لم تكن تدري سر تلك النظرة الحائرة التي كان يرسلها إليها "أبوها". ولكن كانت تدرك أنه كان يتمنى يوم ولدت أن يكون المولود ذكراً. لهذا كانت أنوثتها تبعث ضيقا شديدا لدى الرجل الذي طالما حلم بوريث يرثه على عرش مصر. ولعلها - وهي بعد في معية الصبا - كانت تحاول أن تخفف عن أبيها، فلا تظهر أمامه في ثياب كتلك التي يرتديها أترابها من بنات القصر. كانت تجتهد ألا يبدو في تصرفاتها وحركاتها وكلماتها ما يشعره أنها مجرد طفلة. فكانت تنطلق في ردهات القصر تأمر وتنهي، حتى برزت في كثير من الأحيان بالغة القسوة على أترابها من أبناء الأمراء والنبلاء، متمردة على أنوثتها وعلى ما يظهرها أمام أبيهـا على غير ما كـان يتمنى أن تكون. ومع ذلك، فقد كان جمالها وفتنتها ورقـة ملامحهـا تقف حائلا دون تأكيد تلك الصورة التي تريد أن تكون عليها. ولم تكـن وحدها صاحبة كل تلك الفتنة، بل كـانت أمهـا الملكـة "أحموس" زوجـة الملك المحـارب العظيم تحتمس الأول قـد سبقتها إليها. وحين انتقلت الأم إلى السماء، لم يعد هناك في القصر من تضفي عليه تلك الصورة الجميلة الفاتنة غير ابنتها. إلا أن اختفاء الملكة الجميلة لم يكن وحده هو سبب حيرة الملك وانقباضه، فقد كـانت شرعية جلوسه على العرش مرتبطة بحياة زوجته ذات الدم الملكي والتي ارتقى العرش عن طريق الزواج بها. فهو نفسه لم يكن من دم ملكي إذ لم تكن أمـه زوجة شرعية من بنـات الملوك، كما أنه لم ينجب من زوجته الشرعية وارثا للعرش من الذكـور، بينما كـانـت له ابنة واحـدة من زوجته أحموس.. هي هذه الفتاة "حتشبسوت" وهي وحدها التي يحق لها أن تخلفه بحكم القانون الكهنوتي المقدس. ولا شك أن كهنـة آمون أصحاب السلطان الكبير على الحاكم كانوا يعلمون ما يفعلون حينما أشاروا على الملك بوجوب التنازل عن الحكم لابنتـه.. وإلا فأي حـاكم يكـون أطوع بين أيديهم من طفلـة لم تتجاوز الخامسة عشرة من العمر لا حول لها إلا بهم ولا رأي إلا من محض تفكيرهم؟! وكان لا بد من البدء بشعائر الاحتفال المقدس الذي يتم به تحويل القوة الروحية إلى حتشبسوت الصغيرة. وارتفع صوت الملك وهو يهز التاج الذهبي الذي يعلو رأسه مدويا في أرجاء القاعة الكبيرة التي حبست فيها الأنفاس: "هذه الفتاة الحية، كفوميت آمون حتشبسوت. إنني أرفعها إلى سدتى، فهي ستأخذ مكانها فوق عرشي وتتـولى الحكـم عليكم بغير منازع. فاعلموا أن من أطاعها نجا، ومن عصاها كتب على نفسه الهلاك". ولم يكـد الملك ينتهي من كلمتـه حتى أفسح مكانا لابنتـه، فجلست بجانبـه على العرش، وأخذ الاثنان يتلقيان الولاء معا من رجال البلاط. كان أول المتقدمين هانوسيب كبير كهنة آمون. وتوالى من بعده تقدم الكهنة.. ومـع رجال البلاط تقدم فتى حسن الطلعة واضح القسمات هو الأمير سينموت مدير بيت الإلـه آمون وعميد الطبقـة الأرستقراطية وأبرع مهندس في تصميم المعابد المصرية. واستشعر الملك بعض القلق وهو يلحظ نظرات غريبة تتبادلها الفتاة والمهندس الشـاب. وأحس الملك أن العاطفة تلعب دورها بين الاثنين. إلا أنه كان يدرك أنه إذا كان الأمر قد تحول إلى شيء كالحب فسيكون في ذلك خطورة لن تكون سليمة العواقب. فالحقيقة أن حتشبسوت وقـد أصبحت ملكـة، لم تعد تملك حرية التصرف في أمر نفسها. فالقانون يحتم أن تتزوج من رجل تسري في عروقه دماؤها الملكية. وليس هناك شخص تنطبق عليه تلك الصفة إلا أخوها الطفل غير الشرعي "تحتمس الثاني" الذي جاء ثمرة لاتصال الفرعون بمونتفريت إحدى محظياته. زواج لا مفر منه لم يكن لدى حتشبسوت أي رغبـة في الزواج من أخيها الذي يكبرها بعامين. فهي لم تجد فيه الصفات التي تتطلع إليها في رفيق حياتها. غير أنها كانـت سيئة الحظ. فالواقع أن تحتمس "الثاني" كـان الرجل الوحيد الذي يبتغيه أقوى حزب في البلاد.. وهو حزب دعاة الحرب. فقد سكر هؤلاء بنشوة الانتصارات الكبيرة التي حققها والدها، فباتوا يرون أن مصلحـة البلاد تقتضي مواصلة الحروب، فتعالت صيحاتهم مطالبين بملك ذكر يستطيع أن يقود الجيوش ويتابع الغزو. وكـان لا بد آخر الأمر أن توافق على الزواج من أخيها. ولكنها وقد علمت أنه يبغض سينموت خشيت أن يطوح به إلى مكان بعيد بعد أن يشاركها في الحكم. لذلك رأت أن تعهد إلى الأمير المهندس القيام بعمل يتأتى به بقاؤه قريبا منها ويستغرق إتمامه وقتا طويلا. ولكن.. ماذا يمكن أن يكون مثل هذا العمل؟ ربما كان إنشاء معبدكبير، فهذا ما يستطيعه ذلك المهندس العبقري، وإنما يجب أن يكون معبدا يفوق فخامته وروعته كل ما رآه الناس. ولكـن حتـى يحين وقـت الشروع في ذلـك رأت حتشبسوت أن تقوم بضربة قوية يدرك منها شعبها أنها قد صممت على أن تفرض عليه حكما مطلقا كـما يفعل الرجال. فحينما اكتمل عقد وفود الشعوب التي أخضعها والدها من قبل وجـاءت لتقديم الهدايا وتجديد الولاء للملكة.. وأمام كل الأمراء والنبلاء والكهنة.. رأى الجميع أمامهم فرعونا حقيقيا اكتمل جلاله بوجود لحية صغيره فوق ذقنه. كان هذا هو في الحقيقة ما خططت له حتشبسوت. فبدلا من أن يرى الجميع ملكـة ترفل في ثوب نسـائي جميل وتزهـو بشعرهـا المرسل على طريقـة ملكـات مصر، رأوها ترتدي قميصـا فضفاضا من الكتان الخشن مما يستعمله الرجال، ومن فوقـه صديرية، وبدا السوط في يد والقضيب المعقوف رمز مفتاح الحياة في الأخرى. كـما رأوا فوق رأسها التاج المزدوج الثقيل، وقد بدا وجهها جامدا عبوسا تشع منه عينان ثابتتا النظرات، وتتدلى منه لحية صناعية صيغت من الذهب على غرار لحية الإلهة أوزوريس.. ! حيال هذا المشهد الذي دل على أن حتشبسوت لا تقل عزما وحزما عن الرجال، لم يكن هناك من يجرؤ على الاعتراض بشيء. وكان كل ما طلبوه أن يتم زواج الملكة من تحتمس "الثاني" في أقـرب وقت مستطاع ليكون بجانبها على العرش. الحاكم الحقيقي كـما تنبأت حتشبسوت، كـان أول ما فكر فيه الملك الجديد أن يـرسل سينموت إلى بقعة نائية على النيل.. غير أنها كـانت قـد أعدت خطة لمواجهـة مثل هذا الإجراء. فلم يمض شهران حتى كان سينموت قد تلقى أمرا ملكيا بالشروع في إنشاء معبد جنائزي كبير.. يجب أن يقوم في سفح جبل طيبة الغربي، ليكون مدخـلا إلى المقبرة السرية الحصينة التي تحفر في جدار الجبل. وما أسرع ما اتجه سينموت إلى التنفيذ، مدفوعا بكل ما يعتمل في قلبه لإرضاء الملكـة التي امتلأت أعـماقها بالحب لهذا الفتى الرائع. وإذا كـان النفور قـد استحكم بينها وبين زوجها، فالواقع أن تولي تحتمس الثاني المشاركة لها في الملك كان في نظر الشعب شرعيا لا غبار عليه. ولكن الأحوال كلها كـانت تدل على أن زواجه من حتشبسوت كـان زواجا رسميا ليظهر أمام الشعب أن على أريكة الملك فرعونا، أما غير ذلك فقد كانت حتشبسوت هي المسيطرة على البلاد.. فهي الوارثة الحقيقية للعرش.. بينما تحتمس لم يكن قد خلق ليكون فرعونا. وتمر السنون، وتستطيع حتشبسـوت أن تحكم البلاد ولفترة طويلة كانت كلها خيرا وسلاما، وكان إلى جانبها رجال مخلصون ومستشارون ناصحون يعرفون الأمور بعد عرضها عليها وتبادل المشورة معها، وكان أبرز هؤلاء هو كبير الكهنة هابوسنيب ذلك العجوز الذي كان يحاول دائما أن يزن أفعاله وأقوالـه والذي اطمأن تحتمس الأول إليه لكي يكون بجانب ابنته حتشبسوت. وإذا كانت الملكة قد تجاهلت زوجها كثيرا حتى كاد يصبح مهملا لا وزن له وهي التي تحكم وتأمر وتنهي، إلا أن الأمر بات يحتاج إليه عندما ثارت بلاد كـوش بالنوبة الجنوبية وأعلنت العصيان. وتولى تحتمس الثاني قيادة الحملة العسكرية لإخماد الثورة حيث عاد الجيش بأسرى كثيرين ممـا أعاد له هيبته بعد أن حقق النصر، ولكن سرعان ما فقد هذه الهيبة عندما فشل في إخماد عصيان القبائل الليبية غربي البلاد. ولأنه كان سهل الانقيـاد فقد جعلته زوجته طوع بنانها واستمرت هي صاحبة الحل والعقد في كل الأمور. تحت صولجان الفرعون المرأة استطاعت مصر أن تغتني وتزدهر وقامت المباني والمنشآت وتوالي مسير السفن في النيل والقوافل على البر محملة بالمحاصيل الثمينة من البقاع النائية. أما سينموت، فقد كان لا يزال يواصل العمل لإنهاء المعبدالجنائزي لملكته. وكـان ينفذ بكـل دقة تعليماتها الملكية ويسجل بالنقوش والرسوم كل ما كانت تستهدفه من تأكيد حقها في العرش. وحـين كـاد المشروع يقارب الانتهاء، بدت هناك حاجة شديدة لإحضار أخشاب من بلاد بونت- وهي الصومال الإفريقي- لإكمال البناء وأمرت حتشبسوت بإرسال بعثة إلى بلاد بونت.. أرض البخور والأخشاب والمر والعجائب الخفية. وعندما عادت البعثة جلبت معها كميات وفية من أخشاب الغابات والأبنوس الأسود والأخضر واللدائن المعطـرة، وجلود الفهود والنمور والقرود العجيبة.. وكل ذلك سجله سينموت على جـدران الرواق الجنوبي للمدرج الثاني في المعبدمع وصف تفصيلي لرحلة البعثة التي أرسلتها الملكة.. وجـاء يـوم عاش فيـه سينموت قمة مجده كفنان أصيل. وبـات يعتقـد أن الحياة لا يمكن أن تتمخض عن مزيد من السعادة حينما شاهد حتشبسوت في ردائها الموشى بالذهب تنزل من السفينة الملكية الراسية على البر الغـربي وقـد حملت في يـديها شعـاري الملكيـة. وتتقدم الملكـة نحو المعبدالكبير الذي بدت أعمدته البيضاء ملتصقـة بالجدار الجبلي الأحمر، فأعطت بذلك لوحة رائعة من الديكور الطبيعي لا تزال آثارها باقية. وقفت الملكـة على عتبـة المدرج الفخم المؤدي إلى المدخل، وأخذت تشاهد في سكـون هيكل المبنى، ثم رفعت بصرها وأخـذت تتأمل طويلا تفـاصيله. إنها تحفة فنية رائعة تمخضـت عنها عبقرية إنسان. قـالت الملكة في هدوء وهي تنظر إلى سينموت: إنه عجيبة العجائب. بل إنه أبهى أشكال البهاء.. والآن أي شيء يستطاع به مكـافأتك يا سينموت على هذا الإنجاز العظيم؟ وراحت الملكة تتجول في أرجاء المعبدالكبير وتتأمل الصور والرسم المنحوتة على صف الأعمدة والجدران وهي تمثل مشاهد مختلفة من حياة الملكة منذ ولادتها حتى تتويجها.. ولكن أبرز ما فيها هو ما اتجهت إليه حتشبسوت فورا لترى ما إذا كان سينموت قد استطاع أن يحقق لها هدفها الرئيسي. ووقفت تتأمل الرسوم في إعجاب. إنها تهدف إلى البرهان على أن حتشبسوت ليست ابنة تحتمس الأول، بل هي ابنة الإله آمون رع بالذات.. الذي أودع روحه في بطن الملكة أحموس وأنساب في كيانها عطره الإلهي. يؤكـد كل ذلك المشهد الأخير بعد الولادة حين تقف الإلهة حاتحور إلهة الحب تقدم لآمون المولود حتشبسوت فيهتف الإله جذلا: - صورة مجيدة تنحدر منى.. إنه ملك سيعتلي عـرش حورس إلى الأبـد ويحكم البلدين. وأحست حتشبسـوت بسعادة غامرة لأن الرسوم ستؤكد للجميع أنها بالفعل ابنة الإله آمون.. وهي بذلك خليقة بأن تكـون الملكة الشرعية على البلاد. واتجهت الملكـة إلى الرجل الذي استطاع أن يحقق أمنيتها وقالت له أمام الجميع: - لقد أثبت أنك خادم نافع يا سينموت، فقد استمعـت إلى تعليماتي وقمت بما طلبتـه على خير وجه. وهـو أمر يجعلني راضية عنك. فلتكن صديقا للملك من الآن. وإني إذ أقـول ذلك أعني أنه أصبح من حقك أن تـأكل خبز فرعون سيدك في معبدآمون رع. وتناولت الملكـة من يد واحد من الخدم ريشة نعامة ذات قبضة ذهبية وصيديرية موشاة بالذهب، وناولتها لسينموت، فأسرع إلى تناولها وهـو راكع. ففي تلك اللحظة بدت له حتشبسوت بلحيتها الذهبية الصغيرة، ليست امرأة يعشقها الرجال.. بل فرعون عظيم يجله الناس ويقدسونه. المتاعب تحيط بالفرعون من سوء حظر حتشبسوت أنه لا الخصب الذي تحقق في حكمهـا، ولا المعبدالجميل الذي شيـده مهندسها البارع سينموت، كـان مرضيا لأصحـاب الأهواء. فقد كان الحزب المتشبع بفكرة الغزو لا يزال رابضا يترقب الفرص، وقد ضايقه أن تمر تلك السنوات الطويلة بغير أن يقوم بشيء من تلك الغزوات التي كانت تأتيه بالمكاسب والمغانم. وعاد الهمس يترامى في أوسـاط الشعب بوجـوب وجود فرعون حقيقي فوق العرش بدلا من ذلك المظهر الكاذب للملكة التي احتوت تماما زوجها الذي لم تعد له قيمـة للحرب والغزو. وترامت الإشـاعات إلى حتشبسوت فرأت أن تبادر إلى القضاء على الشر قبل استفحـاله. ولكنها عادت فـرأت ألا تقوم بضربتها القاضيـة إلا إذا خرج الأمر عن حده. وكـان ما طمأنها أن أباها تحتمس الأول برغم عزلته بعد تنازله كان يقف إلى جـانبها، كـما أن كـبير الكـهنة كـان في صفـها، وما دامت كلمته نافذة على جميع الكهنة فإن الخطر لا يزال بعيدا. غير أن القدر كان لها بالمرصاد. فقد مات أبوها تحتمس الأول ثم تبعه كبير الكهنة المخلص، ليخلو الميدان للجشعين ممن كانوا تحت رئاسته. ولما انتخب من بين الكهنة من يخلفه جـاء واحد من كهنة آمـون الكارهين للملكـة.. وكأن ذلك لم يكن كافيا.. فقد جاءت الضربة الجديدة في موت زوجها تحتمس الثاني الذي كان وجوده الرسمي بمثابة حـافز يحميها من المتآمرين. فقد مات متأثرا بمرض غامض لم يمهله سوى أيام قليلة. وعندما حملت مومياؤه إلى "بيت الموتى" بدأت حتشبسوت تشعر بهول الموقف، فقد كان واضحا أنها ستواجه مصاعب ودسائس ليس لها آخر. فقد أطلت مأساة حق وراثـة العرش حسب القانون الكهنوتي من جديد. فالملكة لم يكـن لها ولد ذكر بل أنجبت بنتين. وبعد موت زوجها وجدت حتشبسوت نفسها أما لطفلة هي نفرورع الوارثة للعرش من خلال دمها الملكي وهي نفس الصورة التي كانت أيام تحتمس الأول. والحق لقد كان الموقف حرجا ولا بد من الخروج منه بصورة ترضي حتشبسوت وترضي الشعب معا. والحقيقة أن تحتمس الثاني كان قد أنجب ولدا من إحـدى محظياته. وقد انتظم هذا الولد في السلك الكهنوتي منذ طفولته وتربي في حجور كهنة معبدآمون. هذا الابن الذي دعي تحتمس أيضا كان في التاسعة من عمره عندما مات والده. وفطنت حتشبسوت سريعا إلى هذه الحقيقة. فهذا الصبي قـد تبلورت فيه جميع أماني خصومها وتشبعت نفسه بأطماعهم. وقد كان متفانيا في حب أبيه كارها كل الكراهية لزوجة والده حتشبسوت وقد كان مقتنعا بفكرة أنها كانت تتجاهل أباه في حياته واتخذت من اعتلال صحته فرصته للسيطرة على شئون البلاد. واتخذ الخصوم من معبدإله الشمس مقرا عاما لمؤامرتهم وتدبيرهم. رأت الملكـة أن ذلك الخطر بات يهدد أمن البلاد وسلامتها مما يدعوها إلى أن تقوم بضربتها القاضية قبل أن يستفحل الأمر. غير أن سينموت حال دونها والقيام بذلك، فقد أخبرها أن هجوما على المعبديثير غضب الشعب عليها وربما أدى إلى وقوفه ضدها، وإنما يمكن القيام بمثل هذا الهجوم عندما تبدو من أولئك الخصوم بادرة شريكون فيها حجة عليهم. مؤامرة الكهنة ولكن المؤامرة كـانت قـد دبرت بليل.. فلم يكن عجبـا أن يلجأ الكهنـة إلى الخداع والسحر الـوهمي ليدخلوا في عقول الشعب السريع التصديق ما يريدون. ورأى الناس ذات يوم موكبا كبيرا من الكهنة وقد خرجوا يحملون تمثال آمون، وساروا به إلى النيل ليصدر أمرا إلى النهر بأن يحول مجراه إلى أرض أصابها الجفاف كما زعموا. وبينما كـانوا يدورون بالتمثال كان الصبي تحتمس قد اتخذ مكانه بين أقرانه من صغار الكهنة الذين انتظم معهم في السلك الكهنوتي. وفي أثناء الطواف بدوا وكأن تمثال الإلـه يتجه ناحية شخص معين. وبعد أن بلغوا المكـان الـذي يجلس فيه الصبي وقف التمثـال فجأة أمامه. فخـر هذا على الأرض ساجدا يشكـر الإله على تعطفه واختياره.. !. وصاحت الجموع الساذجة من فرط الدهشة، وتولى الكهنة توضيح الأمر.. فهذه معجزة لم يسبق لها مثيل وهي تـدل على اختيار الإله آمـون لتحتمس الصبي ليكون فرعونا.. !. ومرة أخرى رأت حتشبسـوت أن تقوم بضربتها القاضية، ولكن سينموت حال بينها وبين القيام بها. ، فقد أقنعها أن الظروف باتت تجعل مثل هذه الضربة أشد خطرا عليهـا بعد أن أدرك أن جموع الشعب التي شاهدت "التمثيلية المعجزة" قد أخذوها على أنها إرادة الإله، فإذا حاولت حتشبسوت أن تقوم بشيء يعارض رغبـة الكهنة فإنها تعرض نفسها للقتل بغير أن يكـون هناك من يشفق عليها.. !. لم يعد هناك إذن سوى حل واحد. فلكي تبقي على حياتها وتحتفظ بعرشها يجب أن تشرك معها على العرش تحتمس الصبي. وهنـا تغشى عيـون التـاريخ وتختلط صفحـات المؤرخين، ولم يعد هناك ما يؤكد حقيقة العلاقة الرسمية والمشـاركـة التي قـامـت بين حتشبسوت وتحتمس الثالث.. فهل كـانت وصية عليه وعلى ابنتها صاحبة الحق في الولاية الرسمية حين توليا الملك بعد أن تزوجا وهما لم يبلغا سن الرشد.. أم أنها كـانت قد تزوجت الملك الصغير وهي في عمر أمه وسيطرت على العرش بعد أن أبعدته تماما عن ممارسة أي دور.. ؟! الخلاف الرهيب أيا كـانت التناقضات حـول فترة الخلاف الرهيب الذي اندلع بين الملكـة و "تحتمس الثالث" بعد أن وضعته شريكا لها في الحكم، فلا شك أن الثورة العارمة امتلكت أحاسيسها ضد هذا الشريك، وكان هو أيضا يضمر لها الشر من خلال الكهنة الذين ناصروه، فقد أحس أن الهوة بينهما سحيقة، وبدت له دائما عقبة كئودا في طريق طموحه. ولكن حتشبسوت مع ذلك استطاعت أن تسيطر على الموقف وأن تواصل فرض نفسها على العرش وظلت الملكـة الحقيقية للبلاد. ولم يكن من الممكن أن يكـون الأمر غير ذلك إذ كـانت هي في السابعة والثلاثين من العمر حين مات تحتمس الثاني واشترك معها تحتمس الثالث وهو في التاسعة من عمره وظلت هي قائمة على العرش الفعلي منذ مـوت زوجها تحتمس الثاني.. قضت سبعة أعوام منها سيدة الأمر خلال مشاركة ابن زوجها الصبي تحتمس الثالث، حتى أحكمت تدبيرها تماما، وأعلنت نفسها ملكـة شرعية على البلاد طـوال ثلاثة عشر عاما انزوى خلالها تحتمس الثالث بعد أن تركته يعيش في عزلة تامة ولا يذكر اسمه إلا بعد اسمها الذي كان يحتل المكانة الأولى. خلال تلك الفترة كان الفتى يزداد صلابة ويشتد عودا، وراح يفرض وهو في عزلته رقابة شديدة على الملكة، وأخذ خدمها المخلصون يختفون واحدا بعد آخر، ولم يعثر على جثة واحـد منهم أبدا.. بمن فيهم سينموت أبرع رجالها وأقربهم إلى قلبها. وبرغم العزلة التي فرضتها حتشبسوت على تحتمس الثالث إلا أن الخوف بدأ يدب في نفسها.. وبدأت تخاف ذلك الولد الصموت ذا العينين المنحرفتين والفم المغلق.. وقد صدق إحساسها. فقد عادت ذات مساء بعد أن حضرت وليمة أقيمت لتكريم كبار المحاربين، فلم تكد تستقر حتى شعرت بانحراف شديد أعقبه قيء مستمر. وأدركت للتو أن وقت النجاة قد فات وأن الموت يسعى إليها بخطى سريعة بفعل السم الذي دس لها في الطعام. وأخذت الملكة تصرخ طالبة المساعدة، غير أن صيحاتها ذهبت هباء، فقد صدرت الأوامر من تحتمس بعدم الـدخـول عليها. فلـم يستجب أحـد لصرخاتها التي أخذت تضعف شيئا فشيئا.. هنالك وجدت حتشبسوت نفسها وحيدة في وسط صحـراء تزينها الرياض والطنافس وتحيط بها كل مظاهر الأبهة. وعندما دخلت الجواري إلى مخدعها في الصباح بعد أن أذن لهن بذلك، وجدن الملكـة العظيمة- تلك التي عاشت كريمة النفس قوية الهمة معتزة برأيها حريصة على عرش بلادها- وجدنها جثة هامدة انطرحت على الرخام الأسود البارد، وقد تفتحت عيناها واسعتين على ليل الأبدية. وبكل طرق الخداع التي تعلمها تحتمس الثالث على أيدي كهنة آمون.. أمر بإعداد مشهد جليل لتشييع جنازة حتشبسوت، وحملت المومياء في وقار إلى قبر سري لم يعرفه سواه. ولكن لم تمض أيام حتى نبش هذا القبر سرا ونهبت محتوياته.. وألقيت في العراء مومياء أشهر ملكة جلست على عرش مصر.