الوقوف على أطلال الوحشة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

نأتِ الديارُ‏

فمن سيؤنسُ روحكَ المهجورَ‏

من سيضمُّ حزنكَ يا غريبُ؟!‏

الأرضُ كلُّ الأرضِ‏

تسمعُ شجوكَ العالي‏

فمن يبكي عليكَ إذا نأيتَ،‏

ومن يكفكفُ دمعكَ المذروفَ منْ؟‏

يا أيها الولدُ الكئيبُ!‏

فارقتَ دهركَ، والأحبةُ قد نسوكَ‏

وصرتَ وحدكَ في مغيب العمرِ؟‏

ترفعُ راحتيكَ معانقاً أفقَ الحياةِ‏

كأنكَ الرجلُ الصليبُ؟‏

لا النفسُ طابتْ بعدهم سَكَنَاً‏

ولا سودُ الليالي بعدما ابتعدوا تطيبُ.‏

تمشي كأنكَ خاسرٌ أبداً‏

وقلبكَ ناسكُ الهجرانِ‏

يا جبلاً تخدّدهُ الرياحُ‏

وتصدعُ الأحزانُ هامته،‏

ويصرعُه المغيبُ.‏

وبكيتَ لمْ يُجدِ التأوّهُ حسرةً،‏

وصرختَ لم تجبِ القفارُ.‏

نأتِ الديارُ..‏

فيا وحيدَ الليلِ‏

كيفَ تساهرُ الأيامَ؟‏

لا صوتٌ يمرُّ بحزنهِ المغلوبِ في‏

ديجوركَ العاتي، ولا قمرٌ يُنارُ.‏

لو وردةٌ في الروحِ‏

يا ذا الحزنِ‏

لو بابٌ إلى النسيانِ‏

لو دربٌ تعرّجهُ الكنيسةُ والمزارُ.‏

لكنّ عمركَ راحلٌ في الريحِ‏

لن تجدي الطفولةُ في سنابلها‏

بهزِّ فؤادكَ البالي‏

ولن يُجدي احضرارُ.‏

يا أنتَ يقتلكَ الفراقُ‏

فَمِلْ برأسِكَ باكياً‏

فوقَ التصاويرِ التي أحببتها قبلَ الرحيلِ!‏

أواهِ كمْ أوحشتهمْ،‏

كمْ صرتَ مبتعداً وصاروا‍‍!‏

يا للأباريقِ التي شفّتْ بروحكَ،‏

والخمورِ إذا شعرتَ بدفئها‏

لكنها ليستْ تُدارُ.‏

نأتِ الديارُ،‏

وأقفرتْ بعدَ العشيةِ‏

والحمامُ لهُ هديلُ.‏

ألأنهُ الزمنُ البخيلُ؟‏

أمسيتَ وحدكَ في شمالِ الليلِ‏

تبحثُ عن أليفٍ لم يغيّبهُ الرحيلُ.‏

يا ذارفَ الدمعاتِ هذي الروحُ عاريةٌ‏

فزمّلها بطرفِ ردائك البالي،‏

وهُزَّ بشجوكَ العالي شجيراتِ النعاسِ؟‏

فليلُ فرقتها طويلُ.‏

لا شيءَ يأتلفُ المكانَ سوى‏

مرورِكَ في المغيبِ مُضيِّعاً‏

والأرضُ منعاها العويلُ.‏

ألأنَ قلبكَ دامعٌ خلفَ الطلولِ‏

بكتْ عيونُ الخيلِ في بغدادَ‏

وانجرحَ الصهيلُ؟‏

يا ويحَ حزنكَ يا بعيدَ الدارِ‏

لا حورٌ لتبكي تحتهُ مُرَّ الحفيفِ،‏

ولا حمامات ليهتزَّ النخيلُ.‏

لا قلبُ أمّكَ ناحبٌ عند الغروبِ على فراقكَ،‏

لا صبيّةُ حبّكَ البيضاءُ داريةٌ بوجدكَ،‏

ولا نوافذُ أمسكَ المنسيِّ‏

يُشرعها على البستانِ مِطلعَكَ الجميلُ.‏

طاعنتَ في الأحزانِ أياماً بلا عددٍ‏

ووخَّطكَ المشيبُ..‏

فيومكَ آزفٌ نحو الغروبِ،‏

ووجهكَ المكدودُ يعروهُ اصفرارُ.‏

(ستجيئكَ النوقُ العشارُ‏

وفوقها جثثُ الذين تحبهمْ) بعد الأوانِ‏

فلن تميّزَ ركبهمْ‏

ستكونُ شمسك قد مضتْ،‏

وتكونُ قد خلتِ الديارُ.‏