ندمي وحيد في العراء

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

تتكاثرُ الآهاتُ مثل الغيم‏

في أحزانِ مريمَ‏

والدموعُ تفيضُ كالأمطارِ‏

من مقلِ الغيومِ الباكيهْ.‏

تتكاثرُ الآهاتُ كلَّ عشيةٍ‏

في قلبها الباكي‏

وتنمو مثلما تنمو شتولُ التبغِ‏

في كتفِ الحقولِ القاحلهْ.‏

لكأنها جبلٌ من الأحزانِ‏

يندبُ في فراغِ الأرخبيلِ‏

صقوره الصرعى‏

ويهدمُ نفسهُ فوق القبور النائيهْ.‏

الريحُ تجثو قرب ركبتها‏

وتصرخُ مريماهُ!!‏

والليلُ يهرمُ في ضفائرها‏

فيشتدَّ المتاهْ.‏

لا عينُ إلاَّ كي تهلَّ الدمعَ‏

لا امرأةٌ بغيرِ سوادها‏

روحٌ على ريحٍ‏

ترجّعُ صوتها المجروحَ أوّاهٌ وآهْ!‏

ربطتْ جدائلها بغصنِ الموتِ‏

وارتحلتْ بحلّتها الحزينةِ‏

كي تزوّجَ قلبها للغيمِ‏

ناداها منادٍ:‏

ردّي عليك البابَ يا أمةَ البكاءْ!‏

ستجيئكِ الأيامُ ناحبةً‏

لتلبسَ ثوبكِ المسودَّ‏

في حزنِ الشهورِ..‏

وتطلعُ من عباءةِ حزنكِ السوداءِ‏

أجراسُ المساءْ!‏

فترعرعوا مثلَ الرياحِ على جدائلِ شعرها‏

المسوّد‏

واستسقوا الحمائمَ من يديها في الصباح،‏

وفتّحوا كبراعمِ الأزهارِ‏

بين تمائمِ روحها الجذلى!‏

إذا عقدت عناقيد العنب!‏

وتأملوا ذاكَ الضياءَ‏

يشفُّ فوق بحيرةٍ مرفوعةٍ‏

عندَ الغروبِ على السنابلِ والذهبْ!‏

هذي أياديها مشرّعةٌ على النسيانِ‏

تذروها الرياحُ‏

كأنها قشٌّ قديمٌ أو حطبْ.‏

تتكاثرُ الآهاتُ.‏

لا قلبي بلا حزنٍ.‏

لأجعلَ مَن خريفِ العمرِ صورتها على المرآةِ،‏

أو حزني انتهى..‏

لأشيرَ نحو فؤادها الملكومِ بالدمعاتِ‏

أو أبكي استفاقةَ روحها بعد الغيابْ!‏

من قبلِ مريمَ لم تكنْ هذي البسيطةُ‏

غير حزنٍ أسود العينينِ‏

يبحثُ عن ترابْ.‏

كانتْ ترى في الغيمِ حزناً مبهماً‏

فتميلُ نحو القمحِ راحتها الكفيفةُ‏

كي تفتّشَ عن دموعٍ مطفأهْ!‏

لا تسألي الريحَ الجريحةَ‏

بين أضرحةِ الكآبةِ يا امرأهْ!‏

أنا ما رأيتُ سوى فتاةٍ ترضعُ الأغصانَ‏

كالعصفورِ من ظمأ،‏

وتجرحُ بالأظافرِ نهدها المبيضَّ‏

من شوقٍ‏

وقلبي ما رأى.‏

وتصيح مُريمُ بين أحجارِ الصدى:‏

من أينَ يأتي كلَّ هذا الثكل‏

كي أبقى مسمرةً على الأجراسِ؟‏

يا للحزنِ!!‏

كلُّ الحزنِ للريحِ التي تركتْ‏

حدادي للغيومِ،‏

وخلّفتْ ندميِ وحيداً في العراءِ‏

يعاركُ الذؤبانَ بالنايِ الكفيفْ!‏

لكنَّ صوتاً صافياً كالماءِ‏

يهمسُ من شفاهِ الغيمِ في أذن المدى!‏

من قبل مريمَ كانتِ الأرضُ امرأهْ‏

بثيابها البيضاءِ ماشية‏

على دربِ (الحدا).‏

فتصيحُ أصواتُ المراثي المرجأهْ:‏

لا تشتهي بفؤادكَ الواهي طيورَ جمالها!‏

هي مريمُ روحها العذراءِ‏

كانتْ في طلوعِ الشمسِ‏

ترعى طائر الغفرانِ‏

في أطراف ساقيةٍ،‏

وتكنسُ عن دروبِ الصيفِ أوراقَ الخريفْ‏

تبكي البلابلُ فوق راحتها الصغيرةِ‏

والسنابلُ تستردُّ الحزنَ‏

من شَعْرِ الحفيفْ.‏

وهي التي رضعتْ حليبَ الثكلِ‏

من نهدِ الكآباتِ الكفيفْ!‏

وهي انشغالُ صغيرةٍ بالقمحِ‏

في كنفِ الطفولةِ..‏

كلُّ ما يمضي إلى النسيانِ بعد العشقِ‏

كي يغدو خيالاً من شفيفْ.‏

لم ينتبهْ قمرُ الغيابِ البكرُ.‏

للشمسِ التي راحتْ تلوّحُ وجها..‏

لم تنتبه تلك النجومُ‏

إلى نداءِ عيونها الشفّافِ..‏

تكبرُ مثلَ وَردِِ الليلِ في الأحواضِ‏

غصّتها..‏

ويهديها الحمامُ دموعَ حنطتهِ‏

الشجيّةِ‏

كلما كبرتْ مع الأيام أحزانُ الهديلْ!‏

ما زلتُ أسمعها تباكي النخلَ‏

ساعاتِ السكينةِ‏

بينما تبكي على أعتابها‏

في الليل أقمارُ الرحيلْ!‏

ما زالتُ أسمعُ نايها المعتلَّ في الأيامِ‏

يعلو فوق أشجارِ الحياةِ‏

مضرّجاً بنحيبه..‏

وكطائرِ الأشواكِ يفردُ جانحيهِ‏

على الخليقةِ‏

ثم يسقطُ في عشيّاتِ الجليلْ‏