الجانب الاجتماعي في الحضارة الإسلامية

الناقل : heba | المصدر : www.kl28.com

الحضارة الإسلامية

الجانب الاجتماعي في الحضارة الإسلامية
كانت البشرية قبل مجيء الرسول ( تعيش في ظلمات كثيرة، وتتخبط في الجهل، وكثُرتْ الوثنية، ووصل عدد الآلهة التي تُعبد من دون الله إلى عدد لم تعهده البشرية من قبل، وانتشرت المفاسد والشرور والمساوئ الأخلاقية، وشمل الفساد كل بقاع الأرض، ثم شاء الله أن يرسل نورًا يزيل به ما على الأرض من ظُلمة، فأشرقت شمس الإسلام، وتغيرت الموازين، ودبت الحياة في العالم.
وأقام الإسلام مجتمعًا متكاملاً، فبنى الفرد المسلم الصالح، فكان أساسًا لبناء المجتمع المسلم الصالح المترابط الذي يسير على منهج الله سبحانه، وكان لابد من تكوين مجتمع مسلم؛ ليحمل عبء هذه الدعوة مع الرسول (، والدفاع عنها بعد موته، ونشرها في كل أرجاء الدنيا.
وقد انشغل الرسول ( في بداية الدعوة في مكة بتربية الفرد المسلم؛ كأساس لبناء المجتمع المسلم، وقد تمثلت جوانب هذه التربية في عدة أمور، هي:
أولاً: تصحيح العقيدة:
أخرج الإسلام الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد القهار، وإلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وأخرجهم من عبادة المادة إلى عبادة الله، وأراد تحريرهم من التخلف العقلي والعقائدي، وترقيق مشاعرهم وأحاسيسهم، والسمو بها إلى أعلى منزلة، فوصل هذا الإيمان إلى أعماق قلوبهم، وحوَّل هذا الإنسان من الدفاع عن قبيلته وعشيرته إلى التفاني في سبيل الدفاع عن دينه وعقيدته، والعمل على نصر هذا الدين، والحرص على نشره، وتبليغه للناس ابتغاء مرضاة الله.
فهذا الصحابي الجليل ربعي بن عامر يدخل على رستم -قائد الفرس- فلا يهتم بالزخرفة والزينة التي تحيط به، فيقول له رستم: ما جاء بكم ؟! فيرد عليه ربعي قائلاً: إن الله ابتعثنا لنخرج مَنْ شاء مِنْ عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جوْر الأديان إلى عدل الإسلام.
ثانيًا: السمو الخلقي، والتخلق بأخلاق القرآن:
كان كثير من العرب يفعلون الفواحش والمعاصي، وعندما جاء الإسلام ألبسهم ثوب العفة والطهر، فغضوا أبصارهم، واستقبحوا الفواحش والمعاصي، وذلك بفضل الضمير الحي الذي يراقب الله ويخشاه، والذي رباه القرآن في المسلم، فإذا غلبه الشيطان والهوى ووقع في معصية، عاتبه ضميره، وسرعان ما يتوب، ويطلب أن يقام عليه الحد إن كانت المعصية مما يوجب إقامة الحد.
وكان العربي يحمل السيف ويعتدي على غيره بسبب وبغير سبب، وكانت الحروب تستمر بين العرب وبعضهم لفترات طويلة، فجاء الإسلام فحرَّم البغي والعدوان، ونشر الأمن والسلام، فصار الناس رحماء بعد أن كانوا معتدين.
ثالثًا: التحاكم إلى الله ورسوله:
كان العرب يتحاكمون فيما بينهم إلى شرائع توارثوها عن آبائهم، واحتكموا إليها بأهوائهم، فجاء الإسلام فأنهى تلك الفوضى، ورد الحكم إلى الله سبحانه، قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) [النساء: 65].
رابعًا: المسئولية الشخصية والولاء للدين:
أكد الإسلام على المسئولية الشخصية، واعتبرها أساس المسئولية في الإسلام، وقد كان العربي -قبل الإسلام- يناصر قبيلته سواء كانت ظالمة أو مظلومة، فلا يهمه هل هي على حق أم على باطل، فجاء الإسلام فعلَّم المسلم أن أساس الحساب أمام الله هو المسئولية الشخصية، وعلَّم الإسلام الإنسان أن يكون ولاؤه لدينه فقط، قال تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) [المائدة: 55 ـ 56] .
خامسًا: تكريم المرأة:
اعتنى الإسلام بالمرأة عناية كبيرة، ورفع مكانتها، وأعلى منزلتها، قال
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: والله لقد كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئًا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل.
مظاهر عناية الإسلام بالمرأة:
1- قضى الإسلام على صور الزواج التي كانت عندهم، ما عدا الصورة الصحيحة التي عليها زواج الناس حتى الآن، لما في ذلك من تكريم للمرأة، وأنها ليست متاعًا لكل من أراده.
2- حفظ الإسلام للمرأة مكانتها، فقد كانت تورث كما يورث المتاع، فكان الابن الأكبر يرث نساء أبيه، كما يرث أنواع الميراث الأخرى، فجاء الإسلام فحرَّم ذلك.
3- لم يكن للمرأة عندهم ميراث، فلا ترث البنت من أبيها ولا الزوجة من زوجها، ولا الأم من ابنها، ففرض الله للمرأة ميراثًا، قال الله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيبا مفروضا) [النساء: 7].
4- نهى الإسلام عن وأد البنات، (أي قتلهن أحياءً)؛ خوفًا من أن يأتين بالفقر أو بالعار.
5- منح الإسلام المرأة حق التعليم، فقد كان النساء على عهد رسول الله ( يذهبن إليه، ليسألنه في أمور الدين، وكن يسألن أمهات المؤمنين، وكان النبي ( يخطب العيد للرجال، ثم يذهب إلى النساء يخطب فيهن. وجعل الرسول ( طلب العلم واجبًا في حق كل مسلم رجلاً كان أو امرأة. قال (: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)
[البخاري].
6- أجاز الإسلام للمرأة أن تعمل إذا فقدت من يعولها ويعول أولادها، أو مرض هذا العائل، ولها ذرية ضعاف، لتنفق على نفسها وعلى أولادها، فإن لم تستطع الخروج، كان على الدولة أن تتكفل بها وبعيالها، وتعمل كذلك إذا احتاج المجتمع الإسلامي إلى عملها، إذ يصبح خروجها للعمل في هذه الحالة فرض عين عليها لا يحل لها التخلف عنه.
7- وجعل الإسلام رضا المرأة شرطًا لصحة الزواج، فلا يستطيع أحد أن يجبر المرأة على أن تتزوج بمن لا ترضاه. قال (: (لا تُنكح الأيِّم (الثيب) حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن) [البخاري].
8- ولم يفرق الإسلام بين الرجل والمرأة على أساس النوع، إنما التفاضل بينهما فيما فضل الله به بعضهم على بعض، أما فيما دون ذلك، فالرجل والمرأة سواء لا فضل لأحدهما على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، قال تعالى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].


مكانة المرأة في الحضارات الأخرى:
ولكي تظهر مكانة المرأة في الإسلام، فلننظر نظرة سريعة إلى مكانتها في الحضارات الأخرى. كانت مصر هي البلد الوحيد الذي نالت فيه المرأة بعض حقوقها قديمًا، إذ كان للمرأة أن تملك، وأن ترث، وأن تقوم على شئون الأسرة في غيبة الزوج، ومع ذلك فقد كان الزوج هو السيد عليها، وكان ينظر إلى المرأة على أنها وسيلة للتمتع الجسدي تفوق ما سواها من إمكانات بنَّاءة خلقها الله في المرأة.
وكانت المرأة عند الصينيين لا قيمة لها، ويسمونها (بالمياه المؤلمة)، وهي شَرٌّ في بيت الرجل يتخلص منه متى شاء، وإذا مات زوجها حبست في بيته للخدمة كالحيوان. وكانت المرأة في الحضارة الإغريقية لا قيمة لها، لذلك حبسوها في البيت خادمة للرجل، واعتبروها قاصرًا لا يحق لها التمتع بأي حق، ونظروا إليها على أنها رجس من عمل الشيطان، وكانت تقدم قربانًا للآلهة عند نزول المصائب بهم.
وكان الهنود القدماء ينظرون إلى المرأة على أنها مخلوق نجس، إذا مات عنها زوجها حُرقت مع جثته بالنار، وكانت أحيانًا تدفن وهي حية، وإذا كانت زوجة فللزوج أن يفعل بها ما يشاء من سَبٍّ وضرب وشتم وغير ذلك.
وكان حال المرأة عند الرومان كحالها عند اليونان، بل أقبح حالاً، فهي أداة للإغواء، وهي تُباع وتُشترى، ولزوجها عليها السيادة المطلقة، وللزوج أن يتزوج من النساء ما يشاء، وتتعرض لشتى أنواع التعذيب، وتكلَّف ما لا تطيق.
وفي بلاد الفرس، كانوا يذلون المرأة ويُعدونها سبب انتشار الفساد، ولذا كانت تعيش تحت أنواع كثيرة من ظلم الناس، وتقع تحت سلطة الزوج المطلقة، فله أن يحكم بقتلها، وأن يتزوج من النساء غيرها ما يشاء دون قيد أو شرط.
وكان اليهود يحمِّلون المرأة إثم إغواء آدم وإخراجه من الجنة، وهي عندهم في المحيض نجسة، وكل ما تلمسه نجس، ولهم الحق في بيعها وحرمانها من الميراث.
وكانت المرأة عند النصارى وسيلة الشيطان، ويجردونها من العقل، وهي منكر، وكانت كنيسة روما تنفي وجود الروح في المرأة، وهي عندهم نجسة، وترتب على ذلك التحذير من الزواج بها، فلجأت النساء للأديرة وحياة الرهبنة، وكان هذا الوضع في العالم المسيحي حتى جاء عصر النهضة الحديثة.
وكانت المرأة عند العرب قبل الإسلام جزءًا من متاع الرجل وثروته، وتورث كما يورث المتاع، والابن الأكبر يرث نساء أبيه، وليس لها ميراث، وفي حيضها تعزل عن كل شيء؛ لأنها تعد نجسة، وإذا مات عنها زوجها تدخل في مكان منعزل من البيت وتظل فيه عامًا كاملاً، لا تلبس إلا قديم الملابس، وكانت قمة امتهانها تتمثل في البغاء ونكاح المتعة وغيرها، ومن أقبح العادات عند العرب قديمًا قتل البنات وهن أحياء.
سادسًا: المساواة بين الناس:
كان العربي يؤمن بنظام الطبقات، وكانت نظرته للإنسان على أنه إما سيد وإما عبد، وكان يؤمن بالدم والنسب أساسًا للتفاضل بين الناس، فجاء الإسلام، وألغى نظام الطبقات، وجعل أساس التفاضل التقوى والعمل الصالح، قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر أو أنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: 13].
وقال النبي (: (يأيها الناس إن ربكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) [أحمد].

سابعًا: العالمية:
كان العربي يعيش في الجزيرة العربية ضعيفًا يخاف قوة الفرس والروم، ويقبل راضيًا مختارًا أو كارها أن يعيش في منطقة خاضعة للفرس أو الروم، فكان العربي ينظر إليهم نظرة رهبة، وقد عَبَّر عن ذلك عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قائلا: إنها الروم وبنو الأصفر حدُّ حديد، وركنٌ شديد.
وقد كانت نظرة الفرس والروم للعرب نظرة احتقار وازدراء، وهذا ما عبر عنه أحد ملوك الفرس في الرسالة التي وجهها إلى جيش المثنى بن حارثة، قائد جيش المسلمين لغزو الفرس، قال فيها: إني قد بعثت إليكم جندًا من أهل فارس، وإنما هم رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقاتلك إلا بهم.
فجاءه رد المثنى بن حارثة: إنما أنت أحد رجلين، إما باغٍ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفي الناس الملوك، وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم، فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير، فانزعج الفرس من كتابه هذا انزعاجًا شديدًا. إن الإسلام جعل العرب ينطلقون شرقًا وغربًا، يفتحون البلاد لنشر الإسلام وتكوين الدولة الإسلامية العالمية.
التكافل الاجتماعي في الحضارة الإسلامية
لقد وضع الإسلام نظامًا دقيقًا يحقق العدالة الاجتماعية بين المسلمين، ويشيع بينهم جوًّا من المحبة والمودة والرحمة والتعاون والإيثار. والمال من الأشياء الهامة التي لها دور رئيسي في تحقيق التكافل الاجتماعي بين المسلمين، والإسلام لا يحارب الغنى، ولا ينتقص من ثروة الأغنياء، ما دامت هذه الثروة قد جاءت بطريق مشروع وأُدي حق الله فيها.
وهناك كثير من التشريعات المرتبطة بإنفاق المال، وكلها تعمل على توثيق التعاون والترابط والمودة والمحبة بين المسلمين، ومن هذه التشريعات: الزكاة، والصدقات، فالزكاة والصدقات يخرجها الرجل طهارة لماله، وإحساسًا بأخيه المسلم الفقير، ومعاونة له على مشاق الحياة وإدخال السرور على قلبه، فتتحقق المودة بين الفقير والغني، وتختفي الأمراض القلبية من المجتمع من حقد وحسد، ومنها الكفارات، فهناك كفارات مالية، مثل كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وغيرهما.
ومن الكفارات الإطعام الذي يوثق الحب والإخاء بين المسلم وأخيه، ومنها الولائم والهدايا والهبات والوصايا، وكلها أمور تقضي على الأنانية بين الناس، وتزيل الكراهية من النفوس، وتساعد على التعاون على البر والتقوى.
ومنها كفالة اليتيم ورعاية الأرامل، فهذا اليتيم ليس له أحد يرعاه بعد فقد والديه إلا المجتمع المسلم والحاكم المسلم، فإذا نشأ هذا اليتيم في أحضان هذا المجتمع، ووجد من يرعاه ويتولاه حتى يقوى على رعاية نفسه؛ نشأ على حب هذا المجتمع، والتفاني من أجله، مستعدًّا للموت في سبيل الدفاع عنه والأرملة إذا وجدت من يرعاها ويتكفلها؛ أحبت مجتمعها، وشكرت الأيدي التي امتدت لها، وكان ذلك صيانة لها من الانحراف.
وهناك أمور أخرى كثيرة، مثل الوقف والقرض والعارية، تحقق التكافل بين أفراد المجتمع المسلم، فالرجل الذي يوقف ماله لبناء مسجد أو مستشفي أو مدرسة، أو يوقفه لمساعدة أقربائه، إنما يحب مجتمعه ويضحي من أجله، ويحبه الناس ويذكرونه بالخير، وهذا المقرِضُ الذي يُقْرِض أخاه المحتاج ويعينه، ويساعده إنما يفرج عنه كُربة من كُرب الدنيا، وهذا الذي يُعير أخاه ما يحتاجه، ثم يسترده بعد الانتفاع به، إنما يشيع بينه وبين إخوانه المحبة والتعاون والإيثار.
حرص الشريعة على سلامة المجتمع وطهارته
أكد الإسلام حرصه على سلامة المجتمع وطهارته ورقيه، وقد ظهر ذلك واضحًا من خلال بعض التشريعات الاجتماعية والأخلاقية، مثل:
- المعاملات:
أحلَّ الإسلام البيع، وفصَّل أحكامه وشروطه وأركانه، والحلال منه والحرام، فأحل منه ما كان المجتمع محتاجًا إليه وفيه نفعهم، وحرَّم ما كان ظلمًا وأكلاً لأموال الناس بالباطل، كما حرَّم الإسلام الربا لما فيه من أخطار ومضار كثيرة، فهو يسبب العداوة بين الناس، ويقضي على التعاون فيما بينهم، ويؤدي إلى وجود طبقة لا عمل لها إلا أن يتزايد مالها على حساب الآخرين.
ومجَّد الإسلام العمل وحث عليه؛ لأنه وسيلة لإعمار الكون ورخاء الأمة، كما حث على القرض الحسن لمن احتاج إلى المال، وعمل على حفظ الدَّين بكتابته والإشهاد عليه، وحث المقترض على رد دينه، وأمر بضرورة الوفاء بالعهد واحترام العقود، كما أوجب الإسلام ضرورة إبداء شهادة الحق وعدم كتمانها، وحرم قول الزور، وحرَّم الغش في الكيل والميزان، وأمر بالعدل، وحث عليه، وجعله أساسًا من أسس الحكم في الإسلام، لما له من أثر في راحة الناس واطمئنانهم على حقوقهم.
- الحدود والقصاص:
لقد حرَّم الإسلام الإفساد في الأرض كسفك الدماء، وسرقة المال وغصبه، وانتهاك الأعراض، وقذف المحصنات، وقطع الطريق، وغيرها كثير، فجاءت الحدود الإسلامية لتكون مانعًا من ارتكاب هذا الفساد، وصونًا للمجتمع، فكان للسرقة حد هو قطع اليد، وللزنا حد هو الجلد مائة جلدة وتغريب عام من البلد إن كان غير متزوج، وإن كان متزوجًا فالرجم حتى الموت، وحد القتل العمد هو القصاص وهو قتل القاتل، إلا أن يرضى أهل القتيل بالدية فيأخذونها ويعفى عن القاتل، أو ما اصطلحوا عليه.
ولا تقام الحدود إلا بالبينة والتثبت، والأصل أن تلغى الحدود بالشبهات، ومن الأمور المقررة أن القاضي إن أخطأ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة، كما أن إقامة الحدود من مسئولية الحاكم المسلم، وليس للأفراد إقامة الحدود إلا من ينيبه الحاكم منهم في إقامة الحد، فإن أقام الحد أحد الناس من تلقاء نفسه؛ عُزِّر لتعديه على حق من حقوق الحاكم، وحتى لا تعم الفوضى في البلاد، وتعزيره موكول للحاكم في حدود التعزير الذي قرره الشرع.
كما أن الحدود تقام في ميدان عام يراها الناس، حتى يرتدع من يفكر فيما يوجب عليه حدًّا، ولنا في عهد الرسول ( العبرة والعظة، فلم تقم الحدود في عهده إلا ست مرات، نظرًا لتشبع القلوب والنفوس بقيم الإسلام وتعاليمه.
- الآداب الاجتماعية:
جاء الإسلام بآداب كثيرة ومتنوعة تحقق سلامة بنيان المجتمع المسلم، وتسهم في ترابطه وتعاونه مثل: إفشاء السلام، وصلة الرحم، وبر الوالدين، والأخوَّة، والتزاور، والإصلاح بين الناس، والتواضع، والنصح للمسلمين.
وحرَّم الإسلام أشياء لما لها من أثر سيئ في تفكك المجتمع وتنافره وانحلاله، مثل: الغيبة والنميمة، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، والاعتداء على الآخرين، والغش، والكذب، والخيانة، وشهادة الزور، والظلم، إلى آخر هذه الأمور المنهي عنها في كتاب الله وسنة رسوله (.


أسس بناء الدولة الإسلامية الأولي في المدينة
إن أول مجتمع إسلامي تكوَّن وتربى على الإسلام هو ذلك المجتمع الذي رباه الرسول الكريم (، وهو المجتمع المثالي لأي مجتمع، وقد أقامه الرسول ( على عدة أسس، هي:
بناء المسجد:
لقد كان أول شيء قام به الرسول ( بعد قدومه إلى المدينة المنورة هو بناء المسجد، وقد كان للمسجد أثره الكبير في إقامة المجتمع الإسلامي على آداب الإسلام وتعاليمه، فلم يكن المسجد مكانًا لأداء الصلاة فقط، وإنما كان مكانًا للتربية وللعلم وللقيادة وللحكم وللمناسبات الإسلامية. فقد كان الرسول ( يعلم المسلمين في المسجد أحكام الإسلام وتعاليمه وآدابه.
وكان ( يقضي بين الناس في المسجد، وكانت تُعقد فيه ألوية الحرب وتوجيه الرسل إلى الملوك، وإدارة شئون الدولة الإسلامية، وكان المسجد مكانًا لعلاج المرضى وإسعافهم سواء في وقت السلم أو الحرب، وهكذا يظهر دور المسجد في بناء الدولة الإسلامية وحضارتها.
المؤاخاة بين المسلمين:
لقد كان الأساس الذي أرساه الرسول ( لبناء المجتمع الإسلامي في المدينة، بعد بناء المسجد هو المؤاخاة بين المسلمين، وهو عمل بدأه بين مسلمي مكة قبل الهجرة.
ولم يكن المهاجرون يملكون شيئًا بعد أن هاجروا إلى المدينة، فقد تركوا أموالهم وأولادهم في مكة، فآخى الرسول ( بين المهاجرين والأنصار، وقامت المؤاخاة على أسس مادية كالمشاركة في المال والثروة والتوارث فيها، بالإضافة للأسس المعنوية كالولاء والمناصرة، وظل هذا التوارث بسبب المؤاخاة قائمًا حتى غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة، عندما نزل قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} [الأنفال: 75] فأصبح التوارث بسبب القرابة والرحم.
وقد أحب الأنصار المهاجرين حبًّا شديدًا، وآثروهم على أنفسهم، فأثنى الله عليهم، قال تعالى: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 6]. وهذه المحبة التي قامت بين المسلمين كانت نعمة من الله عليهم، فقد جعلت المسلمين أسرة واحدة، ومجتمعًا واحدًا.
المعاهدة بين المسلمين وغيرهم:
أصبح سكان المدينة بعد المؤاخاة بين المسلمين جماعتين فقط: جماعة المسلمين، وجماعة غير المسلمين وأغلبهم من اليهود، فوضع الرسول ( دستورًا وميثاقًا للعلاقة بين المسلمين وغيرهم، وكانت هذه المعاهدة من أعظم المظاهر الحضارية في الحياة السياسية والاجتماعية التي جاء بها الإسلام لبيان الحقوق والواجبات التي على المسلمين وعلى غيرهم بصورة لم تعهدها شبه الجزيرة من قبل.
الرسول ( القدوة:
كان الرسول ( هو قائد المجتمع المسلم، وهو الحاكم القدوة، فكان الرسول ( يستشير أصحابه في كثير من الأمور، وكان يلتزم الشورى في كل أمر لم ينزل فيه وحي من عند الله، حتى قال أبوهريرة -رضي الله عنه-: (ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله () [الترمذي].
وكان ( يمازح أصحابه ويداعبهم ويخالطهم، ويجيب دعوة الحر والعبد، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويساعد أهل بيته،.... إلى آخر صفاته الكريمة (.
وقد نزل القرآن آمرًا الصحابة بالاقتداء بالرسول (، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا} [الأحزاب: 21].
ومن هنا اقتدى الصحابة بالرسول (، وبذلك تربى المجتمع الإسلامي الجديد على القيم والأخلاق، وبهذه الأسس الراسخة، وتلك القواعد الثابتة والقيم السامية والأخلاق الرفيعة، جاءت حضارة الإسلام، فأخرجت للعالم خير أمة أخرجت للناس.
الأسرة في الحضارة الإسلامية
الأسرة هي الدرع الحصينة التي تحمي صاحبها، ولا يكون الإنسان قويًّا عزيزًا إلا إذا كان في أسرة تحصنه. والأسرة التي ينشدها الشرع هي الأسرة الملتزمة بأوامر الله، والتي تكون نواة للمجتمع الملتزم بمنهج الله وشرعه.
الزواج أساس تكوين الأسرة المسلمة:
الزواج هو الطريق الشرعي الصحيح لتكوين الأسرة المسلمة، وقد حث الإسلام على الزواج وشجع عليه، قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}
[الروم: 21].
وقال الرسول (: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) [متفق عليه].
وللزواج فوائد كثيرة أهمها:
- أنه وسيلة مشروعة للمحافظة على بقاء النسل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
- المحافظة على الأنساب من الاختلاط، بسبب ما يترتب على النسب من حقوق وقواعد كالميراث، ومعرفة المحارم وغير ذلك.
- المحافظة على المجتمع من شيوع البغاء والزنى واللواط.. تلك الأمراض التي تهدم المجتمع.
- الزواج مسايرة للفطرة وعدم الانحراف عنها.
وسوف يؤدي الزواج ثماره المرجوة إذا توافرت فيه النية الصادقة، والقدرة على نفقات الزواج. فالمسلم يبغي من زواجه أن يعف نفسه، ويحصن فرجه، ويكثر أعداد المسلمين، فعلى المسلم أن يصحح نيته في ذلك، فقد قال النبي (: (إن في بضع أحدكم صدقة)، قالوا: يا رسول الله، أيقضي أحدنا شهوته، ويكون له بها أجر؟). قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟). قالوا: نعم. قال: (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) [مسلم وأبوداود].
ولقد وضع الإسلام كثيرًا من الضوابط، حتى يحقق الزواج ثمرته المرجوة، وهذه الضوابط هي:
الخطبة قبل الزواج:
والخطبة مجرد وعد بالتزويج، وقد أباح الشرع الحنيف لمن يريد الزواج من امرأة أن ينظر إليها، حتى يكون على بصيرة من أمره، إن كان ينظر إليها بقصد الخطبة، قال رسول الله (: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)
[الترمذي والنسائي وابن ماجه]. إلا أن الخطبة لا تحل حرامًا كان قبلها، فما يزال كلا الخاطبين أجنبيًّا، فلا يجوز للرجل أن يخلو بمخطوبته، أو يخرج معها دون محرم، ولا يجوز للرجل أن يخطب على خطبة أخيه.
فعن أبي هريرة أن رسول الله ( قال: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب) [الجماعة]. أما إذا تقدم الرجل لخطبة امرأة، ولم يرد أهلها عليه، وتقدم غيره بدون علم؛ فقبلوا الثاني، فلا حرمة في ذلك. ويستحب إخفاء الخطبة، وذلك خشية إفساد المفسدين، أو ربما لا يوفق الله بينهما، ويترك كل منهما الآخر، فيسبب ذلك حرجًا للمخطوبة، بخلاف العقد، فإنه يجب فيه الإشهار والإشهاد.
اختيار الزوجة:
حثَّ الإسلام الشاب على أن يختار زوجته ممن تتوفر فيها عدة شروط، وهي:
الدين: فقد كان النبي ( يحث على اختيار ذات الدين الملتزمة بتعاليم الإسلام وآدابه، قال (: (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين) [الجماعة].
حسن الخلق: وذلك لأنه لا يخفى على الإنسان أن بعض الصفات تنتقل إلى الأبناء بالوراثة، وكذلك بالتربية، فالبيت الملتزم يربي أبناءه على الالتزام والقيم الأخلاقية والطاعة.
البكر: فقد روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن الرسول ( قال له: (تزوجت يا جابر؟). فقلت: نعم. قال: (أبكرًا أم ثيبًا ؟). قلت: بل ثيبًا. قال: (فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك). فقلت له: إن عبد الله (والد جابر) هلك وترك تسع بنات، وإني كرهتُ أن أجيئهن بمثلهن، فأحببتُ أن أجيء بامرأة تقوم عليهن، وتصلحهنَّ). فقال (: (بارك الله لك) [متفق عليه]. وإن كان الإسلام قد دعا إلى الزواج من البكر، فإنه لم يوجب ذلك، وقد تُفَضَّل المرأة الثيب على البكر أحيانًا كما ورد في حديث جابر السابق.
الولود: لقول الرسول (: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم) [أبو داود والنسائي]. ومن عظمة الإسلام ورحمته، أنه إذا كان قد أمر بالزواج بالودود الولود، فإنه أمر بالإحسان من سواها، إذ لا ذنب لها في قَدَر قدَّره الله عليها، وربما كان لها من الخلق والقدرات والمواهب ما يفوق ما حرمت منه.
اختيار الزوج:
وكما وضع الإسلام للرجل أسسًا يختار على أساسها الزوجة، فإنه وضع أيضًا للمرأة أسسًا تختار على أساسها زوجها، فلابد أن يتوفر في الرجل جميع ما يجب توفره في المرأة، دون تفرقة بينهما، فينبغي أن تتوفر فيه الصفات التالية:
- أن يكون رجلاً ذا دين.
- أن يكون أمينًا ذا خلق.
- أن يكون قادرًا على تحمل المسئولية.
وهذه الصفات معلومة من حديث الرسول (: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه، فزوجوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد) [الترمذي].
ويستحب أن يكون الزوج متقاربًا في السن مع الزوجة، فقد خطب أبو بكر وعمر، -رضي الله عنهما- فاطمة، فقال الرسول (: (إنها صغيرة)، فخطبها علي، فزوجها له. [النسائي].


حقوق الزوج على زوجته:
ولكي تدوم المودة بين الزوجين، ومن أجل الحفاظ على الأسرة المسلمة، جعل الشرع الحنيف لكل من الزوجين حقوقًا على الآخر يؤديها إليه في رضا وسعادة، وحقوق الزوج على زوجته هي:
- الطاعة: فيجب على المرأة المسلمة أن تطيع زوجها فيما يأمرها به سرًّا وعلانية، ما لم يأمرها بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد سئل النبي (: (أي النساء أفضل؟ فقال (: (التي تطيع زوجها إذا أمر، وتسره إذا نظر) [أحمد].
- إجابة دعوة الزوج لها إلى الفراش في أي وقت، فإذا دعا الزوج زوجته إلى فراشه فلم تجبه، غضب الله عليها.
- ألاَّ تصوم صوم تطوع إلا بإذنه، قال رسول الله (: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) [البخاري].
- المحافظة على مال زوجها وعدم الإسراف فيه: لقول الرسول (: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئًا) [مسلم].
- تربية الأولاد تربية إسلامية وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة، قال (: (كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ على أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها) [البخاري].
- التزين والتجمل: فمن حق الزوج على زوجته أن تتزين وتتجمل له.
وهناك، حقوق كثيرة، منها الوفاء للزوج، واحترام مشاعره، وشكر جميله، وحسن معاشرة أهله، والحداد عليه بعد وفاته، وإعانته على فعل الخيرات والطاعات من صيام وقيام وبر والديه، قال (: (رحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّتْ وأيقظتْ زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) [أبو داود]. وغير ذلك.
حقوق الزوجة على زوجها:
وكما أن للرجل حقوقًا على زوجته، فإن لها -أيضًا- حقوقًا على زوجها، وهذه الحقوق منها حقوق مالية وحقوق غير مالية، ومن هذه الحقوق ما يلي:
- المهر: وهو حق خالص للزوجة، وهذا المهر لا حد لكثرته أو قلته إلا أنه تكره المغالاة في المهور، قال (: (إن أعظم النكاح بركة، أيسره مئونة) [أحمد].
- النفقة: والمقصود بها أن يوفر الزوج لزوجته من الطعام والمسكن والدواء، وإن كانت غنية.
- حسن معاشرتها، فإن أول ما يجب على الزوج لزوجته أن يعاشرها معاشرة حسنة، وأن يكرمها على قدر ما يستطيع، وأن يقدم إليها ما يؤلف قلبها ويقوي رابطة المحبة بينهما.
ومن مظاهر كمال أخلاق المسلم أن يكون رفيقًا مع أهله، يقول الرسول (: (أكمل المؤمنين إيمانًا، أحسنهم أخلاقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خلقًا) [الترمذي].
ومن إكرام المرأة تحمُّل ما يصدر منها، قال رسول الله (: (استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن خُلِقنَ من ضِلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضِّلَع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا) [البخاري]. ومن حسن معاشرتها إدخال السرور عليها؛ لأن ذلك يولد الحب، ويشيع في الأسرة المسلمة جوًّا من المودة والرحمة، وقد كان الرسول ( يداعب أهله، ويسابق السيدة عائشة -رضي الله عنها-.
- صيانتها والحفاظ عليها من كل ما يخدش كرامتها، وينبغي أن يكون الرجل معتدلاً في غيرته على أهله؛ حتى لا تفسد الحياة الزوجية وتتحول إلى عذاب، وتضيع الثقة بين الزوج وزوجته وتستحيل الحياة بينهما.
- تعليمها أحكام دينها، وتحذيرها من المعصية، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة} [التحريم: 6].
- ألاَّ يفشي سرها،، وذلك لقول الرسول (: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها) [مسلم].
- عدم الإضرار بها في أي أمر من الأمور.
- ألا يدخل الرجل على أهله ليلا إذا أطال الغيبة، كأن يكون في سفر، إلا إذا أعلمها، وهذا من أسمى الآداب الإسلامية في معاملة الرجل لزوجته، وهو أدعى لاحترام مشاعر الزوجة، والثقة المتبادلة، وأدعى لدوام الحب والعلاقة الحسنة بينهما، قال رسول الله (: (إذا أطال أحدكم غيبته، فلا يطرق أهله ليلاً) [البخاري].
- العدل بين الزوجات إن كان الزوج متزوجًا بأكثر من واحدة، قال (: (إذا كان عند الرجل امرأتان، فلم يعدل بينهما؛ جاء يوم القيامة وشقه ساقط) [الترمذي].

الحقوق المشتركة بين الزوج وزوجته :
-حق العشرة الزوجية واستمتاع كل من الزوجين بالآخر، فيحل للرجل من زوجته ما يحل لها منه.
- حرمة المصاهرة؛ أي أن الزوجة تحرُم على أب الزوج وأجداده وأبنائه، وفروع أبنائه وبناته، كما يحرم الزوج على أمها وبناتها، كما يحرم عليه عمتها وخالتها ما دامت في عصمته.
- ثبوت حق التوارث بينهما بمجرد إتمام العقد، فإذا مات أحدهما بعد إتمام العقد ورثه الآخر، وإن لم يكن قد دخل بها.
- ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش.
تعدد الزوجات:
تعدد الزوجات ليس ظلمًا للمرأة، بل هو عدل ومراعاة لعادات وطباع كثير من الناس، فقد كان معروفًا في اليونان، وكانوا يبيحون تعدد الزوجات بلا حساب، وأباحه بعض البابوات لبعض ملوك النصارى بعد الإسلام، (مثل شارلمان) ملك فرنسا الذي كان معاصرًا للخليفتين المهدي والرشيد. وقد اختلفت عادات الناس في تعدد الزوجات، ولم يشذ عن إباحة التعدد إلا الأوربيون، واستبدلوا بتعدد الزوجات الشرعية، السفاح واتخاذ الأخدان.
يقول الفيلسوف الإنجليزي (سبنسر): إن الزوجات كانت تباع في إنجلترا فيما بين القرنين الخامس والحادي عشر، وإنه حدث أخيرًا في القرن الحادي عشر أن المحاكم الكنسية سنَّت قانونًا ينص على أن للزوج أن ينقل أو يعير زوجته إلى رجل آخر لمدة محدودة حسبما يشاء الرجل المنقولة إليه، وشر من ذلك ما كان للشريف الحاكم من الحق في الاستمتاع بزوجة الفلاح عند عقده عليها أربعة وعشرين ساعة. هذا إلى غير ما كان في هذه الفترة من أحكام وقرارات جائرة ظالمة للمرأة وكرامتها، فأين هذا من تكريم الإسلام وحضارته السامية للمرأة، واحترامه لها ولكرامتها وحيائها وآدميتها!!
أما بالنسبة لتعدد الزوجات في الإسلام، فإنه لم يترك هذا الأمر هكذا، بل قيده بعدد محدد وهو أربع زوجات، وبالقدرة على القيام بحقهن، وقيده بقيد أهم، وهو العدل بين الزوجات، فإن لم يستطع الرجل أن يعدل فواحدة، والإسلام لم يوجب التعدد، وإنما أباحه لأمور كثيرة منها:
- استحالة العشرة بين الزوجين، فيتزوج الرجل وترضى زوجته بأن تعيش مع ضرتها، ولا ترضى بالطلاق.
- عقم الزوجة، فيضطر الزوج إلى الزواج بأخرى رغبة في الولد.
- في حالات الحرب حيث يكثر النساء، فيتزوج الرجل بأكثر من زوجة، حتى لا تكثر العوانس في المجتمع، ويؤدي ذلك إلى الرذيلة.
- قد يكون الرجل ممن لا يصبرون عن النساء، والمرأة في حالة حيضها ونفاسها ومرضها لا يحل للرجل أن يأتيها مما قد يعرضه للوقوع في الفاحشة، فكان الأحسن والأليق بحاله أن يباح له الزواج بأخرى دفعًا للمضرة، والإسلام حينما أباح التعدد إنما أباحه لهذه الضرورات وغيرها مما يرفع عن المسلمين الحرج. والخلاصة أن الإسلام أتى في هذه المسألة بالكمال الذي لابد أن يعترف به دعاة المدنية الغربية وغيرهم مهما طال عنادهم.



تربـية الأبناء في الحضارة الإسلامية
الأبناء نعمة من الله تعالى تستحق الشكر، وشكر نعمة الله في الأولاد يكون بتربيتهم تربية إسلامية صحيحة على المبادئ والأخلاق والقيم، قال (: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه) [البخاري].
حقوق الأبناء على الآباء:
اهتم الإسلام بتربية الأبناء اهتمامًا كبيرًا، وجعل على الآباء لأبنائهم حقوقًا، كما جعل للآباء على أبنائهم حقوقًا، وهذه الحقوق هي:
- اختيار الأم الصالحة: فينبغي أن يختار الأب لأبنائه أمًّا صالحة تقوم على تربية أبنائه تربية صحيحة، بحيث يكون هؤلاء الأبناء قادرين عل حمل أمانة الإسلام، والوصول بها إلى غايتها، والدفاع عنها.
- دفع الضرر عنه، وله صور منها: التأذين في أذن المولود اليمنى وإقامة الصلاة في أذنه اليسرى. فعن أبي رافع عن أبيه قال: (رأيت رسول الله (، أذَّن في أذن الحسن بن علي -حين ولدته فاطمة- بالصلاة) [أبو داود والترمذي]. هذا سوى ما يجب على الوالد من الدفاع عن ولده وحمايته من أي خطر قد يتعرض له في دينه أو دنياه.
- تسميته اسمًا حسنًا حين ولادته، وقد بين رسول الله ( أن أحسن الأسماء عبد الله، وعبد الرحمن، حيث قال: (إن أحسن أسمائكم إلى الله
عبد الله، وعبد الرحمن) [مسلم].
وحذر الإنسان من أن يختار لابنه اسمًا قبيحًا، فالإنسان يتضرر بالاسم القبيح ويتأذى به، كما أنه يستبشر بالاسم الحسن؛ ولما في ذلك من اقتداء بالأنبياء والصالحين.
- شرع الإسلام العقيقة عن الولد يوم السابع من ولادته إن تيسر ذلك، ويُذبح عن الولد شاتان، وشاة عن البنت، ويدعي إليها الفقراء والمساكين والأقارب والصالحون والأصدقاء، وذلك لزيادة الترابط بين المسلمين، وزيادة المحبة والأخوة، ودفعًا للأذى عن هذا الطفل، ويُسَنُّ حلق شعره قبل العقيقة.
- ختان المولود: لقول رسول الله (: (الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب) [البخاري]. ويختن الطفل قبل بلوغه السابعة.
- النفقة والواجبات المالية: النفقة واجبة على الأب لأبنائه ذكورًا كانوا أو إناثًا ما داموا في كفالته، وذلك حتى لا يتركهم يتعرضون للضياع والانحراف، قال رسول الله (: (كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يعول) [أبوداود].
- العدل بين الأولاد، فتفضيل بعض الأبناء على بعض يؤدي إلى إثارة الحقد والحسد والبغض؛ مما يضر بالترابط الأسري، الذي صانه الإسلام، وحافظ عليه بكل السبل.
- حق التربية والتعليم، فتربية الأبناء تربية سليمة أمانة في عنق الوالدين، قال رسول الله (: (إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه، حفظ أم ضيع) [الترمذي].
حقوق الآباء على الأبناء:
فرض الإسلام على الأبناء طاعة الوالدين، والإحسان إليهما، وحسن صحبتهما، قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا} [الإسراء: 23-24]. وسئل الفضيل بن عياض عن بر الوالدين، فقال: ألا تقوم إلى خدمتهما وأنت كسلان. وقيل: ألا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر إليهما شزرًا (باحتقار)، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر أو باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا، وتدعو لهما إذا ماتا.
ونهى الإسلام عن عقوق الوالدين، قال رسول الله (: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين) [الترمذي].
ومن تكريم الإسلام للأم، واعترافًا بمكانتها ودورها أن جعل حقها في البر أكبر من حق الأب، فقد جاء رجلٌ إلى رسول الله ( يسأله: يا رسول الله: من أَبِرُّ ؟ قال: (أمك)، قال: ثم من ؟ قال: (أمك)قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال (أباك، ثم الأقرب فالأقرب) [الترمذي].
الترويح في الأسرة المسلمة
الأسرة المسلمة تروح عن نفسها باللعب واللهو المباح، فقد سابق النبي ( السيدة عائشة فسبقته، فسابقها مرة أخرى فسبقها، وقال لها: (هذه بتلك) [أبو داود].
وكان ( يداعبها، ويقول لها: (إني لأعلم إذا كنت عليَّ راضية، وإذا كنت عليَّ غضْبى؟). قالت: وكيف يا رسول الله؟ قال: (إذا كنت عليَّ راضية قلت: لا ورب محمد، وإذا كنت على غضبى قلت: لا ورب إبراهيم). قالت: أجل والله، ما أهجر إلا اسمك. [متفق عليه].
وقدم وفد الحبشة على رسول الله (، فقاموا يلعبون في المسجد، وروت ذلك السيدة عائشة، فقالت: (فرأيت رسول الله يسترني بردائه، وأنا أنظر حتى أكون أنا التي أسأم) [البخاري] .
وكانت جاريتان تلعبان في المسجد، وعائشة -رضي الله عنها- تنظر من فوق كتف رسول الله (، فقال (: (لتعلم يهود أن في ديننا فسحة؛ إني بعثت بحنيفية سمحة) [البخاري].
ويقول حنظلة بن الربيع-رضي الله عنه- كنا عند رسول الله (، فوعظنا فذكر النار، ثم قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت
المرأة. فخرجت فلقيت أبا بكر؛ فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر. فلقينا رسول الله (. فقلت: يا رسول الله، نافق حنظلة، فقال: (مه (أي: اسكتْ))، فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل، فقال: (يا حنظلة، ساعة وساعة، ولو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر، لصافحتكم الملائكة، حتى تسلم عليكم في الطرق) [مسلم]. ومن اللهو المباح أيضًا في الأسرة المسلمة ما يحدث في حفلة العرس من ضرب بالدف، وإنشاد الأناشيد الإسلامية التي تحث على مكارم الأخلاق، كما في ذلك من إدخال السرور على الزوجين.
رعاية الإسلام لأقارب الزوجين
إن حرص الإسلام على الأسرة لم يقصره على الزوجين والأبناء، بل جعله عامًّا لكل ذي رحم. وأقارب الزوجين أهل للأسرة الناشئة، فأم الزوج في مقام أم الزوجة، وأم الزوجة في مقام أم الزوج، لذلك حث الإسلام الزوج على البر بأهل الزوجة، وحث الزوجة على البر بأهل زوجها، وذلك التواد والتراحم ينمي قوة الترابط والتماسك الأسري. هذه هي بعض أسس الحضارة الإسلامية في مجال الأسرة المسلمة، التي تميزت به عن غيرها من الحضارات.
وإذا نظرنا إلى الأسرة في مدنيَّة الغرب المعاصرة نظرة سريعة، وجدنا هذه المدنية لا تحافظ على قدسية الأسرة وسلامتها كما حافظ عليها الإسلام، وحاطها بسياج من العفة والطهارة، فتشيع عندهم الفاحشة، ويكثر أولاد البغاء والزنى.
ومما يُحزن القلب أن المسلمين في ظل ضعفهم الحضاري تلقوا تعاليم الغربيين، ونظرياتهم في كثير من الأمور والأنظمة، فتعرض نظام الأسرة في المجتمعات الإسلامية لخطر التفكك والانحلال الذي ظهرت عواقبه السيئة، في سلوك كثير من الشباب، وتنكر كثير منهم لتعاليم دينهم، وظهرت في حياة كثير من أسر المسلمين سلوكيات لا تتفق مع قيم الإسلام، وتناقض ما جاءت به الحضارة الإسلامية من مبادئ سامية في مجال الأسرة المسلمة، في الوقت الذي بدأ فيه الغربيون وأعداء الإسلام يأخذون بنظم الإسلام في مجال الأسرة لما رأوا فيه من الخير لبناء المجتمع وتماسكه.

الحقوق محفوظة لكل مسلم