المشرف التربوي .. المسئول التربوي .. المربي ، مصطلحات مفادها البناء والتربية ولا مشاحاة في الاصطلاح فهي تصب في مصب واحد ومستقاة من معين واحد. لذا سنختصر التعبير بإحدى هذه المصطلحات في تقريب المراد. بداية لابد أن يستشعر المشرف التربوي ثقل الأمانة المناطة به، وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) [سورة الأحزاب: 72] إن أمانة التربية من الأمانات التي سوف يسأل عنها كل مشرف يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) [البخاري مع الفتح (583)، مسلم (1829). وقال : (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) [البخاري (13/113)، مسلم (142). إن هذه النصوص العظيمة لتحتم علينا استشعار الأمانة وتحمل المسؤولية، وبذل أقصى جهد في تربية ونصح وإرشاد من ولانا الله ولايتهم. إن حجم المسؤولية المناطة تحتم علينا أن يكون حجم التكليف والجهد ومباشرة الأعمال في المستوى المطلوب. إن هناك تناسب طردي بين حجم المسؤولية، وحجم التكليف والجهد ومباشرة الأعمال فكلما ازدادت المسؤولية في الإسلام تعاظم الجهد، وتفاقم التكليف، وظهرت المشقة ثم حصل الابتلاء والتشريف وفي التربية المادية نقيض ذلك تماماً فمع ازدياد المسؤولية يتضاءل الجهد والتمحيص ومباشرة العمل فالمسؤولية في المنظمة المادية ما هي إلا نوع من أنواع التشريف للتخفيف من أعباء العمل المباشر أما المسؤولية في الإسلام فتكليف يزداد معه العبء، ويزداد معه ثقل المراقبة والتبعات، وثقل المحاسبة بل والابتلاءات . وعندما يغيب هذا الفهم عند المربين ممن هم في مصاف الإشراف والمسؤولية ويصبح إشرافهم ومسؤوليتهم على الطريقة المادية فسيحصل الخلل: 1- فسيضعف الصبر عند المربي بكل معانيه خاصة (صبر الابتلاءات) لأنه ينجز الأعمال من خلال الآخرين. وبالتالي سيكون هناك حاجز بينه وبين العمل المباشر. 2- وسيضعف الإيمان ويضعف تجدده لأن الإيمان يزيد ويتجدد بمباشرة الأعمال الصالحة. 3- وسيضعف مفهوم التنافس على درجات الجنة لانعدام أو قلة مباشرة الأعمال 4- وستحدث الوساطة في التربية والإتكالية المقيتة على الصف الثاني في كل صغيرة وكبيرة مما يسبب لهم سلبيات خطيرة وأمراض قلبية عصية من عجب وغرور وكبر وكمال زائف ومشيخة مبكرة وغير ذلك إلا ما شاء الله. 5- وسيضعف تواجد المشرف في المحضن فينتج منه فقدان القدوة العملية. وما هذه إلا بعض آثار ذلك الشروخ في مفهوم الإشراف التربوي. إن المشرف الحقيقي في العمل التربوي هو ذلك الأكثر مسؤولية من بين جميع الأفراد وهو مع ذلك أيضاًَ الأكثر جهداً وعملاً ومشقة، ومتى تخلف أحد الأمرين زال هذا اللقب ولم يكن له رصيد في الواقع. إن من المؤسف جداً أن ترى بعض المشرفين وقد تأثروا بتلك التربية المادية فأصبح الإشراف التربوي عندهم لا يعد أكثر من أوامر وتعليمات يصدرونها وتقارير فصلية يستقبلونها عن المحضن، وحضور في المناسبات المهمة وشماعتهم في ذلك التفويض. إن التفويض اليوم قد أخذ أكبر من حجمه، وأصبح شماعة للكسالى والعاجزين إني لا أقلل من مبدأ التفويض فله أهميته وحاجته إلا أننا نخطئ عندما نجعله هو كل شيء في تربيتنا. "هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى مقامات الإشراف لم يكن يلجأ للتفويض إلا في المهام المحددة اليسيرة التي كان غالباً ما يضبط زمنها كذلك، وجهتها، وهدفها، وعدد أفرادها، كما كان يحدث في السرايا بينما كان يخوض بنفسه غمار الموت في المعارك، ويصاب ويجرح، ويتألم ويبكي، ويصبر، ويتجرع غصص الآلام في سبيل الله تعالى، ثم يواصل المسير، ولقد مشى إلى الطائف صلى الله عليه وسلم وحده، وبايع أهل العقبة في تلك الليلة وحده، ولربما سمع الهيعة في جوف الليل فخرج وحده، وكان بمقدوره التفويض. بل كان أصحابه من حوله يستحثونه على تكليفهم ويتطلعون بشغف إلى تفويضه لهم، ويتطاولون بأقدامهم حباً في تنفيذ أوامره صلى الله عليه وسلم وتلبية مطالبه. وقد وعى هذا الدرس العظيم في الإشراف أصحابه من بعده، فهذا أبو بكر رضي الله عنه في أعلى درجات الإشراف يقم منزل امرأة عجوز، ويسير حافياً بجنب أسامة رضي الله عن الجميع ويباشر أمور المسلمين بنفسه. وذاك عمر في أعلى مقامات الإشراف يطارد بعيراً ند عن إبل الصدقة في حر الهاجرة، ويتعاهد الأرملة والمسكين، ويتفقد ابن السبيل، ويقطع الليل في السير بين البيوت، وخارج المدينة يعس بنفسه، وسائر القوم نائمين. ويقيم الحدود، ويؤدب أهل السوق وحده، ويخوض مخاضة الشام بقدميه وهو ممسك زمام ناقته وعليها خادمه رضي الله عنه وأرضاهم ولم يكن ذلك لينزل من مكانتهم نظراً لهذه الموازنة الرائعة بين حجم المسئولية ومباشرة الأعمال الصالحة، كما لم يحط ذلك من قدرهم لما أحكموا بدقة ميزان المسئولية وتبصروا عظم التكليف الذي تحملوه". (تربية العظماء ص123، جمال بن فضل الحوشبي).
فوائد مهمة: 1- نحن هنا لا نطالب بالمركزية في كل الأمور ونبذ التفويض ولكن نطالب بالموازنة في ذلك أما أن تكون المركزية هي المسيطرة دائماً فهذا خطأ ويسبب هدر للطاقات وقتل المواهب وكذلك أن يكون التفويض في كل شيء فهذا خطأ أيضاَ حيث تسبب ما ذكرناه آنفاً. 2- لابد من الموازنة بين حجم المسئولية وحجم الجهد ومباشرة الأعمال فمن الخطأ أن تعظم المسؤولية فتسوغ للمشرف الجلوس والقعود بحجة ثقل المسؤولية وأنها تحتاج إلى تفكير وارتقاء وتطوير وحل للمشكلات وغير ذلك وهذه وغيرها تحتاج إلى ذهن صافي وفكر هادئ وبعد عن مباشرة الأعمال التي تشغل المشرف وتنسيه هذه المعاني. وفي المقابل من الخطأ تعظيم المركزية والانغماس في مباشرة الأعمال صغيرها وكبيرها وتجميد الطاقات ودفن المواهب. إننا بحاجة ماسة إلى تلك الموازنة الرائعة بين حجم المسؤولية ومباشرة الأعمال. إن الصدق يلعب دوراً كبيراً في هذه القضية فالمشرف الصادق هو الذي يتجرد فعلاً عن تلك المركزية المقيتة ويسعى في إنشاء جيل جديد يحمل من ورائه راية الدين فهمه هذا لا يجعله يحتكر كل شيء. وكذلك المشرف الصادق هو الذي يستشعر عظم المسؤولية وثقل الأمانة المناطة به فيدفعه ذلك إلى مباشرة الأعمال ولإنقاذ نفسه من الهلاك وتكفير السيئات والفوز بالدرجات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ملاحظة: هذا المقال مستفاد من كتاب (تربية العظماء)، جمال الحوشبي