مفتونة بغيابها الشفّافِ
تنأى ثم تدنو في الجنوبْ.
أبداً تكرّرُ حزنها شمسُ الغروبْ.
أبداً تعيدُ دموعها شمسٌ
لحزنِ البرتقالِ الساحليِّ
كأنها مرآةُ عذرتها
إلى ما يجعلُ الأرواحَ
أنقى من دموعِ الغائبينْ!
كلُّ امرئٍ في دهشةٍ إلا جلالَ الدينِ!
سامعُ نأمةِ العصفورِ قبلَ الفجرِ
ينصتُ للعنبْ
فيحسُّ طعمَ الخمرِ قبلَ أوانها
في الصيفِ تنعشُ روحَهُ،
وتشيعُ في دمهِ السَكِينْ
كُنْ دمعةً!
فتصير روحُكَ ساقيهْ،
وابذرْ حياتَكَ بالأرزِّ!
ليسعدَ الفقراءُ يوماً قربَ قبركَ
بعدما تمضي السنينْ.
وارحلْ إلى شيرازَ قبلَ الفجرِ
شفّافاً حزينْ!
عطِّرْ ثيابَكَ بالبخورِ!
ورُشَّ زيتَ الأرزِ فوقَ محارمِ الغيابِ!
كُلُكَ نرجسٌ، طلٌّ
وكُلُكَ ياسمينْ
لا تدنُ من أسماعها إلا بأغنيةٍ مرنّمةٍ!
وغازلْ روحَها بالحزنِ!
قُلْ: فعليكِ يا شيرازُ من قلبيْ
التحيةَ والسلامْ.
وانحرْ ذبيحةَ حزنِكَ البيضاءَ
عندَ النهرِ!
يطلع من مهادِ الشرقِ
وجهُ الصبحِ قديساً
كأزهارِ الحمامْ.
* * *
مترحلاً في الريحِ
أقفلُ نحو صورتها البعيدةِ
سائلاً عن قبرها الأيامَ:
هل شيرازُ نائمة وراءَ الليلِ من زمنٍ بعيدْ؟
بالله يا قمرَ الديار الغضَّ
هلْ شيرازُ أغنيةٌ
نذوقُ عبيرَها إمّا نريدْ؟
أم أنها اللحنُ الذي نقفوهُ
حين تغيبُ شمسُ العمرِ
ذابلةَ الضفائرِ
كي نلامسَ رجعَهُ الباكي،
ونهرمَ من جديدْ؟
لكأنها قمرٌ نضيِّعُ حزنَهُ ليلاً
فلا نلقاهُ إلا فوقَ مئذنةٍ حزينْ.
كلُّ امرئٍ في دهشةٍ إلا جلالَ الدين!
يقرأُ في كتابِ العاشقينْ:
خُذْ قلبكَ الأسيانَ للنسيانِ!
واقعدْ نادماً سكرانَ!
تأتيكَ الحمامةُ من تصابيها البعيدِ،
ويقبلُ العشاقُ من خلواتهم
فقراءَ، منسيينَ
في كتبِ الطحينْ.
نَمْ هانئاً في خلوةِ البستانِ!
يسقط فوقكَ التفاحُ حلواً ناضجاً،
ويمسُّ عصفورُ الغروبِ
شغافَ روحِكَ بالحنينْ!
-يا سيدي!
لا شيءَ يوقدُ شمعةً في الروحِ
غيرُ الفقدِ والخسرانِ،
لا بيتٌ يظلّلُ ساكنيهِ
سوى دخانِ التيهِ
أو كوخ الدخانْ.
لا شيءَ غيرُ خرائبٍ منهوبةٍ،
وخريفُ أشجارٍ
وصُفْرَةُ سنديانْ.
لم يبقَ من شيرازَ إلا قلبها
المشنوقَ فوق اليتمِ كالقمرِ الجريحِِ،
وخمرة مفقودة في ذروة الهذيانْ.
كيف الوصولُ ولا زمان ولا مكانْ؟
-يا سيدي العالي!
أيكفي أن نحسَّ بطعم هذا الخمر
حتى ينضجَ العنبُ؟
أو أن نحدّقَ في غياب الشمسِ
حتى نلتقي شيرازَ
طالعةً كمئذنةٍ من الياقوتِ
من قلبِ الغيابْ؟
فنشدُّ نحو جمالها أبصارنا العمياءْ.
بيضاءُ أو زرقاءُ؟
لا تبدو سوى تلكَ الأغاريدِ
التي كنا أضعنا في طفولةِ عمرنا
تنبثُّ كالأشجارِ من قلبِ الدخانْ.
فنرى زماناً بائداً،
ومدينةً (منحوتة من توقنا للموتِ)
نلمسها فلا نجد القبابَ
ولا المآذنَ
لا نجدْ إلا رميمَ قلوبنا المنسيّ
ينبضُ في شرايينِ السرابْ.
ونرى السنينَ كأنما شاختْ!،
وقد شابتْ ذوائبها
فنوقنُ أننا تُهْنَا،
وفاتَ رحيلنا التالي قطارُ العمرِ
وارتحلَ الشبابْ.
لكأنما شيرازُ صورتنا على المرآةِ
نخطئها صغاراً
ثم نبصرها مجازاً في كهولتنا
فنجلسُ عندَ مجرى النهرِ
منتظرينَ أن يأتي الغرابْ