بسم الله الرحمن الرحيم الخطبة الأولى أيها الإخوة في الله : لقد حظيت الأسرة في الإسلام بقسط وافر من الاهتمام ؛ يناسب أهميتها في كيان المجتمع ، وأثرها الفعال في حياة الأمة ومستقبلها ، ويتجلى ذلك الاهتمام في بيان كل ما يتصل بتكوين تلك النواة الصغيرة من الأحكام والواجبات ، وما تقوم عليه من التقاليد والآداب ، وما يكفل سلامتها من الفتن والخلافات ، ويوفر لها الحماية من عوامل التحلل والفساد ، كي تؤدي رسالتها الخطيرة في أمن واستقرار ، في إعداد الجيل الجديد ، وتربيته على القيم الفاضلة ، والمثل العليا. ولم يكتف الإسلام بتوضيح الحقوق التي لكل حيال الآخر والآخرين ، فإن ذلك وحده لا يكفي لأخطر نواة في بناء المجتمع ، إنما اهتم القرآن والسنة بوضع الأسرة كلها في بوتقة ، تنصهر فيها الأثرة والأنانية ، وتذوب فيها صفات القهر والغلبة والقوة ، حتى تتبخر من حياتها ، وتصفو من شوائب الكدر والنكد والتعالي والتفاخر ، والإهمال والتباعد ..وما التفكك الاجتماعي في الغرب إلا نتيجة حتمية للتفكك الأسري ، وضعف العلاقات والتواصل حتى داخل الأسرة الواحدة . أيها الإخوة في الله : إن اهتمام الإسلام بالأسرة وتنظيمها لأن الأسرة تلبي مطالب الفطرة البشرية ،فمن خلالها يتحقق للإنسان الراحة والسكن الذي يسعى إليه بعد عناء اليوم وكده ، ويجد فيها ما يستطيع أن يشبع غرائزه الجسدية ، ويتحقق له الذرية التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلالها يقول الله تعالى : {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ }النحل72ويقول سبحانه : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الروم21 و الأسرة هي التي تصنع الرجال الأبطال الذين تقوم عليهم المسئوليات وعلى أكتافهم يتم صون الحرمات فمن هذه اللبنة يخرج القائد المقدام ، و العالم الإمام ..والطبيب الماهر ، والمهندس الباهر ، والرجل الفاضل .. (ومن هنا ترى متعصبة الفرنجة في نقدهم للإسلام لا يعيبون على المسلمين صلاة أو صياما ..مع أن هذه من أركان الإسلام ..وإنما عابوا عليهم نظامهم الاجتماعي ، لا سيما ما يتصل منه بالأسرة المسلمة ، وما كفله لها من أمن واستقرار ، وما أحاط به المرأة من حفاظ وحماية وصون ، لأن معنى ذلك في نظرهم هو أن النواة الأصلية للمجتمع الإسلامي ما زالت بعيدة عن سهامهم ، آمنة من غزوهم ، الأمر الذي أقلق بالهم ، وأقض مضاجعهم ، وحملهم على تعبئة الجهود للنيل منها ، والقضاء عليها . أيها الإخوة في الله : لقد حددت الشريعة معالم هذه الأسرة ووضعت الضوابط والقيم التي من خلالها تتم سعادة الأسرة ، واستقرارها ، دون حيف ولا ظلم لأحد طرفي الأسرة ، والتي منشؤها من الزوجين،قال تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الروم21 وقد أوضح الإسلام واجبات كل من الزوجين على الآخر ، وحقوقه عليه ، ومسئوليتهما في تنشئة الأبناء ، ورعاية الأسرة ، كما حددت القوامة وأنها بيد الرجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}النساء34 ( وقوامة الرجل على المرأة قاعدة تنظيمية تستلزمها هندسة المجتمع ، واستقرار الأوضاع في الحياة الدنيا قال عليه الصلاة والسلام :" كل نفس من بني آدم سيد ، فالرجل سيد أهله ، والمرأة سيدة بيتها " والنطاق الذي تشمله قوامة الرجل لا يمس حرمة كيان المرأة ولا كرامتها ، فهو محصور في مصلحة البيت ، والاستقامة على أمر الله ، وحقوق الزوج ، وأما ما وراء ذلك فليس للرجل حق التدخل فيه كمصلحة الزوجة المالية ، وليس عليها أن تطيعه في المعصية ، أو في غير المعروف ، وليس له أن يؤذيها بغير حق ، بل إن من كمال الزوج حسن معاملته لأهله كما قال صلى الله عليه وسلم : " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا ، وخياركم خياركم لنسائه " ) كما حدد الإسلام العلاقة بين الآباء والأبناء ، وبين ذوي الأرحام وأولي القربى ، كل ذلك وغيره في سياج متين من القيم الصحيحة ، والإنسانية السامية ، بما يكفل للأسرة حياة آمنة مطمئنة ، في ظل التعاطف الصادق بين أفرادها ، والتعاون البناء لما فيه خير المجتمع ، وخيرا الدنيا والآخرة . ونظم الإسلام الطلاق ، وقد كان أمره في الجاهلية فوضى ، يطلق الرجل امرأته متى شاء ، ويراجعها متى شاء ، ولو تكرر ذلك مائة مرة ، فجعل الإسلام الطلاق مرتين ، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، واعتبره أبغض الحلال عند الله ، وكفل للمرأة من الحقوق بعد الطلاق ، ما يكفل لها كل كرامة ورعاية ، ويوفر لأبنائها التنشئة الصالحة . (أما لماذا جعل الإسلام الطلاق من حق الرجل ، فلأنه بطبيعته و واقعه أحرص على بقاء الزوجية التي أنفق في سبيلها المال الكثير ، وهو بالتالي أجدر وأقدر على تحمل تبعات الطلاق ، وأوعى لأسبابه ونتائجه ..من المرأة التي تمتاز بطبعها بأنها أكثر عاطفة وأسرع انفعالا ، وأسهل تأثرا بالتوافه من المغاضبات والمنازعات الزوجية ..والمتأمل في المجتمعات التي تعطي المرأة حق الطلاق تزيد نسبة الطلاق فيها بسبب تسرع نسائها في التردد على المحاكم بطلب الطلاق من أزواجهن ، لسبب تافه جداً .. وعني الإسلام بوضع حد لفوضى الزواج في الجاهلية ؛الذي كان قائما بصورة غير إنسانية فأبقى على جوازه ، وحدده بأربع زوجات بعد أن كان أكثر من ذلك ، ودون حدود أو قيود كما فرض الإسلام العدل بين الزوجات ، وحذر من عاقبة الميل إلى إحدى الزوجتين دون الأخرى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً}النساء3.. ومما يدل على مكانة الأسرة في الإسلام تنظيمه لقضايا الإرث بما تطيب به نفوس الآباء والأولاد ومن له حق الإرث ..( ولا وجه للمؤاخذة المفتعلة التي يتهم بها الإسلام زورا لأنه جعل الإرث {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}النساء11 فالرجل هو المطالب بالإنفاق على زوجته ، وهو الذي يقدم المهر ، ويعد البيت ، ويقتني من أجلها ..ولو دققنا النظر وأمعنا الفكر ..لوجدنا أن الأنثى تستحوذ فعلا على نصيب الذكر من الميراث عن طريق الزواج ..بينما تحتفظ هي بنصيبها من الميراث لا سلطان لأحد عليه ، وليست ملزمة بالإنفاق منه مهما كانت غنية وكان زوجها فقيرا ) . وبلغ من تعظيم الإسلام للأسرة والمحافظة على شرفها وسمعتها أن جعل عقاب المفتري على أحد أفرادها أن يجلد ثمانين جلدة ، مع سقوط عدالته ، والحكم بفسقه قال تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }النور4 بارك الله لي ولكم … الخطبة الثانية أيها الإخوة في الله : هذا بعض ما حققه الإسلام للأسرة المسلمة من الحماية والكرامة ، ولا عجب في أن يعنى الإسلام بالقضاء على كل الأوضاع الجائرة ، والتقاليد الفاسدة ، التي كانت الأسرة ترزح تحت عبئها لما لها من تأثير خطير في كيان الأمة ، ولذا يحرص الإسلام على قيامها قوية الجذور ، ثابتة البنيان ، سليمة من عوامل الضعف والانحلال .لأن الأسرة هي اللبنة التي يتكون منها صرح المجتمع ، فإنه بمقدار ما تكون عليه من قوة ، أو تقوم عليه من قيم ، بمقدار ما يتوفر للمجتمع من عزة وشوكة ، وما يسود المجتمع من خلق وفضيلة ..وبعكس ذلك إذا تفككت عرى الأسرة ، وتطرق الفساد إليها كان له صداه في المجتمع بأسره ، وكان له أعمق الأثر في تحلل المجتمع ، واضطرب أمره وذهاب ريحه ..وأخيراً لقد اعترف كثير من عقلاء الغرب ، وكبار مفكريه ، وأهل الإنصاف فيه بسمو مكانة الأسرة في الإسلام ، ونادى البعض منهم بالأخذ بالنظم الإسلامية كحل لمشاكل المجتمع الغربي حتى انتهى الأمر أخيراً بإيطاليا ـ مهد الكاثوليكية ـ إلى إباحة الطلاق خضوعاً للواقع ، ومجاراة لاحتياجات الإنسانية .يقول الفيلسوف الأيرلندي ( برنارد شو ) في المستقبل العاجل : ( عندما يريد الرجال المفكرون أن يلجئوا إلى دين يحمي الفضيلة ويقي المجتمع ، ويكون سببا للحياة السعيدة في البشر سيجدون الإسلام هو الدين الوحيد الذي يضمن لهم مع التقدم والنجاح ، إن الإسلام هو الدين الذي تجد فيه حسنات الأديان كلها ، ولا تجد في الأديان حسناته ..) وهذه هي الكاتبة الغربية ( مس إني رود ) تقول : ( ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة و الوقار ، وفيها الخادم والرقيق ينعمان بأرغد العيش ، ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ، ولا تمس الأعراض بسوء ..إنه لعار على بلاد الإفرنج أن تجعل بناتها مثلا للرذائل بكثرة مخالطة الرجال ، ما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت ،وترك أعمال الرجال سلامة لشرفها ) أما تعدد الزوجات الذي لا يستسيغه بعض مقلدة الغرب فإن ( جوستاف ليبون ) يشيد بمزاياه قائلا : ( إن تعدد الزوجات المشروع عند الشرقيين أشرف من تعدد الزوجات الريائي عند الأوربيين ، وما يتبعه من مواكب أولاد غير شرعيين ، وإن النساء المسلمات قد أخرجن في غابر الدهر من الصالحات المشهورات بقدر ما تخرج مدارس الإناث في الغرب اليوم ) أيها الأحبة في الله : وبالرغم من وضوح الحقائق التي ذكرناها ..وبالرغم من أن بعض كبار قادة الغرب ومفكريه انتهوا إليها وسلموا بها ..وبالرغم من كل ذلك فإن بعض الكُتاب المعاصرين من مقلدة الغرب الكافر وأذنابه ؛ أخذوا دون وعي يرددون بعض آراء أعداء الإسلام ، وينشرون سمومهم ، ويعملون جهدهم على الدعوة إلى تقليد الغرب في كثير من أوضاعه الاجتماعية ، وصبغ الأسرة المسلمة ، والمجتمع الإسلامي بالصبغة الغربية التي خدعتهم مظاهرها ، وجذبتهم مفاتنها ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، وأنهم يرفعون من قدر المرأة والأسرة في نظر سادتهم من أهل الغرب الذين تتلمذوا عليهم في الدراسة أو تأثروا بهم في العادات والتقاليد ، ولم تقف الضلالة بهؤلاء عند هذا الحد حتى ذهبوا يلتمسون لجهالاتهم سندا من كتاب الله وسنة رسوله ، فتأولوا الآيات المحكمة بما يتفق مع أهوائهم ، وجعلوا من المتشابهات أساساً يعتمدون عليه ، وتجاهلوا السنة العملية لما كان عليه النبي وأصحابه الأبرار ـ التي وردت الأخبار الصحيحة بها فقلبوا الكثير من أوضاع الأسرة ، وزيفوا الكثير من تقاليدها الكريمة ليبرروا ما انزلقوا إليه من أوضاع ينكرها الإسلام أو تورطوا فيه من جهالات يبرأ منها الدين ، وصدق فيهم قول الله تعالى : {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ }آل عمران7 ألا فليتق الله أولئك الذين يخادعون الأمة بأقلامهم المسمومة وأفكارهم المعسولة ويعلموا أنهم موقوفون بين يدي الله ..عندها لا ينفع ساعتها ندم ولا اعتذار ولا تذكر واستحضار ، فالموقف مهول ، والمحاسب جليل {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36 ألا إنها دعوة للحذر من الحملات المسعورة ، التي تشنيها الصحف والمجلات والأفلام والمسلسلات ،لإفساد الأسرة المسلمة وانتشالها مما تنعم به في ظل نظام الإسلام . آلا إن دعوة لبيان عظمة الإسلام وكمال تشريعه وتنظيمه لقاعدة أساسية من قواعد المجتمع . آلا إنها دعوة لأن نحمد الله على هذه النعمة العظيمة التي يتمناها بعض عقلاء الغرب الكافر ونتشبث بها ؛ وأن نعض عليها بالنواجذ فهي النجاة ، وهي الفلاح ، وهي السعادة في الدنيا والآخرة ، وهي الطمأنينة التي لا يمكن أن تجدها إلا في ظل نظام الإسلام .. هذا وصلوا رحمكم الله على النبي الكريم والمرشد العظيم