للمربي الناجح خصائص عديدة وسمات متنوعة، تسهم إسهاماً مباشراً في إحداث التفاعل والانسجام بينه وبين الآخرين، من هذه الخصائص ما هو مكتسب، ومنها ما هو فطري تقوم البيئة التربوية بصقله واستثماره، وربما استطاع بعض المربين التطبع بطبائع معينة – ليست لديه من قبل- ابتغاء إحداث التفاعل التربوي. وهو أمر جيد إذا كان المربي يفتقد الخصائص التربوية الفطرية المهمة للتفاعل أو بعضها، كأن يتعود على التأني إذا كان عجولاً، أو على التحلم إذا كان غضوباً، أو على البذل إذا كان قتوراً. وقد أشرنا – فيما سبق- إلى سلوكيات عديدة، تمثل أجزاء مهمة في السلوك التفاعلي، كالسلوك اللغوي، وسلوك السيما والهيئة، والسلوك العادي، والسلوك العلاجي، وتتضمن هذه الأنواع من السلوك بعض الخصائص والسمات المهمة للمربي المتفاعل، وسنبين - فيما يأتي- بتفصيل أكثر الخصائص والسمات التي يحتاجها المربي ليني علاقة تربوية متفاعلة ومثمرة. ويمكن أن تصنف
هذه الخصائص في زمر أربع هي: 1- زمرة الخصائص المعرفية. 2- زمرة الخصائص الأسلوبية. 3- زمرة الخصائص الوجدانية. 4- زمرة الخصائص الاتصالية. الخصائص المعرفية وتشمل ثلاث خصائص هي: خلفية المربي المهنية، واتساع ثقافته وتنوعها، والمعرفة الواسعة بالطرف المقابل (المتربي). الخلفية المهنية: هناك ارتباط إيجابي بين الرصيد المهني للمربي وفعاليته الدعوية والتربوية، فالمربي المؤهل مهنياً في مجال الدعوة أو التربية تأهيلاً جيداً يغدو أكثر فعالية من المربي الجديد الذي لا يملك خيرة وتجربة، ولا يملك المعلومات التربوية المناسبة. والرصيد المهني يشتمل على معرفة المربي بمهارات الاتصال ومعرفة طبيعة التعليم وأساليبه... إلخ، ولا يستوي المربي المعد والمزود بالخبرات والمعلومات، والمربي الذي يرتجل أعماله. ولذلك عُني القران بتزويد الدعاة والمربين بالتوجيهات والخبرات التربوية، وبيان طبيعة الدعوة، وطبائع المدعوين، وكيفيات التعامل معهم، وتحديد الغايات وأنواع الأعمال والبرامج للوصول إليها، كل ذلك لإكساب المربين الخبرة والدراية في مجال الاتصال والدعوة، والفقه فيهما. وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدرب أصحابه،ويزودهم بالخبرات والتوجيهات اللازمة، والمعلومات، ويصحح أخطاءهم، كل ذلك بطريقة علمية توجيهية، وبمواقف عملية تطبيقية؛ حتى تخرَّج من مدرسته علماء ذوي خبرة تربوية نادرة، أتقنوا التفاعل والاتصال ونجحوا في كسب الأفراد والجماعات، وإدخالهم في الإسلام، وتعليمهم إياه، فأحبهم الناس فأقبلوا عليهم. ونوضح ذلك بأخذ أحد النماذج من جيل الصحابة، لنتعرف على الخلفية والدربة اللتين تزود بهما من المربي الأول من الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا النموذج هو معاذ بن جبل، فقد وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم توجيهات عديدة، وأوصاه بوصايا جليلة، حتى تضلع بالعلم والحكمة، وبعثه للدعوة والتعليم، وصار يعلم الناس ويرعى شئونهم، وإليك أمثلة من خلفيته التي تلقاها من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن مواقفه وأحواله، نقلنا أكثرها من مسند معاذ ابن جبل رضي الله عنه، من كتاب المسند للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله أوصني. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت). قال زدني: قال: (أتبع السيئة الحسنة تمحها). قال زدني: قال (خالق الناس بخلق حسن).(1) وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده يوماً ثم قال: (يا معاذ إني لأحبك). فقال له معاذ: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا أحبك". قال:(أوصيك يا معاذ لا تدعنّ في دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).(2) وعنه أيضاً رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان، قال: (أن تحب لله،وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله. قال:وماذا يا رسول الله؟ قال: (وأن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك)(3). وعنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس قبل غزوة تبوك... فبينما معاذ على أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم... ناداه، فقال: يا معاذ، قال: لبيك يا نبي الله. قال: أدن دونك، فدنا منه حتى لصقت راحلتاهما إحداهما بالأخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أحسب الناس منا كمكانهم من البعد. فقال معاذ: يا نبي الله نعس الناس، فتفرقت بهم ركابهم ترتع وتسير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا كنت ناعساً. فلما رأى بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وخلوته له قال: يا رسول الله ائذن لي أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: سلني عما شئت.قال: يا نبي الله حدثني بعمل يدخلني الجنة، لا أسألك عن شيء غيرها. قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: بخ بخ بخ لقد سألت بعظيم، لقد سألت بعظيم(ثلاثاً) وإنه ليسير على من أراد الله به الخير. وإنه ليسير على من أراد الله به الخير. وإنه ليسير على من أراد الله به الخير فلم يحدث بشيء إلا قاله ثلاث مرات، يعني أعاده عليه ثلاث مرات حرصاً لكي يتقنه عنه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله واليوم الآخر، وتقيم الصلاة، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً حتى تموت وأنت على ذلك. فقال: يا نبي الله أعد لي، فأعادها ثلاث مرات ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت حدثتك يا معاذ برأس هذا الأمر، وقوام هذا الأمر، وذروة السنام. فقال معاذ:بلى بأبي أنت وأمي يا نبي الله فحدثني. فقال نببي الله صلى الله عليه وسلم: (إن رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وإن قوام هذا الأمر، إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإن ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله، إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويشهدوا أن لا إله إلا لله وأن محمداً عبده ورسوله، فإذا فعلوا لك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها،وحسابهم على الله عز وجل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل تبتغى فيه درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله، ولا ثقل ميزان عبد كدابة تنفق له في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله)(4) وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ أن يهدي الله على يديك رجلاً من أهل الشرك خير لك أن يكون لك حمر النعم)(5) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ( إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)(6) وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن فقال: (كيف تصنع إن عرض عليك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله. قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أجتهد رأيي ولا آلو.قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم)(7) وعن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق الشام فإذا أنا بفتى براق الثنايا،وإذا الناس حوله، إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقيل هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجَّرت فوجدته قد سبقني بالهجير، وقال إسحق: بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى إذا قضى من صلاته جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه فقلت له: والله إني لأحبك في الله عز وجل. فقال: آلله، فقلت: آلله. قال: آلله. قلت آلله. فأخذ بحبوة ردائي فجذبني إليه وقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيّ،والمتزاورين فيّ والمتباذلين فيّ)(8) اتساع الثقافة وتنوعها: بأن يتصف المربي بالمعرفة بالمسائل التي تقع خارج إطار تخصصه، وبالاطلاع الواسع في المجالات الشرعية والاجتماعية والأدبية والسياسية، وبالحرص على متابعة الأحوال والأحداث وخصوصاً في مجتمعه القريب. وقد دلت بعض الدراسات التي تمت لمعرفة العوامل المؤثرة في فعالية المربي وجاذبيته أن المعلمين الأكثر فعالية يملكون اهتمامات قوية وواسعة في المسائل الاجتماعية والأدبية ونحوها(9). ولقد كان المربون الأول يملكون هذه الخاصية، فهم متبحرون في كافة العلوم، فالفقيه لم يكن ذو ثقافة فقهية فقط بل كان متضلعاً في اللغة والأدب والسيرة والتاريخ، والمؤرخ كان مطلعاً على الفقه واللغة والجغرافيا والمذاهب، بل إن اللغوي كان ذا شأن في المسائل الفقهية والتاريخية والأدبية. كانوا مطلعين على كل ذلك فضلاًَ على إتقان الأساسيات كحفظ القرآن والتزود من التفسير والحديث، ومع أحوال المجتمع وأحداثه، ومستجداته السياسية والاقتصادية والتربوية وغيرها. وقد افتقد المربون هذه الخاصية في ها العصر - إلا ما شاء الله - وصاروا يتخصصون في مجالات ضيقة محدودة لا يخرجون عنها إلا نادراً، وأثّر هذا على طبيعة العلاقة بالمتربي، حيث صارت علاقة وظيفية روتينية جامدة، وصار من المستغرب جداً أن يخرج المربي أو المعلم عن نطاق مادته أو تخصصه، وتجد التلاميذ يستبشرون ويفرحون عندما يجدون أن المعلم - وإن كان معلم نحو أو فقه أو تاريخ - يتطرق للقضايا الاجتماعية والسياسية والأدبية الساخنة وغير الساخنة، تتطلع إليه نفوسهم، وتشرئب إليه أعناقهم، وتهوي إليه أفئدتهم،وقد يبنون معه علاقة حميمة، ويقتبسون منه خصالاً حميدة، بسبب طول باعه في العلوم، ومناقشته للأحوال والأحداث. وإذاً فالتربية الفعالة لا ترتبط فقط بتفوق المربي في ميدان تخصصه ومهنته، بل ترتبط أيضاً باتساع اهتماماته ومعلوماته، وبمتابعته المستمرة والواسعة لشؤون الناس والمجتمع والأمة. وكلما كان حظه في هذا أوسع كان إلى الاتصال بالناس أقرب وإلى التأثير عليهم أبلغ. المعرفة الواسعة بالطرف المقابل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمد اعتماداً كبيراً على هذه الخاصية في الاتصال بالمدعوين والمتربين، والتقريب إليهم والتأثير فيهم. فهو يعرف أسماءهم، وبعض خصائصهم، وأسماء قبائلهم، وتاريخ تلك القبائل وأسماء بلدانهم، وخصائص تلك البلدان، ويعرف مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهذا فيما يتعلق بالأبعدين والمستجدين، أما أصحابه ممن حوله، والمقرببين منه، فيعرف كل شيء عنهم تقريباً، حاجتهم واستكفاءهم، مرضهم وصحتهم، سفرهم وإقامتهم،ويعرف مستوياتهم الإيمانية والعلمية والعقلية والنفسية، ويعرف قدراتهم وحظوظهم في المجالات التربوية والقيادية والمالية والحكمية والدعوية، ويتحدث مع كل بما يناسبه، ويكلف كلاً منهم وفق خصائصه وقدراته؛ بل ويلقب بعضهم بما يتلاءم مع أبرز صفة فيه، فقد لقب أبا بكر بالصديق لقوة إيمانه وتصديقه، وعمر بالفاروق لقوته في الحق، وخالد بسيف الله المسلول لشجاعته وإقدامه، وهكذا. وشواهد هذه الخاصية في الرسول صلى الله عليه وسلم وأهميتها الدعوية والتربوية كثيرة جداً ونشير - هنا- إلى حديث مختصر جامع بيَّن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم خصائص مميزة لمجموعة من صحابته رضي الله عنهم: عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) (10). ولاشك أن الفرد كلما كان أعرف بالطرف المقابل كان إليه أقرب، وببره وصلته أحرى،وكذلك الطرف المقابل يبادله الشعور ذاته ويكون متقبلاً متأقلماً، بينما جهْل الآخرين أو تجاهلهم يبعث الوحشة والنفرة فيهم. عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)(11). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر)(12).
ــــــــــــــــــ (1) أخرجه أحمد، المسند:5/236، وأخرجه الترمذي،والحديث حسن صحيح. (2) أخرجه أحمد، المسند5/245. (3) أخرجه أحمد، المسند5/247. (4) أخرجه أحمد، المسند5/245، 246. (5) أخرجه أحمد، المسند5/238. (6) أخرجه البخاري، انظر ابن حجر، فتح الباري:3/418رقم الحديث(1496) (7) أخرجه أحمد، المسند:5/230 (8) أخرجه أحمد، المسند:5/233 (9) انظر عبد المجيد نشواتي، علم النفس التربوي ص 234، 235 (10) أخرجه ابن ماجة، انظر صحيح ابن ماجة بتحقيق الألباني: 1/31 حديث رقم (125) (11) أخرجه البخاري، انظر ابن حجر، فتح الباري: 6/426 رقم الحديث (3336). (12) أخرجه الترمذي، انظر التبريزي، مشكاة المصابيح: 3/1380 رقم الحديث (4934).