و التف حول حركة الرهنة الاف المصريين لم يكونوا كلهم من القديسين و لا حتي من الصلاح فقد اندس في حشود الرهبان الورعين غير قليل من الهاربين من وجه القانون عادلا او ظالما لسبب او لاخر و كلمة الهروب من القانون بمعناها في ذلك الزمان تدل في غالب الامر علي روح المقاومة السلبية في الشعب المصري عندما يطفح كيل الغاصب المحتل و اعوانه من جامعي الضرائب و رؤساء الجند في هذا العهد الاول للمسيحية تاسس الدير الابيض قرب سوهاج و تجمع الرهبان في وادي النطرون بشقه الجنوبي حيث دير السريان و دير انبا بشويو ذاع امر هذه الحركة في ارجاء المسيحية فوفد علي مصر المعجبون بهاذا التجرد و القنوت جاءوا علي حس العجائب التي تتم علي ايدي النساك و قصص التهجد و تقتيل الجسد وفدوا علي مصر من شتي بقاع الامبراطورية الرومانية ليروا باعينهم و يتحدثوا بالسنتهم و في رسائلهم عما يشهدون و ليتبركوا بابطال الرياضة الروحية و عادوا الي بلادهم ممتلئين اعجابا بما راوا و وضعوا اسس الرهبنة الاوربية و الاسيوية بعد ان ترجموا الي اللاتينية و السريانية دستور رهبنة الشركة الذي وضعه انبا باخوم و كان بابا الكرازة المرقسية يعتبر هؤلاء الرهبان جيشه الروحي و المادي فاذا سافر الي المجامع العدة التي كانت تعقد غالبا في اسيا الصغري بامر الامبراطور للتداول في شان فقه الديانة المسيحية و اركان عقيدتها حاط نفسه بجموع الرهبان الصاخبة يعاونهم نوع من (الصبوات) الدينيين يعرفون باسم (البارابولاني) و وظيفة اولئك الرهبان و الصبوات تشبه ما عرفناه في عصرنا باسم المظاهرات و جموع الهتافة لم يكونوا يعنون و لا كانوا يفقهون شيئا من المساجلات البيزنطية الطويلة التي كانت تجري في تلك المجامع حول طبيعة السيد المسيح الهية خالصة هي ام انسانية الهية ام انسانية فحسب انما هم سافروا بطانة لبابا الاسكندرية مؤيدين لزعيم الوطنية المصرية لان ما يقوله داخل المجمع هو الحق و لا يعرفون حقا غير ما يقوله رئيسهم الروحي و رمز امانيهم ان المسيحية المقترنة بالهيلينية التي كانت تنادي بها روما لم تعش طويلا في مصر بسبب قوة اندفاع القومية المصرية ضد كل دخيل و ضد كل ما يمثله هذا الدخيل لم تهدا حفيظة المصريين علي المحتلين بعد ان اعتنق اباطرة روما و بيزنطة ديانة الناصري و لم يطفيء لظي كرههم للامبراطور الجالس علي ضفاف القرن الذهبي تحوله للمسيحية فما كان اسرعهم الي الاستئثار بمذهب مسيحي يخالف مذهب الامبراطور البيزنطي فاذا اتجهت روما الي الهرطقة الاريوسية قامت مصر تناهض الاريوسية و حينما نادت مسيحية الروم بازدواج طبيعة المسيح اعلنت الكنيسة المصرية و تمسكت الي يومنا هذا بعقيدة الطبيعة الواحدة فلا عجب ان عاني اقباط مصر من اضطهاد اهل ملتهم البيزنطيين اشد بكثير مما لاقوه علي ايدي الوثنيين و ليس بيسير علي كاتب هذه السطور و قد نشا مسلما في بيئة اسلامية صحيحة ان يفهم فيشرح اسس الخلاف الذي نشب في الكنيسة ابان القرن الخامس و غاية ما وسعنا فهمه هو اختلاف اللاهوتيين في تعريف تجسد كلمة الاب في صورة يسوع لانه و قد ظهر بين الناس بشرا سويا اليس في هذا الدليل علي ان طبيعته من طبيعة البشر؟!
و لكن المسيحيين امنوا بالطبيعة الالهية لابن مريم بحسبان انه كلمة الاب فجاء اريوس احد رجال الدين بالاسكندرية و انكر علي المسيح ان يكون من طبيعة الاب الذي لا شريك له و بذلك اكد نوعا من الوحدانية و لو انه لم ينكر الوهية المسيح كلية و جاء اعداء اريوس و الكنيسة المصرية علي راسهم فشلحوه و انكروا اي اثر للطبيعة البشرية في المسيح و تمسكوا بعقيدة الطبيعة الواحدة للمسيح و هي الطبيعة الالهيةو اذا كان المصريون لم ينكروا وجود طبيعتين للمسيح قبل تجسد الكلمة فانهم يقولون بزوال او انزواء الطبيعة البشرية كلها بعد التجسد انزوت كما تنزوي نقطة الماء في المحيط فهي موجودة و غير موجودة اما كنيسة بيزنطة فتؤمن بان للمسيح طبيعتين بشرية و الهية كان هذا هو اس الخلاف و المساجلات و المشاحنات في المجامع بين الكنيسة المصرية (المونوفيزية و تسمي عند الكتاب الاجانب باليعقوبية) و بين كنيسة بيزنطة ( و تعرف بالملكية ) و لا شك ان تمسك الفريق الاضعف المغلوب علي امره بعقيدة تخالف الفريق الغالب يحمل معني مناوأة الضعيف للقوي بل هي الظهير الروحي للمقاومة الوطنية فالمصريون يعارضون بيزنطة و يكرهون المحتل كما انهم يعتزون بشخصيتهم و شخصية كرازتهم المرقسية و لا يريدون لكنيسة الاسكندرية ان تتراجع الي الصف الثاني خلف بيزنطة الاحدث منها مسيحية فاذا كانت القسطنطينية هي عاصمة الامبراطورية بلا منازع فان الاسكندرية يجب ان تظل عاصمة المسيحية في العالم يقول كرستوفر دوسون في كتابه ((اصول اوروبا )) ان الازمة الدينية الكبري في القرن الخامس ترتد في اصولها الي قلب العالم الهليني ذاته بمدينة الاسكندرية لان تقاليد الثقافة الشرقية العريقة عادت الي الحياة في صورة من صور المسيحية لقد احتفظ الشعب المصري تحت الحكم البطلسي و الروماني بديانته و حضارته و بينما كانت اسكندرية حاضرة التمدين الهيليني اللامعة اتصلت اسباب الحياه المصرية القديمة علي ضفاف النيل دون تغيير و بذلك جري تيار الحضارتين جنبا الي جنب دون ان تختلط مياههما لان مصر الالفية احتفظت بطقوسها الدينية ثم جاءت المسيحية و غيرت كل هذا فانهارت الحواجز الدينية التي تحيط بالشعب المصري حتي وجد نفسه مختلطا بشعوب الامبراطورية الرومانية و مع ذلك فان قوة القومية المصرية لم تضعف و الحضارة اليونانية البيزنطية لم تجد سبيلا اليها بل كان العكس هو الصحيح اذ تدهورت اهمية العنصر اليوناني دون توقف و تبوأت اللغة القبطية اي اللغة المصرية مكتوبة بحروف يونانية مكانتها بدل اليونانية (ارايتم الذكاء المصري المتوقد حتي في اشد الليالي ظلاما) كما احتلت الكنيسة مكان الديانة الرسمية القديمة في تمثيلها للقومية المصرية و بينما قام علي راس الطبقات الحاكمة اسياد اجانب تبوءوا عرش الفرعون فان التحول الي المسيحية تبعه تزعم البطريرك المصري للكنيسة المصرية و كما كانت مصر في ايام تضعضعها تلقي بمقاليد زعامتها لكبير كهنة امون -رع في طيبة فان جميع قوي الوطنية المصرية التفت الان حول البطريرك و كان سلطانه علي الكنيسة المصرية سلطانا مطلقا هذه هي قصة الشعب المصري في حقبة من اعقد احقاب تاريخة فالمقاومة المصرية لحكم بيزنطة يشتد عضدها و التهرب من دفع الضرائب يصبح القاعدة و ذلك بان يهجر الناس ارضهم و يدخلوا الاديرة او ان يحتموا بكبار الملاك القادرين علي التخلص من الضرائب اما الكنيسة فتتمتع باعفاءات عدة و حاول الامبراطور هرقل في القرن السابع مصالحة الكنيسة المصرية و لم يكن له في هذه المصالحة فضل انما اضطر الي المسالمة بعد ان غزا كسري ولايات الامبراطورية في الشرق الاوسط فدخل بيت المقدس سنة 614م و مصر سنة 616 و بموت كسري عادت مصر الي حظيرة بيزنطة و راي الامبراطور من الحكمة استرضاء المصريين فابتدع مذهبا لا ينفي ازدواج طبيعة المسيح و لكنه يقول ((بوحدة مشيئته)) و اوفد الي مصر البطريرك قوروش يبشر بالمذهب الجديد و يضم الي سلطته الروحية السلطة الزمنية و هنا يقوا ساويرس ابن المقفع المؤرخ المسيحي ((اوفد قورش الي مصر بطريركا و حاكما عاما و قبل ان تطأ اقدام المقوقس ارض مصر اجتمع البطريرك القبطي بنيامين بالاكليروس و الشعب و نظم امور الكنيسة الوطنية و اوحي الي الجميع بالمقاومة حتي الموت في سبيل العقيدة ثم نزح الي الصحراء يحتمي بها هو و اساقفته و فشل المقوقس في فرض المذهب الجديد (المشيئة الواحدة) علي الكنيسة المصرية فاستعمل و سائل العنف و الاضطهاد في السنوات الباقية للحكم البيزنطي في مصر و كال له المصريون اقذع السباب (كعادتهم دائما) فهو ابن الشيطان و المسيخ الدجال و واصل بنياميين قيادة حركة المقاومة من منفاه الصحراوي و كانت تلك اللحظة مرصودة في لوح التاريخ للفتح الاسلامي بقيادة عمرو بن العاص فليس عجيبا و لا مستنكرا كما يدعي بعض المؤرخين ان يساعد المصريون الفاتح العربي و قد جاء ينقذهم من الاحتلال اليوناني الروماني الجاثم علي صدورهم منذ سبعة قرون و لم يقدم المصريون المعونة لفرسان العرب فحسب بل حارب بعضهم الي جانبهم و كان عمرو بن العاص قائد رجال اجتمعت له صفات الجندي العظيم و السياسي المحنك فاحسن استقبال البطريرك بنيامين و هو عائد من منفاه و لدينا شهادة من مصري من عظماء الاكليروس القبطي في ذلك الزمان او بعده بقليل و هو يوحنا النقيوسي قال: ((احترم عمرو املاك الكنيسة و لم يقترف عملا يعاب عليه فحيا اهل البلاد عهد السلام الديني و اعادة انشاء الكنيسة الوطنية و اديرة وادي النطرون و دير انبا مقار و جاء الرهبان افواجا يؤكدون اخلاصهم للقائد العربي))
فتح عمرو بن العاص مصر و كان يجمع الي القيادة العسكرية الباهرة حكمه السياسي و سماحته متاثرا في ذلك برئيسه الخليفة الراشد الفاروق الزاهد المتعبد الامن المؤمن العادل عمر بن الخطاب و ما ان تم لعمرو الفتح حتي قرب اليه الاقباط و كتب الي البطريرك بنيامين (ابي الميامين) يؤمنه و يدعوه اليه فلبي الرجل الدعوة و استقبله عمرو استقبالا حسنا و من الماثور عن ابن العاص قوله في جيشه بعد الفتح : ((حدثني عمر امير المؤمنين انه سمع رسول الله يقول : ان الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا باهلها خيرا فان لكم فيها صهرا و ذمة فكفوا ايديكم و عفوا فروجكم و غضوا ابصاركم)) و سمع الرهبان في مخابئهم الصحراوية و صوامعهم الجبلية بامر قوم جاءوا من الشرق ليقضوا علي الروم المارقين فاحتشدت حشودهم و وفدت علي القائد عمرو في جماعات كثيرة تحييه و تستبشر بقدومه و هو معجب بتلك الوجوه السمراء و الشعور الشعساء و الاسكيمات المهلهلة لا تكاد تغطي اجسادهم اوهنها الزهد و ضمرتها العبادة و يطيب لي ان اتصور ابن العاص ناظرا الي جيش الحفاة اولئك و هو العربي المتقشف بطبيعته قائد امير المؤمنين المتواضع الذي كان يلبس الجبة الصوف المرقعة بالاديم و يشتمل بالعباءة و يحمل القربة علي كتفه مع هيبة قد رزقها و كانت رحله مشدودة بالليف اقول اتصور ابن العاص متاملا هذه الانسانية الخشنة فاذا به يقارنها بما راي من بذخ الروم الفاضح فيكره الاسكندرية و حياتها التي تنم عن الترف و السرف و قد يسال سال عند قراته هذه السطور كيف تحولت مصر في عهد الاسلام من التحدث باللغة المصرية القديمة الي اللغة العربية و كيف تبدلت الكتابة من القبطية الي العربية و من هم هؤلاء الان الذين يعيشون علي ارض مصر ما هو اصلهم ما هي جنسياتهم من نحن؟
دخلت مصر في حوزة الاسلام عام 640 ميلادية و لم تخرج عنه منذ ذلك التاريخ و لن تخرج عنه الي يوم الدين و ليس امر الفتح العربي مجرد ديانة اعتنقها المصريون رويدا او حتي مجرد لغة حلت شيئا فشيئا محل اللغة الرسمية للبلاد و هي اليونانية ثم انتهت بالتغلب علي اللغة القومية القديمة و لكن ما حدث نتيجة للفتح العربي هو ان مصر اصبحت منذ ذلك التاريخ ركنا هاما من اركان العالم الاسلامي و ارتبطت مصائرها بمصائر الاسلام و اصبحت لغتها القومية هي لغة العالم الاسلامي السائدة و هي اللغة العربية فمصر اليوم بحكم لغتها قطاع من العالم العربي و بحكم ديانتها الرسمية شطر من العالم الاسلامي الذي يشمل شعوبا و امما احتفظت بلغتها الاصلية مثل ايران و تركيا و الباكستان و اندونيسيا مصر اعتنقت الاسلام دينا و اتخذت الضاد لغة و لعبت دورا خطيرا في التاريخ الاسلامي كله و كذلك في التاريخ العربي دورا سياسيا بحكم تراثها و مركزها الجغرافي و دورا ثقافيا بفضل ازهرها العتيد. و هذا التحول الكامل في حياة مصر فصلها فصلا تاما عن تاريخها السابق علي الفتح الاسلامي و لكن من الخطأ ان نحمل الاسلام و اللغة العربية تبعة انفصال مصر عن تاريخها القديم لانها في الواقع كانت قد نبذت تاريخها القديم عندما تحولت من الوثنية الي المسيحية في القرون الاولي بعد الميلاد و من الخطأ ان نحمل المسلمين المصريين تبعة تخريب المعابد المصرية القديمة لان المسئول الاول عن هذا التخريب هم المصريون المسيحيون فما ان اصدر الامبراطور تيودوسيوس عام 395 م امره بايقاف العبادات الوثنية في انحاء الامبراطورية حتي راح المسيحيون المصريون يهدمون او يخربون المعابد او يحيلونها الي كنائس و بيع