على القدرة التحصيلية على الطالب وعلى حياته وسلوكه العام.. قصص من الواقع المدرسي: يشعر الطفل (علي) ذو السنوات الثمان بالانطواء وعدم الرغبة في مخالطة زملائه الطلبة، يبدو شارد الذهن، قليل الكلام، ويبدي في الغالب عدم الاستجابة لكلام الآخرين معه وهو ما قلل من فرص احتكاكه بالمعلمين وزملائه الطلبة، الذي اخذوا ينظرون له كحالة خاصة تحتاج رعاية واهتماما غير عادي.. اتضح ذلك من خلال الجلسات الارشادية مع الارشاد الاجتماعي بالمدرسة انه يعاني من خوف شديد من احتمال قدوم ابيه له لأخذه من المدرسة، حيث ان والديه منفصلان عن بعضهما وثمة خلافات حادة عاشتها الاسرة، وظل الولد يعيش هواجس من الرعب الدائم ما ادى في النهاية الى ان يرفض القدوم الى المدرسة لأن فكرة قدوم ابيه له لـ »خطفه« من المدرسة فكرة ظلت باستمرار تغزو عقله الصغير وتفسد عليه حياته الهانئة.. اما (لؤي) طالب في المرحلة الاعدادية متميز في دراسته ويحظى بأعلى الدرجات في معظم المواد، قليل الاصدقاء، لا يتكلم اطلاقا مع احد ولا يشارك مشاركة شفهية في الفصل، يتفاهم مع معلميه ومن يحيط به بالكتابة فقد ابتلى بما يسمى بـ "الصمت القهري"، واتضح ان اسبابه ترجع الى انه عاش حياة قاسية مع والده بيعدا عن الوطن، بعيدا عن حنان الأم، وبعد رجوعه الى البلد وبعد طول غياب كان يعتقد بفطرة الطفولة البريئة ان والدته ستحتضنه وستضمه بين جناحي امومتها، الا ان ما كان ينتظره كان يخالف ما داعب خياله، فقد تفاقمت المشاكل بين والديه ونال من والدته كل صد وجفاء، كانت المشاكل بين والديه فاقت كل الحدود المعقولة لبقاء عش الزوجية بينهما، ولم يكن غريبا او مستغربا ان يلجأ احد ابناء العائلة الى محاولة الانتحار والتخلص من الحياة الكئيبة التي تعيشها اسرته، فقد اقدم بحرق نفسه وهي محاولة وقعت امام نظر الطالب (لؤي).. هذا الجو العائلي الممزق انعكس بشكل مباشر على المظاهر السلوكية لـ »لؤي« فظل باستمرار وحيدا ومنطويا على الذات، هادئ الطباع وان لم تغب ابتسامته الخجول امام من يحترمه من معلميه. الطالب (أحمد) فتى نحيف، لديه استعداد لا بأس به للتعلم والفهم والاستيعاب، الا ان مظاهر التعب والرهبة والانطواء تبدو واضحة عليه، قليل الكلام ويشعر بالعجز الواضح على مخالطة الآخرين ولااندماج في الوسط الطلابي بالمدرسة. بعد محاولة الاقتراب من مشكلته من قبل احد معلميه اتضح ان الطالب كما يقول المعلم يستغل من قبل ابيه ابشع استغلال ويحمل فوق قدرته واستعداده، فأبوه يلزمه بالعمل معه من فترة ما بعد الظهر بالبيع معه امام احدى الحدائق العامة ويظل الطفل يغالب سأمه وتعبه وهو جالس تحت »فرشة المبيعات« ويبقى لساعة متأخرة في الليل لينهض في اليوم التالي الى المدرسة وقد هده التعب واعيته الحيلة.. وتبدو مشكلة الطالب (محمد) مختلفة نوعا ما، فهو طالب يبدي استعدادا غير عادي لمادة الرياضيات كما يقول معلم المادة، الا انه يفاجأ ذات يوم بعدم قدرته على "القراءة"!! اتضح ذلك بعدما امره المعلم بقراءة سؤال لإحدى المسائل الرياضية، فتلعثم الطالب وتغيرت ألوان وجهه، سأله المعلم بعد انتهاء الحصة عن علة صمته وتعلثمه وهو الطالب المتميز، فقال الطالب ذو الاحد عشر عاما: "إنني لا اعرف القراءة بسبب معلم (اللغة العربية) الذي علمنا يوم ان كنت في السنة الثانية الابتدائية قبل اربع سنوات، فقد كان معلما شديد القسوة على الطلبة، لم يضربني قط ولكني كنت اخشى دوما بأن يأتي اليوم الذي اتلقى فيه نصيبي من الضرب والاهانة، كنت أعيش حالة من القلق الشديد، الى الحد الذي كرهت فيه مادة اللغة العربية واهملتها طوال هذه السنوات لاحساسي بأنها مادة بغيضة على النفس". الا ان الطالب (مصطفى) برزت لديه مشكلة اتعبته نفسيا ومنعت عليه لذته في مخالطة زملائه والمجتمع العام وهو يلج عتبة المراهقة اذ حدثت له تغيرات كبيرة في درجة خشونة الصوت، جعلت منه يخجل من الحديث امام الآخرين لاعتقاده بقبح صوته وهو الامر الذي جعله دائم الصمت منصرفا عن الاختلاط بالآخرين.. ولا يقل التأثير النفسي لمشكلة »محسن« على ادائه وسلوكه العام وتصرفه في المدرسة فهو دائم الصمت منطو على نفسه، بسبب تجربة اعتداء جنسي عليه حصلت له قبل سنوات وهو ما اشعره بالعار وعدم احترام الذات. مشكلة تربوية في الأساس: ويشير رضا يوسف رضي (المرشد الاجتماعي) الى ان مشاكل سوء التكيف المدرسي تبدو ذات مظاهر متعددة، ولا يمكن اقصارها على الاكتئاب فقط، غير ان المشكلة الاساسية تكمن في غياب دراسات نفسية متخصصة لتحديد حجم المشكلات النفسية التي يعيشها طلبة المدراس، واشار رضي: المشكلة تتعدى المدرسة لتشمل البيت، فمع الاسف يعتقد كثير من الآباء ان واجبهم تجاه أبنائهم يقتصر على توفير الاحتياجات المادية للأبناء، فيما تعتقد الامهات ان واجبهم يقتصر فقط على الحرص على نجاح ابنائهم في الدراسة فقط، وهنا تضيع المسؤلية النفسية وتوفير الحاجة الى الحب والحنان والدفئ العاطفي الذي يجب ان يتوافر في البيت لنشوء أسرة ناجحة. فيما يرى سالم النويدري (مدرس) ان المشلكة لا تقتصر على الجو المدرسي بمقدار ما هي مشكلة تتعلق بطرق التربية واتاحة فرصة اثبات الذات للطفل، واعطائه الفرصة للثقة بنفسه والحديث في الوسط العائلي واعداده ليكون شخصية ناجحة في الحياة وقادرة على امتلاك ناصية الجرأة في الكلام امام الآخرين، ما يحدث ان الطفل لدينا ينشأ على موانع عديدة وخطوط حمراء كثيرة لا يجب عليه ان يتجاوزها، فهو لا يستطيع وليس له الحق ان يتكلم كثيراً بحضرة الأب، لذا ينشأ أطفالنا وهم مكبوتون وشخصياتهم متلاشية في المجموع، من هنا تجد ان الطفل يخجل من الكلام في حضرة الكبار او في محفل عام بخلاف الطفل اللبناني او الطفل المصري او الطفل السوري الذي يمنح الفرصة لإثبات ذاته ويشجع على الكلام منذ ان يكون صغيراً لذا تجده طفلاً موهوباً في الغالب وجريئاً في الكلام، وتفسيري ان العديد من مشاكل الاكتئاب مردها في المقام الاول الي عائق افتقاد جرأته في الكلام عن الطفل وهو ما يجعل الطفل يعيش دائماً حالة من الانطواء على الذات لأنه لا يحسن الحديث عن مشكلته اولا ولا يملك الجرأة على الكلام حتى مع أبويه ومعلميه احياناً. وعي مجتمعي لاحتواء المشاكل: من جهته يقول الباحث التربوي ومؤسس موقع »تربية نت« نادر الملاح: لضمان الحد من مظاهر الانحراف الاجتماعي والتمزق النفسي لابد من الرجوع لمفاهيم النظرية الاسلامية ومحاولة فهمها فهما صحيحاً بعيدا عن تأثير النظريات والافكار الغريبة ومن ثم تطبيق ما ورد فيها من بنود وقائية وعلاجية ناجعة. وللتعامل مع الواقع المعاش بشكل عام، لابد من اجراء مجموعة من الخطوات الفعلية أهمها: تصحيح الاوضاع المعيشية ورفع مستوى دخل الاسرة واعادة النظر في المناهج التربوية التي يتبناها المربون سواء كانوا أبوين او غير ذلك، ومحاولة التخلص من الاساليب غير السليمة، وتعزيز دور الارشاد النفسي والاجتماعي والمهني في المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية وايجاد المراكز المتخصصة لإعادة تأهيل المنحرفين وتعزيز الوازع الديني والوعي الثقافي من خلال تكثيف الحملات الاعلامية سواء الرسمية او الاهلية لمواجهة أخطار الانحراف السلوكي والنفسي وجذب الشباب من الجنسين للعمل التطوعي لما له آثار ايجابية في مجابهة الانحراف وتقليص حجم البطالة ووضع الضوابط التي تضمن عدم عودتها او تضخمها بما يمكن ان يشكل ظاهرة اجتماعية خطيرة. طموحات وزارة التربية بين ضعف الإمكانات وندرة الكفاءات: وفي حين ان وزارة التربية والتعليم قد أبدت توجهاً ملحوظاً بالعناية بالصحة النفسية للطبة بتخصيص مرشد اجتماعي لكل ‮٠٥٢‬ طالبا، ما يعني وجود اكثر من مرشد اجتماعي في المدرسة لخلق بيئة مدرسية توفر الرعاية النفسية والصحية الى جانب توفير الرعاية التربوية والعلمية، فإن المسعى يواجه مشكلة الندرة في تخصص الخدمة الاجتماعية بالنسبة للذكور كما تؤكد وزارة التربية والتعليم، بينما لا يمثل هذا التخصص مشكلة تذكر في ما يتعلق بخريجات الخدمة الاناث، الا انه حتى بالنسبة للمرشدات الاجتماعيات في المدارس فإن طموح تخصيص (مرشد اجتماعي لكل ‮٠٥٢‬ طالبا) لا يمثل واقعاً قائماً، ولازالت الطموحات أكبر من ارقام الواقع وحقائقــه وهنا يجري الحديث عن ضعف الامكانات المتاحة لتوظيف عدد متزايد من الاخصائيين الاجتماعيين