على دروب الملاجة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

*إلى الشاعر الراحل‏

محمد عمران .*‏

*

يَا لَيْلُ!‏

يا بَدْرَ النبوَّةِ في أعَاليْ الصيفِ!‏

يا مزمارَ راعيةِ النجومِ على صخور الليلِ!‏

يا حبْرَ الكتابةِ فوقَ أهدابِ القصيدِ!.‏

يا أوّلَ الأسرارِ‏

تهبط مِنْ فؤادِ الفجرِ فوقَ سكينتيْ!،‏

يا أوّلَ الصلواتِ‏

ترفعَهَا حساسينْ الفراتِ البيضُ! .‏

يا أيقونةً زَرْقاءَ‏

أخْفَتْ بلبلاً في وَحْيها‏

فاستيقظَ الفلاّحُ في الرّيفِ البعيدِ!...‏

أومَأْتُ للمزمارِ خُذْني!‏

مثلَ جنحِ الطيرِ للملاجةِ الخضراءِ،‏

وازرعْ في طريقِ سحابها الحاديْ نشيديْ! .‏

واتلَ صلاةَ سفوحِهَا في الصبحِ،‏

واتركني على الريحانِ مجروحاً! ،‏

ليسقي صدريَ الظمآنَ‏

عصفورُ البساتينِ الشريدِ‏

أومأتُ للنايِ اتبعيني‏

نحوَ زيتونِ الحمامِ، وتينهِ العالي‏

لتجرحني الربابة في وريديْ!‏

ووددتُ لو قلبيْ يماماً‏

كي أحلّق باتجاه البحرِ‏

كانَ البحرُ مفتوحاً على أيقونةٍ بيضاءَ‏

يجلسُ تحتها رَجُلُ الأغاني‏

صاحَ بيْ:‏

دَعْ طفلَ حزنكَ عندَ بابِ البحرِ!،‏

وافردْ راحتيكَ‏

فتولَدُ امرأةُ البعيدِ.‏

لكنّني يا سيّدي -سُقياً لسالفِ حزنكَ الأبديّ -‏

أرحلُ عن بحارِ العمرِ كالسكران‏

-دَعْ عصفورَ حزنكَ عندَ بابِ البحرِ! ..‏

كي تعلو بقلبكَ للغناءِ‏

رَسَوْلَةُ الوديانِ،‏

واذهبْ في طريقِ النبعِ!،‏

ترفعُ قلبكَ الظمآنَ‏

أجنحة الهديلِ،‏

ويمزجُ الصفصافُ روحكَ بالهبوب .‏

لكنّني يا سيّدي‏

طفلُ اليمامَاتِ اليتيمةِ في الظماءِ،‏

فَقيرِ صلاتِكَ البيضاءِ‏

فوقَ السفحِ‏

شرّدني النواحُ على قميصِ الصيفِ كالمِزْمَارِ‏

والأشعارُ‏

حَطّتني جريحاً كالعتابَا‏

فوق أوتارِ الغروبِ.‏

- خُذْ روحكَ البيضاءَ‏

-واذهَبْ في طريقِ القمحِ!‏

يتبعُ طيرُها أجراسَ حزنكَ للجنوبِ.‏

وادخلْ على ملاّجةِ الأسرارِ عُطلاً باكياً!‏

واقرأْ على زيتونها العالي السلامْ! .‏

-يا أمُّ قَدْ كَبُرَتْ رباباتيْ على الأحزانِ!‏

رديني صغيراً‏

كي أدبَّ على دروبكِ حافياً‏

فبدونِ قمحٍ لا أنامْ!‏

أنا طائرُ الينبوعِ تولدُ من حفيفٍ زرقتيْ،‏

وأنا المسمَّرُ بالطفولةِ فوقَ أبراجِ الحمامْ! .‏

أنا طائرُ الينبوعِ‏

طارتْ كلّ أجراسيْ‏

على أدراجِ موسيقى الغناءِ الغضّ‏

شلالاً من الماءِ‏

الأغاني كلّها ارتفعتْ على أقواسِ لوزِ الحزنِ‏

وارتفعَ البكاءُ على النواعيرِ!!‏

احمليني مثل كَسْرَاتِ الجرارِ‏

إلى فؤادكِ!‏

واتركيني فوقَ صدركِ كي أنامْ!.‏

لكنّ كهلَ الريحِ لم ينْصتْ إلى روحيْ،‏

ولمْ يذرفْ على حزنيْ الغمامْ! .‏

فَنَشَرْتُ شَاْلَ اللّيلِ‏

فوقَ ضريحِ أحزانِ المغيبِ‏

وقلتُ يا ملاجةُ‏

انكَسَرَتْ نواعيرُ الجنوبِ‏

فجئتُ أسأْلُ عن نواعيرِ الشمالْ!!‏

وقرأتْ حزنكِ بين طياتِ الغيومِ العاليهْ..‏

فَسَمِعْتُ صَوْتَ الشاعِرِ المتروكّ‏

يَشْردُ في الأعالي!..‏

يا سيدي‏

يا سيدي رفقاً!‏

أنا وترٌ جَريحُ العودِ‏

يبكي خلفَ أسوارِ الليالي!!‏

قَدّتْ فؤاديَ من بكاءِ الريحِ‏

راهبةَ الخريفِ!،‏

ويَمَّمُوْني شَطْرَ أحزانِ الجنوبِ السودِ‏

رهبانُ الضلالِ!!.‏

يا سيّدي!‏

يا سيّدي العالي!!‏

لّو كانَ جرحي وردة‏

لزرعتها إثماً على دربِ الهديلْ!! .‏

وتبعتُ أنثى الصيفِ كالزيتونِ‏

أعصرُ دمعتيْ زيتاً على أقدامها،‏

ورفعتُ فوقَ القمحِ أرملةَ النخيلْ!!‏

لكنَّ حزني مثل ثوبِ الريحِ‏

يَرْعى رَجْعَ أجراسِ الحدا‏

في وحشةِ الأبراجِ،‏

مثلَ قميصِ أيلولَ الجريحِ‏

وراءَ قلبِ النبع‏

مثلَ الغيمِ‏

متروكٌ على شَجَر الأصيلْ!! .‏

أومأتَ للنّاي اتبعيني بالأنينْ! .‏

لكنها ملاّجةَ الأسرارِ يا عمرانُ‏

نتركُ عُمْرَنَا يمشي إليها‏

ثمّ نرجع تائبينْ!! .‏

روحيْ سأتركَ حزنها طيراً على أشجارها‏

وأعيدها أنثى لتعشقها الحساسينُ الصغيرةُ‏

كلما ارتَفَعَ الخريفُ‏

إلى سكينةِ قلبها الشفّاف‏

وارتفعَ الكمانُ على نواح العاشقينْ!!!.‏

وأقولُ للمزمارِ خُذْني!‏

نحوَ سفحِ الليلَ‏

كي أرخي بكائي فوق بستان الصلاةِ‏

وردّني قمراً حزينْ!!.‏

لأضيءَ سَجْدَتَهَا الطويلةَ‏

وهي تركعَ فوقَ صدرِ البحرِ‏

نادبةُ كراهبةِ الحداءِ المرّ‏

صَلْصَالَ السنينْ!!!.‏

هيَ آخر امرأةٍ زرعنا دربَهَا بالقمحِ‏

كي نمشي على رجعِ الغروبِ‏

وحينما عُدْنَا‏

وَجَدْنَا القمحَ ينبتُ مِنْ حجارةِ‏

حزنِهَا السوداءِ‏

زيتوناً وتينْ!!!.‏

وهي الخريفُ مسوَّراً بالذكرياتِ،‏

وزهرةَ الدفلى التي نشتمّ قبلَ الموتِ!‏

يا أحلى الإوزاتِ التي طارتْ‏

لتصرخَ كالأراملِ في الردى‏

وا مَاْلِكَ البحرِ الحزينْ!!!‏

هل كانَ حقٌّ أن تموتَ؟!!‏

وما تزال ضفائري الخضراءَ‏

راخيةً سنابلها‏

على صَوْتِ الخريرِ،‏

وما يزال محدّقاً في الصيف عصفورُ الدوالي،‏

والقرى مكسورة فوقَ السريرِ‏

تهزّ في رفقٍ‏

صغارَ غنائكَ الباكينْ!!! .‏

كلّ الذينَ نُحِبَهمْ رَحَلَوا!!‏

كأنْ لا مهدَ إلا الموتُ‏

نتركُ روحَنَا لتنامَ‏

في ملكوتهِ الهادي كتمثالِ السكينةِ‏

كلما كَبُرَ الغناءُ على الغناءِ‏

وصارَ طيرُ النبعِ دمعةَ ياسمينْ! .‏

كلَّ الذينَ نُحبهُمْ. ..‏

إلا صدى كلماتهمْ في البالِ‏

يا صلصالُ‏

عذّبنا!!‏

وشكّلنا كما تهواكَ عذراءُ الطفولةِ‏

إننا قومٌ نُرَبّي البيلسانَ‏

على ضريح غيابنا حزناً،‏

ونعشقْ في خريفِ العمر وجهَ الغائبينْ!!!!.