ماء الرغبة المفطوم

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

لم ننتظرْ تلويحةَ الشفقِ الأخيرةَ‏

كي نرى قوسَ الحمامِ‏

يطيرُ حولَ عروسةِ الشمسِ‏

التي زُفّتْ إلى كوخِ الغروبِ‏

بأجملِ الأصواتِ..‏

لم نسمعْ زغاريدَ العصافيرِ‏

التي هّبتْ من الرمانِ‏

حاملةً على الشهواتِ سيفَ زقائها المسنونَ‏

أو قمرَ الشغفْ.‏

***‏

ينسلّ خلفِ غمامةٍ بيضاءَ كالأفعى‏

وفي نهر العشيّاتِ الوئيدِ‏

يصيرُ تمثالاً من البلورِ مزهوّاً بنطفتهِ..‏

ويملأُ ليلنا الأعمى‏

بأزهارِ الصدفْ.‏

***‏

كانَ الهواءُ يمرُّ كالأجراسِ‏

عبر سنابل القمحِ الطويلةِ‏

بينما الفتيات في سمرٍ‏

تنقّلُ شعرها المسودَّ‏

بين أناملِ الأمشاطِ‏

والقداحُ يملأُ أعينَ العشاقِ‏

بالعطشِ المندّى والنطفْ.‏

***‏

وعلى ضفافِ النهرِ كانت وحدها‏

امرأةُ الصباحِ‏

تفضُّ أحزانَ الغسيلِ من الدموعِ،‏

وتنشرُ القمصانَ مثلَ (حمائم) بيضاءَ‏

في حبل الغروبِ..‏

وحينَ تسمعُ روحها صوتَ الخريرِ‏

تذوبُ ركبتها الشهيّةُ‏

في زلالِ الماءِ كالصابونِ..‏

والأمواجُ تجري تحتَ ساقيها‏

كأسماكِ الخزفْ.‏

***‏

لم أنتظرْ تلويحةَ الشفقِ الأخيرةَ‏

كنتُ وحدي‏

أستعيدُ مع الحفيفِ‏

تراجعَ الموجِ الشجيّ على أديمِ الروحِ،‏

والبوحَ الجريحَ لغفوةِ الأشجارِ‏

مشدوداً كصوتِ الناي في الوادي‏

لأسرابِ الحمامْ.‏

***‏

متقلّداً سيفي على فرسِ الغيابِ‏

الحرّ‏

أقفو وحشةَ الأوعارِ في طرقِ الكآبةِ‏

أو أسابقُ عقربَ الساعاتِ‏

بالجريانِ فوقَ الرملِ حتى‏

درّةِ الموتِ الحرامْ.‏

***‏

أبداً على الإطلاقِ‏

لم أشعرْ بأجمل من عناق الريحِ‏

في هذا المدى المخضرّ‏

يضرمني صهيلُ المهرِ في البريّة الزهراءِ‏

بالشهواتِ‏

والأنهارُ تحملني على جرسِ الخريرِ‏

العذبِ..‏

فيما صوتها العالي‏

يرقّصني على نغمِ الهزامْ.‏

***‏

لكأنني فصحٌ ترجّعه على الأعيادِ‏

غاباتٌ من الأجراسِ‏

مسكرةُ الرنين‏

وكلما هبّ النسيمُ‏

سمعتُ صوتاً رائعَ الأصداءِ‏

يذروني كموّالٍ على برِّ الشآمْ.‏

***‏

ثملٌ كأني طائرُ الصبحِ‏

المحلّقُ في جبالِ الريحِ‏

أهبطُ ثم أعلو مثلَ أغنيةٍ‏

تموّجها على سفحِ الأناشيدِ‏

الجداولُ‏

والمواسمُ‏

والغمامْ.‏

***‏

أنا طفلُ هذا السهلِ‏

لم تكبْر سوى الأشجارِ من حولي‏

ولم يهرمْ سوى القمحِ‏

الذي راكضتهُ يوماً بأعراسي‏

لأنجو من نباحِ الإثم في روحي..‏

ولم يذهبْ سوى النهرِ الذي‏

يجري كطفلٍ خائفٍ‏

عكسَ اتجاه الموتِ‏

من جيبِ الجبالِ إلى المصبّْ.‏

***‏

وأنا الحزينُ على ضفاف العمرِ‏

ما شاهدتُ امرأةً‏

ولكن صوتَ أغنيةٍ‏

رعتْ حزني على مجرى الغديرِ..‏

سمعتهُ يعلو كأسرابِ الإوزِّ‏

على الأديمِ‏

فطّيرتْ روحي (عصافيراً) من الأشواقِ‏

نحو فضائها الشفافِ..‏

ما شاهداتُ امرأةً‏

ولكن طفلةً جلستْ لتملأَ بالخريرِ‏

الحلو جرّتها الذهب.‏

***‏

شاهدتها ذاكَ الصباحَ الطلقَ‏

أجملَ من حمامةِ ليلكٍ بيضاءَ..‏

تسقيها الطبيعةُ من لقاحِ اللوزِ‏

طلاّ طاهراً كالدمعِ...‏

فالتفّتْ على عنقي (زغاريدٌ)‏

مصفّاةٌ من الأعراسِ..‏

قادتني كطفلِ الشهوةِ المكفوفِ‏

في ديّارةِ الحزنِ النسائيّ المقدّسِ‏

حيث يعزفُ عاشقٌ بالناي‏

لحناً خالصاً للموتِ‏

والأشجارُ تزهرُ بالدموعِ وبالعنبْ.‏

***‏

لامستها وأنا أدورُ كهدهدٍ‏

من حولها‏

فرأيتُ عنقوداً من النحلِ الغزيرِ‏

يعبُّ من زهرِ الأنوثةِ‏

بينما طيرا حمامٍ أبيضانِ‏

يعمّدانِ هديلَ أعضائي‏

بماءِ الرغبةِ المفطوم‏

في مجرى العصبْ.‏

***‏

وعلا حفيفُ القمحِ حول أكفّنا السمراءِ‏

راح الخوخُ يسقطُ في سلالِ الريح‏

من تلقاءِ حمرتهِ‏

ويركضُ ثعلبُ العنبِ المذهّبُ‏

كالموشّحِ في سهوبِ الناي‏

محمولاً على جملِ الطربْ‏

***‏

فسمعتُ صوتَ النهرِ في الإبريقِ‏

أعذبَ من خريرِ الماءِ في المجرى،‏

وأصواتَ الثرياتِ الصغيرةِ‏

في ليالي العشقِ‏

والقمرَ الأحبّْ.‏

***‏

لكنَّ أجراسَ الخريرِ‏

استسلمتْ للنومِ‏

تحت تنهّدِ الأشجار‏

فاستلقتْ كجيتارٍ جريحٍ‏

فوقَ مهدِ الموجِ..‏

تحملها كؤوس الوقتِ كالساعاتِ،‏

والأكوازُ تتبعها بأحزان الشموعِ‏

حزينةً!‏

والنهرُ يجري صامتاً‏

خلفَ النعشْ.‏

***‏

وحططنَ سبعُ (حمائمٍ) بيضاءَ‏

في حبلِ الغروبِ‏

ينحنَ فوق النهرِ‏

والأوراق تسقطُّ من غصون اللوزِ‏

كالقبلاتِ ذابلةَ الشفاهِ..‏

سوي قناديل النبيذِ الحمرِ‏

لم تيئَسْ من التحديقِ‏

في وجهِ الغبشْ.‏

***‏

ذاكَ الزمانُ الآن لن تسمعْ صداه..‏

إذا أصختَ السمعَ في هذا المدى‏

إلا كصوتِ الحسرةِ المجروحِ،‏

لن تبصرْ من النهرِ القديمِ‏

سوى هلالٍ ضائعٍ‏

يعلو على المجرى‏

كتمثالِ العطشْ.‏