أشهد للريح بالحزن

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

بحزني المجرّدِ والألمِ المرِّ‏

لا غير‏

أفردُ كلتا ذراعيّ كي أتلقى بكاءَ النواعيرِ‏

أو أتهاوى كأرملةٍ فوق قبر الضياعْ.‏

وأصرخُ أين الجهاتُ التي علّمتني‏

هبوبَ الرياحِ،‏

وأين الغيومُ التي كنت صادفتها‏

عند صفصافةِ البئرِ تبكي،‏

وكرمةُ عمري التي أرضعتني‏

عناقيدُها الخمرَ‏

قبل أوان الرضاعْ؟‏

وأصرخُ في مغربِ الشمسِ‏

كيف سأدفع شيخوخةَ الحزن عني؟‏

وكيف سأردعُ هذا المشيبَ الحزينَ؟‏

كأني ما كنت غير غرابٍ‏

يضاجعُ أنثى الرياحِ‏

ويسقطُ في لجّةِ اليأسِ..‏

ريحٌ معذّبة لا تكرّرُ غيرَ رثائي!‏

وأصرخُ في مغربِ الشمس:‏

ردّوا إليّ المواويلَ،‏

ردوا إلى الكهلِ (مريلة الثالث الابتدائي)!‏

أنا عازفُ الناي‏

يدفعني الناي أجري وراء انتظاري،‏

فتركضُ خلفي المواويلُ ناحبةَ الروحِ‏

والريحُ تجري ورائي..‏

ويجري ورائي بكائي!‏

مللتُ انتظارَ المغيبِ‏

وملّ الثواءُ ثوائي.‏

وزوّجني الحزنُ عاشقةً‏

تحملُ الماءَ في حزنها وتنامْ.‏

أما آنَ بعدُ الأوانُ‏

لأقرعَ بوابةَ الروحِ‏

محتفلاً بالمراثي‏

التي شيّعت طفلةَ القرويّ‏

لتغفو إلى صفرةِ البيلسانْ؟‏

كأنّ على العمرِ أن يتوقّفَ‏

كي يتأمّلَ ما ضاعَ..‏

تلك الفتاةُ التي رعرعتها الرياحين،‏

وامتصّها حدقُ الليلِ..‏

كنا نعمّرُ في الليل أصنامنا‏

لننامَ فلمْ ننتبهْ‏

للنجومِ التي تتلألأُ كالدمعِ‏

لم ننتبهْ للحمامةِ وهي تحلّقُ فوق سماءِ الأذانْ!‏

أما آن بعد الأوانْ؟‏

لأرمي على زهرةٍ جسدي من بعيدٍ وأغفو‏

على هذه الأرضِ؟‏

لكنني آخذٌ في الغيابِ..‏

الحمامُ الشهيّ على هوّةِ الروحِ‏

يسقطُ منتحراً‏

والأغاريدُ مشنوقةٌ فوق بوّابةِ اليأسِ‏

هل أتهاوى على قبرِ حبّي الوحيد‏

لأسمعَ رجعَ غنائي القديمِ‏

يسوحُ على نغمةٍ في الكمانْ؟‏

أما آن بعد الآوانْ؟‏

لتلتفتَ الروحُ نحو الفتاة التي‏

ضيّعَ الليلُ أجراسها ثم أهدى إليها‏

خلاخيلَ كي تتزيّنَ للموتِ‏

قبل ثلاثينَ عاماً قضتْ؟‏

عاشقانِ وحيدانِ..‏

تمشي فيمشي‏

ويبكي فتبكي‏

وينهمرُ القمحُ فوق الأرزِّ غزيراً‏

ويحتضرُ الأقحوانْ!‏

وأشهدُ للريح بالحزنِ آخرةَ الليلِ‏

فالآن أبكي وحيداً على ما مضى!‏

هذه الريحُ ثاكلةٌ،‏

والغيومُ محدّبةُ الحزنِ فوق الهضابِ،‏

وقلبي صغيرٌ على الناي!‏

يا طائرَ الليلِ خبّرْ شبابيكهم‏

بالذي كانَ من عمرنا وانقضى!‏

.. وحيداً سأبكي‏

كذئبٍ يعاركُ تلميذةَ القمح‏

حزني قديمٌ كأغنيةٍ..‏

مرّ أيلولُ بيني وبين الصبايا‏

فمِلنا على شتلةِ القطنِ‏

قلنا لها: ضمّدينا!‏

امسحي دمعنا!‏

كلما طعنَ الغيمُ أيامنا بالرحيلْ!‏

.. وحيداً سأبكي‏

بقربِ الصخورِ التي سالَ دمعي عليها‏

فأيقظها الملحُ‏

يسألني الموجُ عنها.. فينتحرُ المدُّ‏

يسألها المدّ عني.. فينتحرُ الموجُ‏

بيني وبين الصبايا‏

وينتحرُ العاشقانْ.‏

حزينٌ طريقُ العشيّةِ‏

في آخرِ الحزنِ تأتي الكآبةُ‏

تأتي الكماناتُ مبحوحةَ الصوتِ‏

(لا أحدٌ) سوف يأتي‏

(ولا أحد) سوف يذهبُ‏

كلُّ الأحبةِ غابوا‏

وضاعتْ ملامحهم في الترابْ!‏

أنا الآن أكبرُ من هذه الأرضِ عمراً وأوهنُ..‏

شاختْ بقرب انتظاري الصخورُ القديمةُ‏

شاخَ أبو الهولِ‏

وهو يفسّرُ لغزَ الحياة‏

وما زلتُ أحفرُ بئرَ الوجودِ ولا أجدُ الماءَ‏

.. أكبرُ من هذهِ الأرضِ‏

أحرسُ أبوابها كالغرابْ.‏

وأقرعُ طبلَ الزمانِ المجوّفِ‏

في صالةٍ فارغهْ‏

ولا من مجيبٍ ولا من مجابْ.