قال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذّلّ من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) الإسراء: 23، 24..
الوالدان!!.. وما أدراك ما الوالدان؟!.. الوالدان: اللذان هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان.. الوالد بالإنفاق.. والوالدة بالولادة والإشفاق.. يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث؛ ولا تقبل واحدة بغير قرينتها..
1 (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) التغابن: 12.. فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.
2 (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) البقرة: 439.. فمن صلى ولم يزكِّ لم يقبل منه.
3 (أن اشكر لي ولوالديك) لقمان: 14.. فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
ولأجل ذلك تكررت الوصايا في كتاب الله تعالى، والإلزام ببرهما، والإحسان إليهما، والتحذير من عقوقهما، أو الإساءة إليهما بأي أسلوب كان.. قال الله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً) النساء: 36، وقال تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حسناً) العنكبوت: 8، وقال تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أُمُّهُ وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير) لقمان: 14..
فقد وضحت هذه الآيات ما للوالدين من جميل عظيم، وفضل كبير على أولادهما؛ خاصة الأم التي قاست الصعاب والمكاره بسبب المشقة والتعب، من وحم، وغثيان، وثقل، وكرب، إلى غير ذلك؛ مما ينال الحوامل من التعب والمشقة.. أما الوضع: فذلك إشراف على الموت لا يعلم شدته إلا من قاساه من الأمهات.
وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء التأكيد على وجوب بِرّ الوالدين، والترغيب فيه، والترهيب من عقوقهما.
ومن ذلك: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما).
وروى أهل السنن إلا الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبويّ يبكيان)؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارجع إليهما؛ فأضحكهما كما أبكيتهما).. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! من أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟)؛ قال: (أمّـك).. قال: (ثم من؟)؛ قال: (أمّك).. قال: (ثم من؟)؛ قال: (أمّـك).. قال: (ثم من؟)؛ قال: (أبوك)).. هذا الحديث مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر؛ وذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع؛ فهذه تنفرد بها الأم، وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية.. وجاءت الإشارة إلى هذا في قوله تعالى: (ووصيّنا الإنسان بوالديه حملته أمّه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين) لقمان: 14.. وكما أن بر الوالدين هو هديُ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو كذلك هدي الأنبياء قبله قولاً وفعلاً، وقد سبق بيان هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك من قوله، أما من فعله صلى الله عليه وسلم فإنه لما مرّ على قبر والدته آمنة بنت وهب بالأبواء - حيث دفنت؛ وهو مكان بين مكة والمدينة - ومعه أصحابه، وجيشه - وعددهم ألف فارس - وذلك عام الحديبية توقف، وذهب يزور قبر أمه؛ فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبكى من حوله، وقال: (استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي؛ فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة)..
وهذا إبراهيم - خليل الرحمن أبو الأنبياء وإمام الحنفاء عليه السلام - يخاطب أباه بالرفق، واللطف، واللين - مع أنه كان كافراً -؛ إذ قال: (يا أبت)؛ وهو يدعوه لعبادة الله وحده؛ وترك الشرك.. ولما أعرض أبوه؛ وهدده بالضرب والطرد لم يزد على قوله: (سلامٌ عليك سأستغفر لك ربي) مريم: 47..
وأثنى الله على يحيى بن زكريا عليهما السلام؛ فقال تعالى: (وبَــرّا بوالديه ولم يكن جباراً عصياً) مريم: 14... إلى غير ذلك من أقوال النبيين عليهم السلام التي سجلها كتاب الله تعالى.. وهكذا كان السلف الصالح من هذه الأمة أحرص الناس على البر بوالديهم..
عقوق الوالدين له صور عديدة، ومظاهر كثيرة؛ قد تخفى على بعض الناس.. ومن ذلك: أن يترفع الابن عن والديه، ويتكبر عليهما؛ لسبب من الأسباب؛ كأن يكثر ماله، أو يرتفع مستواه التعليمي، أو الاجتماعي، ونحو ذلك..
ومن العقوق أن يدعهما من غير معيلٍ لهما؛ فيدعهما يتكففان الناس، ويسألانهم.
ومن العقوق أن يقدم غيرهما عليهما؛ كأن يقدم صديقه، أو زوجته، أو حتى نفسه.
ومن العقوق أن يناديهما باسمهما مجرداً إذا أشعرهما ذلك بالتنقيص لهما، وعدم احترامهما، وتوقيرهما، وغير ذلك.
قد يتجاهل بعض الناس فضل والديه عليه، ويتشاغل عما يجب عليه نحوهما!!.. ألا يعلم ذلك العاق، أو تلك العاقة أن إحسان الوالدين عظيم، وفضلهما سابق؛ ولا يتنكر له إلا جحود؛ ظلوم؛ غاشم؛ قد غُلقت في وجهه أبواب التوفيق ولو حاز الدنيا بأجمعها؟!.. فالأم - التي حملت وليدها في أحشائها تسعة أشهر؛ مشقة من بعد مشقة؛ لا يزيدها نموه إلا ثقلاً وضعفاً، ووضعته كرهاً؛ وقد أشرفت على الموت - تعلّق آمالها على هذا الطفل الوليد؛ رأت فيه بهجة الحياة، وزينتها، وزادها بالدنيا حرصاً، وتعلقاً؛ شغلت بخدمته ليلها، ونهارها؛ تغذيه بصحتها، وتريحه بتعبها؛ طعامه درّها، وبيته حجرها، ومركبه يداها، وصدرها؛ تحوطه، وترعاه؛ تجوع؛ ليشبع، وتسهر؛ لينام؛ فهي به رحيمة، وعليه شفيقة؛ إذا غابت دعاها، وإذا أعرضت عنه ناجاها، وإن أصابه مكروه استغاث بها؛ يحسب أن كل الخير عندها، وأن الشر لا يصل إليه إذا ضمّته إلى صدرها، أو لحظَتْه بعينها.
أفبعد هذا يكون جزاؤها العقوق والإعراض؟!..
أما الأب.. يَكدُّ، ويسعى؛ من أجل ولده، ويدفع صنوف الأذى بحثاً عن لقمة العيش لينفق عليه ويربيه.. إذا دخل عليه هش، وإذا اقبل إليه بش، وإذا حضر تعلق به، وإذا أقبل عليه احتضن حجره وصدره.. يخوف كل الناس بأبيه، ويعدهم بفعل أبيه.. أفبعد هذا يكون جزاء الأب التنكر والصدود؟!.
إن الإحباط.. كل الإحباط أن يُفاجأ الوالدان بالتنكر للجميل.. وقد كانا يتطلعان للإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف؛ فإذا بهذا الولد - ذكراً أو أنثى – يتخاذل، ويتناسى ضعفه، وطفولته؛ ويعجب بشأنه، وفتوته، ويغره تعليمه، وثقافته، ويترفع بجاهه، ومرتبته؛ يؤذيهما بالتأفف، والتبرم، ويجاهرهما بالسوء، وفحش القول.. يقهرهما، وينهرهما.. يريدان حياته ويريد موتهما.. كأني بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين؛ تئن لحالهما الفضيلة، وتبكي من أجلهما المروءة.
إذن فليحذر كل عاقل من التقصير في حق والديه؛ فإن عاقبة ذلك وخيمة.. ولينشط في برهما حتى لا يعض أصابع الندم..
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، واجزهم عنا خير ما جزيت به عبادك الصالحين، وصلِّ الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه