فردوس الجسد الجميل

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

كفٌّ بمفردها تحدّقُ في غروبِ الشمسِ‏

خافضةً على الليمونِ جنحَ عيونها المكسورَ،‏

والتفاحُ يسقطُ ذابلاً عند الأصيلْ!‏

* * *‏

عبرتْ سماءَ الحزنِ‏

سبعُ (حمائمٍ بيضاءَ)‏

فانحنتِ الفرسْ‏

لتشمَّ حزنَ الأرضِ فانفجرَ الصهيلْ.‏

* * *‏

كانتْ مرايا الوقت فاختةً‏

كأقمارِ الكآبةِ‏

والأذانُ العذبُ‏

يغرقُ في ضبابِ الأرخبيلْ!‏

* * *‏

وعلى هضابِ الفجرِ تسرحُ شهوةٌ‏

كالدمعِ جارحة العويل.‏

* * *‏

فتفقّدتْ أعضاءها الأرضُ الجريحةُ‏

في صلاةِ الصبحِ..‏

ألقتْ نظرةً خرساءَ‏

نحو أمومةِ الزيتونِ..‏

غاصتْ في حدادٍ غامضٍ‏

ثم استفاقتْ مثلَ أرملةٍ‏

لترفعَ قبضةً من مستحيلْ.‏

* * *‏

لا طفلَ كي يصغي إلى أثدائها الملأى‏

بطعم اللوزِ‏

لا رجلاً ليحصدَ شهوةَ الأقماحِ‏

عن بستانها الذاوي‏

ولا طيراً ليصغي لارتعاشات الهديلْ.‏

* * *‏

كُلٌّ يردّدُ اسمه الموروث‏

منتحراً على أجراسها الجوعى‏

شهيداً أو قتيلْ.‏

* * *‏

هيَ ذي العروسةُ في زفافِ الصبحِ‏

تلبسُ طرحةً بيضاءَ‏

فيما ترقصُ الأطيارُ حول ذراعها‏

بتمائمِ التغريدِ‏

والأولادُ جاؤوا حاملينَ حمامها‏

ليطيّروهُ، ويرسموا‏

بالحبر دائرةَ العروسْ.‏

* * *‏

هي ذي العروسُ‏

يزفّها الأطفالُ للقمرِ‏

الأشفِّ على كنائسها الصغيرةِ‏

كالكؤوسْ‏

غنّوا لها في الصبح:‏

آ و يها زرعنا شتلةَ الرمانِ،‏

آ و يها فزهّرَ قلبُها الحزنان،‏

آ و يها وراحَ الدمعُ يسقيها‏

وتذرفهُ الشموسْ.‏

* * *‏

هي ذي العروسُ ترتّلُ الأشعارَ‏

والزمارُ يزرعُ زغرداتِ الفجرِ‏

في الأريافِ‏

أيّ حمامةٍ‏

ستميلُ نحو الدمع في هذا الصباح،‏

وأيّ أغنيةٍ‏

ستهزجُ في سماء العرسِ آ و يها‏

ويا أسفيْ عليكْ؟!‏

* * *‏

رفعتْ غراسُ اللوزِ أذرعها المريضةُ‏

كي تُسَاقطَ زهرها الموؤودَ‏

في كفِّ الندامةِ‏

ثم صاحتْ يا محمدْ!‏

* * *‏

وتمايلتْ صفصافةٌ في الليلِ‏

باكيةً على أطلالِ معبْد!‏

* * *‏

هي ذي العروسُ‏

تشرّعُ للخريفِ (جدائلاً) سوداءَ‏

كي ترثَ الكهولةَ من سواد الغيمِ‏

راميةً على الأحجارِ‏

شكلَ حدادها المشؤومَ،‏

صائحةً على طول المدى:‏

أنا زهرةُ الأيتامِ‏

ترفعها على كفِّ الرمالِ‏

رياحُ (أيلولٍ) مشرّدْ.‏

* * *‏

نَمْ يا محمدْ!‏

* * *‏

وأنا التي شهدتْ ولادة حزنها‏

من مدمعِ الزيتونِ‏

واحتطبتْ ملامحها بفأسِ الحزنِ‏

من شجرِ المناحاتِ الجريحْ!‏

* * *‏

وأنا التي فتحتْ ذراعيها‏

لتحتضنَ المراثي‏

مثلما فعلَ المسيحْ..‏

كي يصلبوني.‏

* * *‏

وأنا التي نظرَ السوادُ إلى دمي،‏

فأصابَهُ نُدميْ..‏

وأرضعتُ المراثي من شجوني!‏

* * *‏

أنا أوّلُ امرأةٍ رآها النيلُ‏

تجمعُ من حقولِ القطنِ‏

أزهاراً لحزنِ الروحِ،‏

كي تبكي على قمرِ السجونِ!‏

* * *‏

من أينَ يطلعُ ذلكَ القمر الحزين.‏

لكي يراهُ الآخرونَ‏

ولا يروني؟‏

* * *‏

أنا دمعةُ الزيتونِ تقطرها‏

بمعموديّةِ الأحزانِ‏

ريحٌ مرّةٌ‏

والليلُ يجهشُ (أسوداً)‏

والحزنُ أبعدْ!‏

نَمْ يا محمدْ!‏

لأصيرَ بَعدكَ زهرةً للمريماتِ السودِ،‏

أرملةَ المباكي الأمّ‏

في هذي البلادْ!،‏

وأدقَّ أجراس الحدادِ‏

على غيابكَ للأبدْ.‏

يا زهرةَ التفاحِ في وَحَمِ الجسدْ‍‏

* * *‏

لكنني ماذا أقولُ لشتلةِ الريحانِ‏

إن جاءتْ تفتّشُ عن يديكَ؟‏

وكيفَ أقنعها بأنكَ نائمٌ‏

فوقَ السوادْ؟‏

* * *‏

ماذا أقول لُبحّةِ الناي المهجّرِ‏

وهو يغرقُ في المراثي،‏

للكماناتِ التي شنقتْ أغانيها‏

على وترِ الحدادْ؟‏

* * *‏

ماذا أقولُ لشجرة الزيتونِ‏

إن ذرفتْ على قبر البلادْ:‏

زيتونها المخضرّ كالدمعاتِ‏

وانتظرتْ لتقطعَ جذعها من أصلهِ‏

في الصمتِ حشرجةُ الجرادْ؟‏

* * *‏

صاحتْ بناتُ الليلِ‏

في شجرِ المواويلِ الحزينةِ:‏

لَمْ يمتْ!‏

رفعتْ غيومٌ حزنها المبتلَّ‏

في وجهِ الشتاءِ‏

ولم تمتْ‏

وتطلّعَ الجسدُ الجميلُ‏

إلى حقولِ البرتقالِ..‏

رأى السنونو دامعَ العينينِ‏

يسبحُ في بحيراتِ الغروبِ‏

كشمعةٍ سوداءَ،‏

والأشجارَ ترفعُ أذرعاً خضراءَ‏

للصبح الذي يأتي على جنح الزغاريدِ‏

الصغيرةِ كالغناءْ.‏

* * *‏

كلُّ الزغاريدِ التي كانت‏

تزفُّ الشَّعرَ للحناءِ‏

والأشعارُ وهي تزفُّ قبّرةً لطيرِ السهلِ‏

صارتْ للرثاءْ!‏

نَمْ يا محمدْ!‏

فهناكَ خلفَ الليلِ‏

ذئبٌ طاعنٌ في القتلِ‏

بين جرودنا‏

يعوي على الأيتامِ‏

في أطلالِ معبدْ!‏

نَمْ يا محمدْ!‏

وهناكَ خلفَ ضفائرِ الزيتونِ‏

يخنقُ ثعلبُ الظلماتِ ساقيةً‏

ترقرقُها قلوبُ الحزنِ بِالدمعاتِ‏

والألمِ المجرّدْ!‏

وهناكَ خلفَ النهر‏

يكمنُ للغيومِ البيضِ شيطانٌ مؤبّدْ.‏

نَمْ في ضميرِ الناي‏

يا مولاي‏

تحرسكَ العيونُ السودُ،‏

تحرسُ موتكَ العالي أصابعُ وحشتيْ حزناً‏

ويمسحُ شعركَ الذاوي أسايْ!!‏

نَمْ تاركاً لخريفنا الأبديّ‏

نوحَ ربابةٍ، وحداد نايْ!‏

نَمْ يا محمدْ!‏