حزين من الحب

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

(1)‏

هلالٌ وحيدٌ على قبّةِ الليلِ‏

وامرأةٌ من بياضِ المناديلِ‏

واقفة تتأمّلُ أيامَهَا عند شطِّ الغروبِ،‏

وتُصغي لتنويحةِ النايِ بين السحبْ.‏

هلالٌ من الدمعِ‏

خَصَّلَهُ العشقُ من هدبِ عاشقةٍ‏

ورفعناهُ إلى كتفِ الغيمِ‏

من شوقنا للمواويلِ‏

يا قرويَّةُ نادي على الغيمِ أن يحتجبْ!‏

لنبصرَ ذاكَ الغيابَ الذي تتلألأُ أشجانهُ‏

في البعيدِ‏

ونتبعُ دربَ المحبينَ‏

يا قرويةُ نادي على الغيمِ!‏

والقرويةُ بنتُ النداءِ المبكّرِ للقمحِ،‏

بنتُ الرياحينِ في شجرِ الحبِّ‏

بنتُ الحمامِ الذي طارَ خلفَ الزغاريدِ‏

كي يتزوّجَ واحدةً‏

فاستحالَ إلى دمعةٍ وانسكبْ!‏

وطعمُ المواويلِ في الليلِ‏

بنتُ النجومِ الأحبُّ إلى اللهِ‏

نايٌ تأوَّهَ من لذَةِ الحبِّ‏

حتى إذا بُحَّ رجعُ الصدى‏

ثقبتهُ إناثُ القصبْ‏

دموعٌ من الفلِّ مجروحةٌ بالربابِ،‏

إوزّةُ حزنٍ على بيدرِ الصبحِ‏

فضَّ أنوثتها الصقرُ يوماً‏

ولوّثَ من دمها المستباحِ كرومَ العنبْ.‏

هي الحورُ يسقطُ فوق أعالي البكاءِ،‏

حداءُ غيومٍ ركضنَ على وترِ الذكرياتِ‏

المجرّدِ حتى تعبنَ..‏

سقوطُ الكمنجةِ في حزنها،‏

شوكةٌ من غضبْ.‏

تمرَّ كمرِّ السحابةِ في صيفنا الساحليّ،‏

وتجعلُ من روحنا ورقاً للهديلْ..‏

وترحلُ نحو قراها البعيدة‏

يا أيها النهرُ خذني إليها،‏

لأجرحَ أهدابَ قلبي على النايِ‏

واجرِ إلي حزنها سلسبيلْ!‏

خذيني إلى فسحةِ العمرِ‏

كي أتأملَ لونَ العصافيرِ في زرقةِ الفجرِ‏

لا تتركيني وحيداً على النهرِ!‏

لا تتركي قمرَ التوتِ قربي جريحاً‏

لأعرفَ أنَّ السحابَ رحيلْ!‏

وعودي إلى القمحِ يا قرويةُ!‏

أنتِ الدموع التي ذرفتها الغيومُ‏

على زهرِ حزنيَ،‏

أولُ رمانةٍ أسقطتها الرياحُ‏

على قلبيَ الغضِّ‏

أولُ أغنيةٍ أنزلتها النجومُ إلى بئرِ روحي‏

ورجَّعَهَا الماءُ عند حدود القرى‏

في الأصيلْ.‏

أحبك لكنهُ القمحُ:‏

شلحُ حفيفٍ من الحزنِ‏

يحفنُ أرواحنا بالدموعِ،‏

ويجعلُ من حنطةٍ دمنا‏

ثم يتركنا في ضفافِ الهوى كالنصوبْ.‏

* * *‏

ستبكي الحماماتُ تبكي‏

وتولدُ مثل النجومِ من الليلِ‏

يا قرويةُ رُدِّي جدائلَ شعركِ للريحِ كيما أتوبْ!‏

فقلبي حزينُ الأغاريدِِِ..‏

والقرويةُ أصغرُ من بُحَّةِ النايِ‏

في قصباتِ الهديلِ،‏

وأقربُ للحبِّ من غيمةٍ في الغروبْ.‏

* * *‏

حزينٌ من الحبِّ يا شجرةَ الأرزِ‏

حطَّ على كتفي بلبلُ الدوحِ يبكي‏

وردّدَ أغنيتي العندليبْ!‏

حزينٌ من الحبِّ...‏

والقرويةُ تذهبُ كل مساءٍ‏

إلى حقلةِ الأقحوانِ‏

لتجمعَ زهرَأنوثتها الليلكيَّ،‏

وتملأَ جرتها من دموعِ المغيبْ.‏

* * * ‏

تمرُّ كهدي الحفيفِ على‏

وترِ القمحِ‏

أنثى مخصَّلَةٌ من بكاءِ العصافيرِ‏

من شتوةِ الغيم فوق حقولِ الأرزِ‏

تسرّحُ في خلوةِ الروحِ مهرَ الغيابِ‏

وتتركُ أيلولها هائماً‏

في شمالِ النحيبْ.‏

(2)‏

هلالٌ جريحٌ على شجر الليلِ‏

والغيمُ يهجرُ شطآنَهُ في البعيدِ‏

وتبدو المراعي مهجّرةًً‏

مثلَ حزنٍ رعى روحَهُ‏

واستدارَ لتحلبَ قطراتِهِ السودَ‏

أنثى الندمْ.‏

هلالٌ ينوحُ كقوسِ الربابِ‏

على وترِ العمرِ‏

يحفرُ في الروحِ مجرى الوريدِ عميقاً‏

إلى أن يحدّقَ في الموتِ مثلَ الضريرِ،‏

ويجنحُ نحو أعالي النغمْ.‏

وعينانِ لا غيرَ شاخصتان‏

على ضوئِهِ الغضِّ‏

تبتهلانِ كقلبِ الينابيعِ،‏

صحراءُ راكعةٌ تحتَ مئذنةِ الليلِ،‏

نهرٌ فراتٌ رثتهُ النواعيرُ‏

حتى انهدمْ.‏

ولم يبقَ للبدويةِ غيرُ ضريحٍ‏

على صخرةِ الأمسِ‏

ترعاهُ أنثى الإوزِّ الحزينهْ،‏

وتحنو عليهِ النجومُ‏

بحلماتها البيضِ‏

لم يبقَ للبدويةِ غيرُ السرابِ،‏

وبيداءُ طاعنةٌ في الحداءِ،‏

ونجمٌ أصمّْ.‏

فأينَ الغزال الذي أرسلتهُ الأغاني‏

ليمسحَ هدبَ المواويلِ؟‏

أينَ الحمام الذي‏

أرسلتهُ وراءَ إناث الهديلِ؟‏

كأنَّ حياةَ الصبا موعدٌ‏

ضربتهُ الغزالةُ للنبعِ يوماً‏

وقبلَ فوات الأوانِ انصرمْ.‏

فيا بدويةُ كم ليلة‏

سأحدّقُ في قمرِ الحبّ‏

حتى أصير حزيناً؟‏

وكم وردة ستميلُ على الروحِ‏

كيما أحبكِ‏

كم دمعة ستسيلُ ليبرأ حزني الألمْ؟‏

* * *‏

هلالٌ جريح على شجرِ الليل‏

والبدويةُ نايٌ بَرَتْهُ أغاني الحداةِ‏

فراحتْ تنوحُ على مغربِ القلب‏

مثل حدادِ المحبينَ‏

كانَ الكمانُ يقطّعُ أجملَ أنغامهِ‏

خلفها،‏

ولفيفُ الحساسين يتبعها دامعَ الروحِ‏

نحو جراحِ المرايا‏

فأينَ الصبيَّةُ ذات الخلاخيلِ؟‏

كانتْ على صخرةِ الصبحِ‏

أصغرَ شلحةِ فلٍّ رآها السحابُ،‏

ولوّحها طائرُ العشقِ‏

فوقَ أعالي القممْ.‏

فكيفَ تشيخُ دموعُ المواويل‏

في درجِ الليل؟‏

كيفَ تمرُّ سنونٌ من العشق كاملةً‏

دون أن تجرحَ النسماتُ خدودَ الهديلِ؟‏

وكيفَ رثى روحنا في خريفِ الحياة‏

الهرمْ؟.‏