عن عدي بن حاتم، رضي الله تعالى عنه،قال: (أتيتُ عمرَ بن الخطاب في أناس من قومي، فجعل يفرض للرجل من طيئ في ألفين، ويُعرضُ عني، قال: فاستقبلته، فأعرض عني، ثم أتيته من حيال وجهه فأعرض عني، قال: فقلت:يا أمير المؤمنين، أتعرفني ؟ قال: فضحك حتى استلقى لقفاه، ثم قال: نعم والله إني لأعرفك، آمنت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وإن أول صدقة بَيَّضَتْ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيئ. جئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ يعتذر. ثم قال: إنما فرضت لقوم أجحفت بهم الفاقة، وهم سادةُ عشائرهم، لما يَنُوبُهم من الحقوق) مسلم برقم (2523) والمسند للإمام أحمد (1/404ـ405) برقم (316)
توضح هذه المواقف المجتمعة في موقف واحد النتيجة التربوية النبوية، التي كونت هذا الأنموذج الفريد، والتي يمكن إيضاحها فيما يلي:
ففي هذا الموقف تواضع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، بمداعبته لرعيته، والضحك معهم. مما يبين أن هذا الأمر لا يُنقص من قدر الوالي ما كان في الحدود المعتبرة.فكيف بالمراتب التي هي دونه. وفي هذا ما يدل على عمق التربية النبوية الكريمة التي جعلت من عمر بن الخطاب الذي عُرِف في الجاهلية بالشدة ليكون بهذه الصورة التي قد امتلأت تواضعا.
وفيه المدح في الوجه، وذكر الفضائل للفرد أو لقومه، وكذا الاعتراف لأهل الفضل بالفضل. مما يؤكد أن المنهج الإسلامي قد رَبَّى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخصال، لما يُشاهدونه من أفعال وأقوال وتقريرات رسول الله صلى الله عليه وسلم. مما يفيد أن من أبرز عوامل التربية الناجحة ترسيخ المعاني الخُلُقية من خلال الممارسة العملية التي ينشأ عليها الصغار والكبار.
وفيه من الفوائد أن الطلب من ولي الأمر ليس مذلة ولا عيبا، والذي شواهده كثيرة من تعامل الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. وما هذا الموقف إلا لما تقرر عندهم.
وفيه بيان بعض مناقب عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه وقومه طيئ، والظاهرة من وصف أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه. مما يؤكد الأهمية الاجتماعية والنفسية والتربوية في ذكر مناقب الفضلاء من الناس، وأن غمطها ليس من مكارم الأخلاق، بل في تجاهلها من رذائل الأخلاق.
وفيه من الفوائد الاعتذار المملوء بمقدمات الحب والوفاء، وهو المسلك الذي تتراحم به القلوب وتستطيب به النفوس، مما يؤكد عمق المنهج النبوي الإسلامي العظيم، والذي رَبَّى هذه النفوس التربية التي جعلت منهم نماذجا حية وعملية للتربية.
وفيه كذلك عدم تجاهل مطالب الآخرين، وبيان الحكمة والعلة في المنع والعطاء، فإن في ذلك معالجة نفسية كبيرة الأثر، وعميقة المعاني والدلالات التربوية، حيث يعالج بها المعطي نفوس غير المشمولين بالعطاء، فتطيب نفوسهم. وما أحوج الآباء والمربين والمعلمين والمدراء والقيادات لتطبيقات ذلك في الحياة العملية.
وفيه من الفوائد: مراعاة أحوال الناس، حيث قال أمير المؤمنين (إنما فرضت لقوم أجحفت بهم الفاقة) وكذلك أهمية مراعاة منازل الناس، حيث قال أمير المؤمنين في تعليله لاختصاص العطاء (وهم سادة عشائرهم، لما ينوبهم من الحقوق) وفي مراعاة مثل هذه الأحوال وبيانها ما يؤكد أهمية مراعاة الفروق الفردية، ليس في الجانب التعليمي كما هو متقرر في علم التربية وعلم النفس، بل يجب مراعاتها حتى في الأحوال الاجتماعية لآثارها النفسية والتربوية والخُلُقية، ولما يترتب على السادة والكبراء من التزامات وواجبات لا تتساوى مع من هم دونهم. فحقا إنها المدرسة النبوية الإسلامية العظيمة.
وفيه من الفوائد: أنه يلزم سادة القوم من الواجبات والحقوق ما يفوق غيرهم، وبالتالي فإن لهم ما ليس لغيرهم، فهي معادلة اجتماعية تنبثق منها معادلات صغرى متعددة، وكشفها بمزيد تأملها. إنها معادلة عظيمة في معناها، وعظيمة في معطياتها ونتائجها، وعظيمة في دلالاتها. فالمساواة ليست عدلا في كل الأحوال.