القسم الأوَّل :أيقونة الوحشة ندامى الحسرة الباكون

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

إلى الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي.‏

*

تبكي الكمنجاتُ الحزينةُ‏

في ظلامِ الليلِ‏

تبكي الريحُ في طرقِ الحداةِ الخاليهْ!‏

تبكي طوالَ الليلِ أرملةُ المناحةِ‏

والربابةُ باكيهْ!‏

من لي إذا أوحشتنيْ حزناً عليَّ‏

ومن ليهْ؟‏

من لي سوى قمرٍ جريحٍ في سماءِ الباديهْ؟،‏

والنوقِ ترحلُ في بلادِ الرافدينْ!‏

* * *‏

تبكي الكمنجاتُ الحزينةُ فرقتيْ وحداديهْ.‏

والشاعرُ البدويُّ‏

يبكي عندَ جدرانِ الحسينْ!‏

يبكي جميعَ الناسِ،‏

يقعدُ في ظلام الليل مقهوراً‏

يعتّبُ للخريفِ‏

كطائرِ البجعِ الحزينْ.‏

من لي إذا أبصرتني هلعاً‏

سوى مبكى الفواختِ‏

عند جدرانِ القبورِ النائيهْ،‏

والنايِ يذرفُ دمعةَ السيّابِ‏

في كيسِ الطحينْ!‏

يبكي العراقيُّ الحزينُ..‏

وفي ظلامِ الليل يُصدي‏

عازفُ المزمارِ لحناً موجعاً‏

والريحُ تنحبُ في الجوارْ!‏

يا أيها البدويُّ‏

لا تنزفْ حداءكَ في مغيبِ الشمسِ!‏

قد رحلَ الذين تحبهمْ‏

وبقيتَ وحدكَ في قفارِ الأرضِ‏

توحشكَ الديارْ!‏

ستدقُّ أبوابَ الأحبّةِ‏

ثم ترجعُ باكياً‏

كيما تربّي الريحَ بينَ جدائلِ الصبَّارِ،‏

ترفعُ جثّةَ الأيامِ تمثالاً من الحسراتِ‏

أو صنمَ انتظارْ.‏

يا بْنَ المواجيد الجريحةِ‏

والنواحِ المرِّ‏

والقمرِ الذي يحدو وحيداً‏

في البراري والقفارْ!‏

يابن الليالي السودِ والهجرانِ‏

لا صدرٌ لتلقي رأسكَ السكرانَ‏

فوقَ نهودهِ لتنامَ‏

كالأيتامِ‏

لا أمٌّ لتحنو فوقَ هذا القمح‏

مانحةً أمومتها‏

لروحكَ في المدى المهجورِ‏

والأرض البوارْ.‏

* * *‏

تبكي الكمنجاتُ الحزينةُ يا غريبَ الدارِ!‏

تبكي الروحُ مفردةً‏

على قبرِ المراثيْ‏

والرياحُ رثائيهْ.‏

من لي إذا أدلجتُ في الأيامِ منفرداً؟‏

سوى باكٍ علي وباكيهْ،‏

وبداوةِ الأحزانِ تنشدها‏

وراءَ النهر ناياتُ الرعاةْ.‏

* * *‏

تبكي الكمنجاتُ الحزينةُ في الديار النائيهْ!‏

يبكي العراقيُّ الحزينُ على الفراتْ!‏

يجثو كقديسٍ‏

وينشرُ في رحابِ الماءِ منديلَ الطفولةِ‏

رافعاً كلتي يديهِ‏

إلى هلالٍ هائمٍ‏

مثل الإوزّةِ في سماءِ الذكرياتْ.‏

ويسرّحُ الموّالَ‏

في مدِّ البهاءِ الطلقِ‏

لكنَّ النحيبَ المرَّ يأتي مُصدياً‏

فتحنُّ أثداءٌ إلى شفتيهِ‏

يرضعها، ويرضعُ مريماتِ الحزنِ،‏

يرضعُ من جميعِ الأمهاتْ.‏

يبكي الصحابيُّ الحزينُ على الحياةْ.‏

يطوي يديهِ على الرحيلِ‏

كجثّةِ الندمِ الأخيرةِ‏

ثم يتركُ صوتَهُ المبحوحَ في الأنحاءِ‏

منتحباً كأيّوبِ الحداءْ.‏

يا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلِ!‏

فأنا تخافُ الوحشُ من شجني المريرِ،‏

ويفرقُ الغرباءُ من حزني‏

وتركضُ في عراءِ الريحِ‏

ذئبةُ خيبتي الثكلى‏

لتفترسَ العراء.‏

وأنا اكتهالُ الطينِ‏

والشجرُ المقصَّفُ تحتَ أمطارِ الشتاءْ.‏

قد صارَ وقتي مفرداً‏

ووجوهُ أصحابي معلّقةٌ‏

على شجرِ المنافي‏

كالتصاوير القديمةِ‏

فوق جدرانِ الشقاءْ.‏

ياحارثَ الأرضِ العقيمةِ‏

بالكآبةِ‏

شُدَّ أوتارَ الربابةِ‏

إنهُ وقتُ البكاءْ!‏

(وامررْ على الجدثِ الذي حلَّتْ بهِ‏

أم العلاءِ‏

فنادها لو تسمعُ).‏

حرّكْ حجارَة قبرها‏

واقرا السلامَ‏

ففي فؤادي حسرةٌ تتوجّعُ!‏

إني ليشجيني الحمامُ إذا‏

بكى إلفاً‏

فكيفَ بقبرها النائي‏

بكاملِ حزنهِ يتفجَّعُ!‏

يا لهفَ نفسي شاردٌ في البيد‏

يحطبني أسايَ‏

ويضألُ الخلاّنُ‏

يوماَ بعد يومٍ عن مؤانستيْ‏

فخلٌّ غائبٌ ومودّعُ.‏

رحلوا ندامى الحسرةِ الباكونَ‏

وارتحلوا وتاهوا.‏

لم يهتدوا لسبيلِ حكمتهم‏

وما وجدوا القناديلَ التي‏

لمعتْ على أفق من الخسرانِ‏

لم يجدوا سوى رجعِ الصدى المهجورِ‏

يلفحهم،‏

وذئبٍ فاغرٍ فاهُ.‏

فالريحُ تذرو الريحَ‏

في أرضِ من الهجرانِ‏

والفقدانُ يحفرُ في سوادِ الروحِ‏

أنفاقاً من الدمعِ‏

استداروا كالمرايا السودِ‏

في كلِّ الجهاتِ‏

وأنصتوا‏

لم يسمعوا صوتَ البشيرِ منادياً:‏

عودوا!‏

ولا سمعوا صداهُ.‏

فبربِّ حزنِكَ لا تمتْ مولايَ!‏

أفردني حدايْ.‏

مازلتُ أعصرُ من نهودِ الصبحِ؟!‏

هذي الخمرَ‏

سكراناً مواويلاً وأشجاناً ونايْ!‏

أنا ما رضعتُ الحزنَ من قنديلِ‏

روحكَ يا أبي‏

لكنني جرّبتُ أن أرثي صبايْ!‏

مولايَ أنتَ الحزنُ يبلغني‏

ويروي علّتي وأسايْ.‏

فبربِّ حزنكَ لا تمتْ مولايَ!‏

أفردني حدايْ