كلُّ امرئ في دهشة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

مفتونة بغيابها الشفّافِ‏

تنأى ثم تدنو في الجنوبْ.‏

أبداً تكرّرُ حزنها شمسُ الغروبْ.‏

أبداً تعيدُ دموعها شمسٌ‏

لحزنِ البرتقالِ الساحليِّ‏

كأنها مرآةُ عذرتها‏

إلى ما يجعلُ الأرواحَ‏

أنقى من دموعِ الغائبينْ!‏

كلُّ امرئٍ في دهشةٍ إلا جلالَ الدينِ!‏

سامعُ نأمةِ العصفورِ قبلَ الفجرِ‏

ينصتُ للعنبْ‏

فيحسُّ طعمَ الخمرِ قبلَ أوانها‏

في الصيفِ تنعشُ روحَهُ،‏

وتشيعُ في دمهِ السَكِينْ‏

كُنْ دمعةً‍!‏

فتصير روحُكَ ساقيهْ،‏

وابذرْ حياتَكَ بالأرزِّ!‏

ليسعدَ الفقراءُ يوماً قربَ قبركَ‏

بعدما تمضي السنينْ.‏

وارحلْ إلى شيرازَ قبلَ الفجرِ‏

شفّافاً حزينْ!‏

عطِّرْ ثيابَكَ بالبخورِ!‏

ورُشَّ زيتَ الأرزِ فوقَ محارمِ الغيابِ!‏

كُلُكَ نرجسٌ، طلٌّ‏

وكُلُكَ ياسمينْ‏

لا تدنُ من أسماعها إلا بأغنيةٍ مرنّمةٍ!‏

وغازلْ روحَها بالحزنِ!‏

قُلْ: فعليكِ يا شيرازُ من قلبيْ‏

التحيةَ والسلامْ.‏

وانحرْ ذبيحةَ حزنِكَ البيضاءَ‏

عندَ النهرِ!‏

يطلع من مهادِ الشرقِ‏

وجهُ الصبحِ قديساً‏

كأزهارِ الحمامْ.‏

* * *‏

مترحلاً في الريحِ‏

أقفلُ نحو صورتها البعيدةِ‏

سائلاً عن قبرها الأيامَ:‏

هل شيرازُ نائمة وراءَ الليلِ من زمنٍ بعيدْ؟‏

بالله يا قمرَ الديار الغضَّ‏

هلْ شيرازُ أغنيةٌ‏

نذوقُ عبيرَها إمّا نريدْ؟‏

أم أنها اللحنُ الذي نقفوهُ‏

حين تغيبُ شمسُ العمرِ‏

ذابلةَ الضفائرِ‏

كي نلامسَ رجعَهُ الباكي،‏

ونهرمَ من جديدْ؟‏

لكأنها قمرٌ نضيِّعُ حزنَهُ ليلاً‏

فلا نلقاهُ إلا فوقَ مئذنةٍ حزينْ.‏

كلُّ امرئٍ في دهشةٍ إلا جلالَ الدين!‏

يقرأُ في كتابِ العاشقينْ:‏

خُذْ قلبكَ الأسيانَ للنسيانِ!‏

واقعدْ نادماً سكرانَ!‏

تأتيكَ الحمامةُ من تصابيها البعيدِ،‏

ويقبلُ العشاقُ من خلواتهم‏

فقراءَ، منسيينَ‏

في كتبِ الطحينْ.‏

نَمْ هانئاً في خلوةِ البستانِ!‏

يسقط فوقكَ التفاحُ حلواً ناضجاً،‏

ويمسُّ عصفورُ الغروبِ‏

شغافَ روحِكَ بالحنينْ!‏

-يا سيدي!‏

لا شيءَ يوقدُ شمعةً في الروحِ‏

غيرُ الفقدِ والخسرانِ،‏

لا بيتٌ يظلّلُ ساكنيهِ‏

سوى دخانِ التيهِ‏

أو كوخ الدخانْ.‏

لا شيءَ غيرُ خرائبٍ منهوبةٍ،‏

وخريفُ أشجارٍ‏

وصُفْرَةُ سنديانْ.‏

لم يبقَ من شيرازَ إلا قلبها‏

المشنوقَ فوق اليتمِ كالقمرِ الجريحِِ،‏

وخمرة مفقودة في ذروة الهذيانْ.‏

كيف الوصولُ ولا زمان ولا مكانْ؟‏

-يا سيدي العالي!‏

أيكفي أن نحسَّ بطعم هذا الخمر‏

حتى ينضجَ العنبُ؟‏

أو أن نحدّقَ في غياب الشمسِ‏

حتى نلتقي شيرازَ‏

طالعةً كمئذنةٍ من الياقوتِ‏

من قلبِ الغيابْ؟‏

فنشدُّ نحو جمالها أبصارنا العمياءْ.‏

بيضاءُ أو زرقاءُ؟‏

لا تبدو سوى تلكَ الأغاريدِ‏

التي كنا أضعنا في طفولةِ عمرنا‏

تنبثُّ كالأشجارِ من قلبِ الدخانْ.‏

فنرى زماناً بائداً،‏

ومدينةً (منحوتة من توقنا للموتِ)‏

نلمسها فلا نجد القبابَ‏

ولا المآذنَ‏

لا نجدْ إلا رميمَ قلوبنا المنسيّ‏

ينبضُ في شرايينِ السرابْ.‏

ونرى السنينَ كأنما شاختْ!،‏

وقد شابتْ ذوائبها‏

فنوقنُ أننا تُهْنَا،‏

وفاتَ رحيلنا التالي قطارُ العمرِ‏

وارتحلَ الشبابْ.‏

لكأنما شيرازُ صورتنا على المرآةِ‏

نخطئها صغاراً‏

ثم نبصرها مجازاً في كهولتنا‏

فنجلسُ عندَ مجرى النهرِ‏

منتظرينَ أن يأتي الغرابْ