لاميّة لليأس

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

لكأنَّ ليْ لاميّةً لليأسِ‏

في هذا الحدادْ!‏

* * *‏

لكأنَّ لي منحونةً للحزنِ تشبهني،‏

وتشبهُ عزلتي في الليلِ‏

أجثمُ قربها كالبومِ منتظراً‏

عذاباتِ السوادْ!‏

* * *‏

منحوتةٌ للحزنِ‏

تبكيني فأبكيها‏

وترثيني فأرثيها..‏

نعانقُ بعضنا بعضاً،‏

لتحتملَ الكهولةُ يأسنا العالي‏

ونغرقُ في الكآبةِ والرمادْ!‏

* * *‏

يا ليلُ فانحتْ لي بقلبكَ إخوةً‏

كي يؤنسوني!،‏

هيكلاً للذئبِ‏

كي يبكي على تيني وزيتوني..‏

أباً.. لأقولَ يا أبتي قليلُ!‏

الريحُ خلف الريحِ...‏

والناياتُ كالناياتِ..‏

لكن ليسَ يكفينا هديلُ.‏

نحنُ المواويلُ التي مرّتْ ببالِ الليلِ‏

من بعدِ الدموعِ‏

وراحَ يُصديها النخيلُ.‏

لكأننا والحزنُ في أرواحنا نَحْتٌ عراقيٌّ‏

لتمثالِ الغريبِ المرِّ‏

ينحتنا الرحيلُ!‏

وكأنني والروحُ مفردةٌ‏

على قبرِ الهديل‏

جبلّةُ الآلامِ في هذا العذابْ!‏

* * *‏

يا ليلُ فانحتْ لي بقلبكَ إخوةً‏

كي يؤنسوني في الغيابْ!‏

واحفرْ على الصلصالِ‏

شكلَ شقائيَ المشؤومَ‏

حزني غائصٌ في الطينِ..‏

في جسدِ السآمةِ واليبابْ!‏

* * *‏

فأنا رهابُ اليأسِ‏

يشنقني سوادي‏

فوقَ أضرحةِ الخرابْ!‏

وأنا الأخُ الثاني لأرملةِ الغرابْ.‏

* * *‏

أبكي على نفسي فلا تبكي بحمّاها عليّْ!‏

وأدقُّ أبوابَ القبورِ‏

فلا يجيبُ ندائيَ المبحوحَ‏

من قبرٍ نبيّْ‏

* * *‏

وأقومُ أرثيهمْ‏

وأشعلُ طائرَ الفينيقِ خلفَ غيابهمْ‏

فلعلّهمْ يأتونْ.‏

وأصيحُ فوق ضريحهمْ كي (يسمعونْ).‏

لكنما أحزانهم‏

هيَ من تغلُّ يديْإليّْ.‏

* * *‏

يا أختي المنحوتةَ الثكلى‏

كأنَّ الروحَ تضربُ في فلاةِ الموتِ‏

هائمةً على أحزانها‏

والحزنُ يطعنُ في كهولةِ نفسهِ‏

الثكلى.. ليشنقهُ الندمْ.‏

* * *‏

وكأنَّ أحزانَ الخليقةِ كلّها شاختْ‏

وأدركها الهرمْ‏

* * *‏

فجمعتُ أصداءَ المواويلِ العتيقةِ‏

من مراثيها،‏

وماءً من مباكيها‏

وحين تقمّصتْ روحي كهولةَ شؤمها‏

نصّبتُ بالفخّارِ مريمها على عرشِ السوادْ!‏

* * *‏

ووقفتُ قربَ نحيبها‏

فزّاعةً لليأسِ في هذا الحدادْ!‏

* * *‏

وقعدتُ أبكي حذوَ نفسي‏

صائحاً أبتي، أبي:‏

خذني معكْ!‏

لأشيلَ موتكَ راضياً‏

أن أتبعكْ!‏

لو أنتَ تعرفُ أن طفلكَ‏

في زمانِ اليأس‏

حاملُ مقتلكْ!‏

أنتَ الذي حينَ اقترفتُ‏

خطيئةَ الأشعارِ من بؤسٍ هلكْ!‏

لو كنتَ تعرفُ يا أبي‏

-إن نامَ قلبي قربَ فاختةٍ‏

ليبكي ما مضى-‏

ما أجملكْ!‏

* * *‏

حفرٌ على الفخّارِ هذا اليأسُ‏

والأحزانُ نَحْتٌ بالأظافرِ‏

في جدارِ الليلِ‏

من يبكي لأقعدَ قربهُ؟‏

وأقولَ يا أبتي غبارٌ في غبارْ:‏

ندمي غبارٌ..‏

شؤمُ غرباني غبارٌ..‏

نأمةُ الحبِّ الصغيرةُ في فؤادِ صبيّةٍ..‏

قمرُ العشيّةِ فوقَ صحنِ النبعِ..‏

رائحةُ الحليبِ على شفاهِ الطفلِ..‏

أوّلُ قبلةٍ في الحبِّ‏

آخرُ نظرةٍ في العشقِ‏

كلّهمْ غبارْ!‏

* * *‏

وأنا وحيدكَ يا أبي،‏

وقريبُ روحكَ،‏

والذي يبكيكَ عندَ الجامعِ الأمويِّ‏

آخرةَ النهارْ!‏

* * *‏

وأنا الذي يندسُّ كالظلماءِ‏

في جوفِ الجرارِ‏

إذا بكى في العالمينْ!‏

* * *‏

قلبي طواحٌ أرمنيٌّ خالصُ الأحزانِ‏

ينبضُ بالنواحِ المرّ في الآحادِ‏

فانحتْ هيكلاً للذئب يا أبتي‏

ليحرسَ هيكلي المجبولَ من خمرٍ وطينْ!‏

* * *‏

وارفعْ غناءكَ من ضياعي!..‏

كيفَ يتّسعُ الفؤادُ لكلّ هذا الحزنِ؟..‏

وا أسفاهُ..‏

لم يتبقّ غيرُ روائحِ الأيامِ‏

والناي الذي يرثي زماناً ضاعَ مغربُهُ..‏

ويبكيهِ بكاءَ الفاقدينْ.‏

وسمعتُ أجراسَ الفراقِ‏

وراءَ ظهركَ يا أبي‏

تنعى الأحبّةَ في ظلامِ الليلِ‏

: لم يأتوا، ولن يأتوا.‏

* * *‏

شاختْ حجارةُ قبركَ السوداءُ يا أبتي‏

وإني كالليالي السودِ‏

أغزلُ وقتيَ البالي،‏

وأسهرُ قربَ قبركَ حارساً‏

ما يحرسُ الصمتُ.‏

* * *‏

وأنامُ ملءَ الليلِ‏

تحتَ سكينةِ الأسلافِ قدّيسا‏

ويغفو قربيَ الموتُ!‏

* * *‏

لكأنني صَنَمٌ لشخصِ الموتِ‏

نصّبني الفراغُ على طريقِ الليلِ‏

انظرُ في جمالِ هلاله المعبودِ‏

مذهولاً،‏

وأصرخُ من أنا؟‏

من يحرسُ الأشباحَ من شؤمي هنا؟‏

أم لستُ حيّاً.. لستُ ميتاً‏

لستُ إلا وحشة يبكي على أبوابها‏

الوقتُ!‏

* * *‏

يا توأمي الطينيّ، يا بنَ خطيئتي‏

يا أختي المنحوتة الصمّاء‏

من يبكي علينا‏

موتنا أم وقتنا الميتُ؟‏

* * *‏

أم أن هذا العمرَ أجراسٌ على الأجراسِ..‏

أبوابٌ على الأبوابِ‏

في مدنِ السرابْ؟‏

* * *‏

أم أنني فزّاعةٌ محشوّةٌ بالقشّ‏

في حقلِ الخرابْ؟‏

* * *‏

أبتاهُ.. يا أبتي‏

توخّى وحشتي!‏

فأنا غرابُ اليأسِ مشنوقٌ‏

على حبل الغياب!