مونولوج العزلة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

ـ 1 ـ‏

أطفأتُ مصباحي لأغفو‏

أيها الليلُ العتيقْ!‏

أطفات مصباحي..‏

أنا حزناً إلى حزنٍ‏

أضمُّ مصاحفي‏

وأغطُّ في نومٍ عميقْ.‏

نمْ هانئاً يا أيها الليل العتيقْ!‏

فأنا أقمتُ صلاةَ وقتي‏

وسكنتُ نوماً لا يفيقْ.‏

ـ 2 ـ‏

أجاهدُ في النفسِ حزناً قديماً‏

وأغلقُ بابيْ..‏

أنا كيفَ أعلنُ عن عزلتي‏

وعلى الباب يبكي غيابيْ؟‏

ـ 3 ـ‏

سكنتُ مع الليلِ‏

إذ سكنَ الليلُ أبكي عليّْ!‏

يدايَ على الصدرِ‏

تلمسُ رجعاً حزيناً،‏

ورأسي ينامُ يتيماً على ركبتيّْ!‏

ـ 4 ـ‏

متدلّياً كشجيرةِ صفراءَ فوق النهرِ‏

قبري تحت أغصاني‏

وأكفاني بقربي.‏

يا أيها الراعي‏

دعِ الأغنامَ ترعى‏

عشبَ أيامي وحبّي!‏

وانهضْ بحزنكَ يا رفيقَ الناي‏

واعزفْ لحنك البالي‏

على أطلالِ قلبي!‏

ـ 5 ـ‏

تعالَ لنصغي إلى الناي يا سامعي!‏

تعالَ لنصغي إلى صوتِ أيامنا الضائعِ!‏

ـ 6 ـ‏

قمري فرخُ حمامٍ ساهرٌ‏

والليلُ سطحٌ للهديلْ.‏

أيها الحبُّ‏

أنا الساهرُ أبكي لحبيبي..‏

وعلى السرو يناجيني الكناريُّ الجميلْ!‏

والشبابيكُ كتابُ العشقِ‏

قد أغلقتها‏

لطفاً بحزني أيها النايُ‏

فقلبي ثقّبتهُ زهرةُ الدمّ‏

وروحي جرّحتها الريح‏

والعشقُ مناديلُ رحيلْ!‏

يا حماماتُ ترفقّنَ بحبي‏

لا تطيري بالهديلْ!‏

ـ 7 ـ‏

وراءَ سياجِ الحديقة تجلسُ عاشقةٌ‏

من دموعٍ‏

لتنصتَ للريحِ تحتَ غصون‏

الخريفْ!‏

تحنُّ إلى الحبّ لكنهُ غائبٌ‏

وتحنُّ إلى الحزنِ‏

لكنه ساكنٌ في أعالي الحفيفْ!‏

وتنسى يديها على راحتيّ‏

إذا أسرفَ الحورُ بالهَدْيِ‏

تاركةً نحلةَ الحبِّ في شفتيَّ‏

تمصُّ رحيقَ النزيفْ!‏

وراءَ سياجِ الحديقةِ‏

طيّبتُ أحزانها بالغناءِ‏

وأهديتها ورقاً (أصفراً)‏

وجمعتُ بمنديلها الحلو‏

كلَّ بكاءِ الخريفْ!‏

ـ 8 ـ‏

يا ليلُ ما أكملتُ أغنيتي‏

ولا شاختْ على عمري المواويلُ!‏

قلبٌ كفيفُ الحزنِ يبكيني‏

إذا رحلوا‏

وفي روحي إذا غابوا‏

تجرّحني التراتيلُ.‏

حطَّ الحمامُ على نخيل الروحِ‏

نواحاً على ثكلٍ‏

فلا انصرفَ الخريفُ بحزنهِ عني،‏

ولا انقطعَ الهديلُ المرُّ عن حزني..‏

ولا مرّتْ على ليلى الأناجيلُ‏

-9-‏

عذراءُ من حزنٍ شفيفْ.‏

جلستْ كسنبلةٍ‏

تراقبُ من نوافذها الخريفْ.‏

عينانِ تنكمشانِ كالعصفورِ‏

في غضنٍ حزينٍ‏

و(أصابع) بيضاءُ‏

تغزلُ في الغروبِ حكايةً من ياسمينْ!‏

عذراءُ يغفو قربها نهرٌ،‏

ويذبلُ في حقيبتها الخريفْ!‏

- 10-‏

على شاطئ البحر عند الغروبِ.‏

تنامُ الحكاياتُ متعبةً‏

ويصيرُ على الموج أن يتأمّلَ مرآته ويذوبْ.‏

يصيرُ على الغيم أن يترحّلَ‏

مثل التماثيلِ بيضاءَ‏

نحو كنيسةِ حقلِ النصوبْ.‏

يصيرُ على الشمسِ‏

أن تستضيء بماساتها الحمرِ‏

والأرجوانِ العتيقِ‏

لتفتحَ محرابها للغروبْ!‏

-11-‏

على مفرقِ الليل تبكي الربابةُ‏

من وحشةِ الناس يائسةً‏

وتدقُ على حائطِ الموتِ:‏

يا أبتي الموتُ‏

لم يبق إلا القليلُ القليلْ!‏

وتعولُ ريحٌ على شجرِ الحورِ مرّ العويلْ.‏

-12-‏

يقعدُ النايُ في الليل مستوحشاً وكئيبْ!‏

يقعدُ الناي في معبدِ الليلِ‏

فرداً سلبياً‏

يجمّعُ كلَّ أغانيهِ من حولهِ‏

كاليتامى‏

ويبكونَ حولَ ضريح الغريبْ!‏

-13-‏

حينَ ماتَ المغنّي‏

بكينا كلانا‏

أنا والربابةُ أختي‏

بكيتُ عليها، تباكتْ عليَّ‏

بكينا على الناي منفرداً في الأغاني!‏

بكينا على جدّنا الشيخ‏

ماتَ وخلّفنا نائحينَ..‏

نغني ككهّانِ ليلٍ عتيقٍ‏

فأختي اعتراها الخريفُ‏

وأيلولُ بالاصفرار اعتراني.‏

-14-‏

على وجهها يا غريبْ:‏

شموعٌ من الآسِ‏

يذرفُ دمعاتها الليلُ‏

فوق كتابِ المغيبْ!‏

ولو كانَ عمري طويلاً‏

لعمّرتُ من هدهداتِ ضفائرها السودِ‏

كوخاً على شجر الكينياءْ!‏

ولو كانَ قلبي حزيناً‏

لمشّطتُ شَعْرَ البكاءْ!‏

وقلتُ تعالي إلى وحشتي‏

يا صغيرةُ‏

إن كلامَ الرياحِ على الحورِ مُبْكٍ!،‏

وأسدلتُ فوق مسائي قميصَ الغريبْ!‏

ولو أن روحي تعزفُ بالناي‏

كوّرتُ من عشبِ روحي عشّاً‏

ليسكنهُ العندليبْ.‏

-15-‏

وما كانَ حزنكَ؟‏

هذا مساءٌ محرّمْ.‏

تدلّتْ عناقيدُ ما كنتُ تهوى‏

وجاءتْ جرارٌ من الخمرِ‏

عتَّقها أنها من تواقٍ مندّمْ.‏

وما كانَ..‏

لو أخذَ النومُ هذا الكرى‏

بمعاقدِ أجفانها سنةً أن تفيقَ‏

فقبركَ كلُّ الفضاءِ‏

وكونٌ من الفضّةِ واللازورد المذّهبِ‏

يرتادهُ الفقراءُ‏

وأعلاه بدرٌ جميلٌ كمريمْ.‏

ولو أنتَ تدري‏

رأيتكَ تحملُ قبريَ،‏

فاحتارَ من أمركَ اليوم أمري..‏

وفاضَ على شفقِ الروحِ‏

شيءٌ من السكرِ حتى الندمْ.‏

وما كانَ حزنكَ أنني‏

من فرقتي أتألّمْ!‏

-16-‏

بكى صاحبي‏

حين أمسك بالناي بعد فراقٍ طويلْ!‏

تذكّرُ مرَّ المواويل،‏

والعشقَ في أولِ العمرِ،‏

والفتيات اللواتي كذبنَ على قلبهِ القرويّ‏

وطيّرنَ قبل أوان الهديلْ!‏

بكى صاحبي!‏

قال: كنت أغازل أنثاي بالناي‏

عند الغروب‏

فعلّمتها وحشتي‏

وتعلّمتُ منها البكاءَ على من أحبُّ،‏

وحزنَ أغاني الرحيلْ!‏

وها قاربَ العمرُ أن ينتهي‏

والعيونُ الكليمةُ تعمى‏

وما زالَ ينحبُ في الروحِ نايُ الرحيلْ!‏

-17-‏

قمرٌ أبيضُ في شرفاتِ الليلِ‏

ونجمٌ يهبطُ أدراجَ الملكوتْ.‏

ما لي من كلِّ الناسِ‏

وروحي تقطفُ من شجرِ العزلةِ‏

أزهارَ الياقوتْ؟‏

-18-‏

سألتُ الحزينةَ عن اسمها‏

وسألتُ اسمها عن كلامٍ حزينْ!‏

***‏

سألتُ أصابعها عن خواتمَ ضائعةٍ،‏

وأساورَ من ذهبٍ وعقيقٍ،‏

فأجهشَ بين أناملها الخمس‏

صوتُ الرنينْ!‏

-19-‏

قمرٌ يغرقُ الليل في الروحِ‏

ثم يلاشيهِ عذبُ الغناءِ،‏

حنينُ الصبايا لأولِ زغرودةٍ‏

طيّر النايُ أنغامها في سماءِ الحماماتِ‏

أنتِ الصلاةُ إلى الأمّ‏

وهي تمسّدُ بالطَّيبِ حزنِ المسيحِ‏

وتشعلُ قنديلها لهلالِ محرّمْ!‏

***‏

أنتِ أيقونةُ الثكل‏

وهي تقطّرُ من فضّةِ الليلِ‏

دمعاتِ مريمْ!‏

***‏

وحساسينُ صبحٍ مغمّسةٌ بالدموعِ،‏

عصافيرُ داشرةٌ،‏

بلبلٌ في غصون الصدى يتألّمْ!‏

***‏

أنت ما يجعلُ الروحَ تبكي على عمرها،‏

والمحبُّ إذا ما قضى نحبهُ.. يتندّمْ.‏

-20-‏

الأفقُ أقمارٌ مفتّحةٌ‏

وحبرُ الليلِ منسكبٌ على حقلِ‏

القرنفلِ‏

والغروبُ يعبُّ من تبغِ الجبالِ بنشوةٍ‏

ويهزُّ فوقَ طفولةِ الريحانِ‏

أجراسَ النعاسْ.‏

***‏

نامتْ صبيّةُ حبيَ البيضاءُ‏

فاتكأتْ لتحرسَ نومها‏

من وحشةِ الحلمِ الغراسْ.‏

***‏

يا طائرَ الإنشادِ‏

لا ترسلْ غناءَ مسائكَ الشفافَ‏

فوقَ النبعِ‏

إن حبيبتي تغفو‏

ونومُ حبيبتي في المهدِ‏

درّاقٌ وآسْ!‏

-21-‏

نأينا عن الحبّ يوماً‏

فغابَ القطا، والحمامُ انتأى‏

والغمامُ على الساحلِ.‏

أأبقى حزيناً أطلّ كطائرِ صيفٍ‏

على جدولي؟‏

وتبقى السماءُ البعيدة أحلى على السفحِ‏

تبقى الأباريقُ سهرانةً في سطوح النبيذِ‏

وتبقى تحوك يداكِ رسومَ الوداعِ على المخملِ.‏

... أطرّزُ يوماً على ثوب عرسكِ‏

ما ضيّع الحبُّ من كلماتٍ‏

وألقي قميصي على الشوكِ‏

لا تحسبيني حزيناً من الحبّ‏

إني أحوكُ سوادَ الليالي‏

على مغزلي!‏

-22-‏

يا هديلُ التي مرَّ عمري على عمرها‏

كالحمامِ‏

وطرنا صغيرينِ في أولِ الحبِّ‏

حتى بلغنا الغيومَ‏

وصرنا بطاركةً عاشقينْ!‏

يا هديلُ التي ما ركضنا‏

مع الريحِ‏

إلا لنسبقَ أيامنا،‏

ونخلّفها نادمينْ!‏

يا هديلُ كبرنا!..‏

وها نحن كهلين في آخرِ العمرِ‏

نجلسُ قدّام بوابة البيتِ‏

منتظرينَ على مللٍ‏

ما تأخّرَ من كلِّ تلك السنينْ.‏

-23-‏

طولَ الليلِ تئنُ الريحُ المهجورةُ‏

في البيتِ‏

وتبكي في أرجاءِ العزلةِ‏

أجراسُ الموتِ،‏

ويحتضرُ النايْ!‏

وطوالَ الليل أدقُ على جدرانِ الصمت‏

لينهضَ من آبارِ الوحشةِ‏

جثمانُ أسايْ!‏

.. طول الليل ينوحُ غريبٌ‏

مكتهل الروحِ‏

ويجمعُ مبكاهُ إلى مبكايْ!‏

-24-‏

يا لابساً ورقَ الخريفِ،‏

وجبّة َ الوقتِ الجريحْ!‏

ستهبُّ ريحْ‏

ستهبّ ريحْ.‏

-25-‏

يا أيها الليلُ المهاجر‏

منذ آلاف السنينْ!‏

قد نامتِ الأبوابْ.‏

فاقطعْ بفأسكَ وحشتي‏

من جذعها المرّ الحزينْ!‏

بالله يا حطّابْ!‏

-26-‏

الكمانُ الصموتْ.‏

الكمانُ الذي كانَ أمَّ الأيتامِ روحي،‏

وأرضعني الدمعَ من ثديهِ المرّ‏

حتى رواني.‏

الكمانُ الذي رعرعَ الثكلُ‏

أيامه ورعاني..‏

وطيّرني كالعصافيرِ فوقَ سطوحِ البيوتْ.‏

الكمانُ الذي ذُرفتْ دمعاتُ‏

حياتي على صدرهِ‏

لا يموتْ!‏

-27-‏

سمعتُ بآخرةِ الليل أغنيتينِ‏

تدقّانِ بابي.‏

فأصغيتُ..‏

هذا صداي القديمُ يعاودُ حزني،‏

وذاكَ الغناءُ الأبحُّ من الريح‏

صوتُ غيابي.‏

-28-‏

هل أسمي الغماماتِ فوق سطوحِ الغروبِ‏

مناديلَ حبّ، وأوراقَ حزنٍ‏

تطيرها الريحُ فوق القرى‏

ورقهْ... ورقهْ.‏

***‏

هل أسمي البحيراتِ‏

حين تطيرُ الحماماتُ‏

فوقَ حقول الهديلِ غياباً‏

يلّونُ وجهَ المساءِ،‏

ويرمي على ليلنا أزرقهْ.‏

***‏

هل أسمي الصغيرةَ أمّاً لعائلةِ النحلِ‏

وهي تربّي الحساسينَ في شجرِ البّنّ‏

زقزقةً... زقزقهْ‏

-29-‏

ما انتبهتُ لحزنِ العصافيرِ‏

ديّارةَ المغربِ.‏

ما انتبهتُ..‏

تنهّدَ نايٌ بعيدٌ‏

على شجرِ الليل ما بيننا‏

والحمامةُ غنّتْ هديلاً على مذهبي!‏

يا هديلُ الصغيرةُ لا تجعليني حزيناً‏

فإني طرّزتُ حبّكِ في مخملِ الليلِ‏

حتى وجدتُ الحياةَ خيوطاً‏

من الوهمِ‏

تلعبُ بيْ!‏

وها أنذا كلما حُكْتُ ثوباً جديداً‏

بكفِّ الحريرِ‏

تلبّسني الحزنُ ديّارةَ المغربِ!