لا ندري كيف نكتب ؛ ودموعنا تسبق كلماتنا , كيف نجلس على مقاعدنا والشيخ يرتفع إلى عنان السماء , كيف تطيب للأمة أن تقر عيونها , ورموزها يستباح دمها الطاهر هنا وهناك .. لم تعد اليوم قعيدا .. الأمة كلها مشلولة وأنت وحدك تتحرك وتسمو إلى العلا. نعم قتلوا الرمز والقائد والزعيم والحبيب وقرة العين ومهجة القلب, وإن كانوا قتلوه ,لقد هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل فأمكن الله منهم .. وإن كانوا قتلوه فقد قتلوا أنبياء الله من قبل... ولئن كانوا قد فعلوا , فهم أهل كل خسة وكل نذالة و كل حقارة .. وما العجب أن تصدر الخسة من أهلها , وإنما الذي يحرق صدورنا أن تسلمه الأمة هكذا , وهو رمزها وقائدها وزعيمها.. استشهد شيخ فلسطين , وبالتزامن مع جنازته العارمة كانت هذه الوقفات : أولاً : قصد الكيان الصهيوني بقتل الشيخ أن يفرغ فلسطين من رمزها الكبير , وخصوصا غزة التي أصبحت دولة حماس أكثر من أي فصيل آخر , استباقا للانسحاب المفترض من غزة. ثانياً : ومن الناحية السياسية البحتة , فقد ارتكب شارون أكثر مواقفه رعونة في تاريخه الدموي , إذ يتوقع على نطاق واسع أن يزيد ذلك من شعبية هذه الحركة المجاهدة التي تدفع بمهج قلوبها إلى الشهادة ولا تتاجر بالشهادة على النحو الذي شهده العالم في تمثيلية 'شهيدا ..شهيدا .. شهيدا' التي أداها رئيس السلطة الفلسطينية ببراعة في رام الله قبل نحو عامين. ثالثاً : وكما يقول صاحب الظلال فـ'إن الناس كلهم يموتون , إلا الشهيد فإنه يستشهد' , يستشهد على حال أمته , ويستشهد على بذله ويستشهد على حياته النضالية كلها , ومعنى ذلك أنه يسطر بدمه الطاهر أجندة مرحلة نضالية جديدة, وهذا بالضبط حال الشيخ الشهيد ـ نحسبه كذلك ـ فاستشهاده على هذا النحو سيرتفع بحال المقاومة الفلسطينية لآفاق ما كانت تصل إليها لولا هذه الدماء التي يدفعها أصحابها دون ضجيج أو استعراض. أيظن شارون وكل الذين شاركوه من الأمريكيين والرسميين العرب أنهم سيهنئون بارتقاء الشيخ , لا وألف لا .. بل 'لا' تحملها الملايين الغفيرة التي خرجت وراء الشيخ في جنازته .. الأمة الإسلامية لم تنس يحيى عياش ولا إبراهيم المقادمة ولا صلاح شحادة .. بل وهل نسي العالم أن باغتيال الشهيد حسن البنا قد امتد أثره لأكثر من خمسين عاما , هل يدرك الحمقى أنه لو اغتيال البنا وتلاميذه لما جاء ياسين وتلاميذه وأن دماء البنا ما زالت تروي أرض الكنانة كما ستظل دم ياسين تروي أرض الرسالات , فعلى خطى الشهيد سيسير ألف شهيد , وروح شهيد فلسطين , وإن علت ستظل تحفز كل من مشى في طريق التيه العربي أن سبيل الشيخ هو السبيل الحق. رابعاً : ندرك جميعا أن أطرافا أمريكية وعربية لا شك قد أبلغت بهذه الجريمة التي تتنافى تماما مع حقوق إنسان قعيد لا يستطيع أن يحرك سوى رأسه , لكننا ندرك أيضا أن مكر أولئك هو يبور , وأن هذا الدين يجري بقدر الله وتام رغم أنف كل كفور { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} , وندرك أن حقوق الإنسان يخاطب بها الأناسي ؛ أما من عدموا إنسانيتهم وفارقتهم دماء البشر فلا نتوجه إليه بكلام. بالطبع , فإن هذه الجريمة لا يمكن فصلها عن رغبة تل أبيب في 'ترتيب الأوضاع في غزة' قبل تسليمها لغيرها , ولا يمكن كذلك فصلها عن عجز واشنطن في أفغانستان والعراق , لا يمكن فصلها عن إخفاق القوم في نيل 'صيدهم الثمين' فداروا عجزهم باستهداف 'الصيد الثمين جدا , والسهل جدا في آن معا'. خامساً : إنها رسالة إذلال لـ'القمة العربية' التي تلتئم أواخر الشهر الحالي , ولقد دأب على ذلك شارون دوما , فقبل أيام 'القمة السابقة' كان الكيان الدموي يدمر جنين فوق رؤوس أهلها واليوم يعيد كرته الخبيثة المهينة , ولعل الشعب العربي يحتاج اليوم لأن يصرخ في وجه قياداته :'بالله عليكم لا تجتمعوا ' 'لا تفجعونا باجتماعاتكم العقيمة'. سادساً : هل يعلم الآن جميع ساستنا كم تحب شعوبنا المسلمة من اختط طريق النضال , هل يدركون بأن فلسطين خرجت شيوخها وأطفالها ونساؤها وشبابها حبا لمن توافق أقواله أفعاله ؟ هل يعلمون كم خرج بجنازته وكم سيخرج في جنازاتهم ؟ ربما لا يدركون ولا يفهمون , فإن مسألة الآخرة والعمل لها شأن أهلها وحدهم. سابعاً : سيكون من الطبيعي أن تحدث ردود أفعال في مجمل أرض فلسطين الحبيبة , لكن الذي لا يفهمه بوش وشارون أن العالم الإسلامي سيدخل مرحلة جديدة من الكراهية لهم لن يحدها حد بشري , وأن ما يسمونه بالعمليات الإرهابية ستتخطى آفاقا لا تحتملها مخيلاتهم . إن أهمية الحدث في كونه تجاوز سفسطة بوش وعصابته بشأن استهداف الإرهابيين ـ والإرهابيين فقط ـ , فالحديث عن استهداف زعيم روحي مقعد ينسف ما تبقى من منطق بوش وشارون , ويضع فوهات البنادق في وجه شارون وصديقه الأمريكي , إذ إن وضع الشيخ ياسين مع زعيم القاعدة أسامة بن لادن في سلة واحدة , تلك السلة التي وضع فيها الرجلين مسؤول صهيوني صرح بأنه 'تم اغتيال بن لادن فلسطين' , لن يسهم إلا في تأجج مشاعر الغضب وتوافر مقومات الوحدة بين الفصائل المقاومة للهيمنة الأمريكية أيا كانت مشاربها وأيا كانت أيديولوجيتها. ثامناً : إن بعض ردود الأفعال الرسمية العربية , فضلا عن أنها كانت مخزية ؛ فإن سرعتها الشديدة توحي ـ ربما ـ بأن البعض لم يكن بعيدا عن العملية , إذ مَرَدَ هؤلاء على تأجيل ردود الأفعال لحين الاستئذان من 'السيد الأمريكي'. تاسعاً : نتوقع ـ ولله الأمر من قبل ومن بعد ـ أن العملية ستكون مؤذنة بمرحلة جديدة من الصراع الإسلامي الصهيوني , وسيكون لها تداعيات قريبة نوعا ما من تداعيات 11 سبتمبر , ونريد هنا أن نذكر بأن العمليات التي نفذت في العام 1996م إثر اغتيال مهندس الانتفاضة يحيى عياش قد ضاعفت من قوة حماس كثيرا جدا , وأن هذا الحادث الجلل سيضاعف من قيمة النضال مرات ومرات وذاك قدر الله فيمن مات شهيدا وتلقته الأمة كلها بالقبول [ولشيخ الإسلام كلام طيب في هذا الخصوص حول سؤال بشأن إجماع الأمة على خيرية مسلم ـ كابن المبارك وغيره ـ هل يعد ذلك دليلا شرعيا على الجزم له بالجنة , فليراجع في مظانه]. عاشرًا : الشيخ أحمد ياسين وسط هذا الضجيج , أتراه قد استراح ؟ ما نظن إلا ذلك .. فلقد مضى بعد أن صلى الفجر وختم الصلاة من مسجد المجمع الإسلامي .. من ذات المسجد الذي أسس فيه دعوته المباركة , وأذن فيه لانتفاضة الخير أن تقوم .. ليهنأك البيع شيخنا العظيم .. ليهنأك الشهادة من أهل الخير .. لتهنأك الشهادة إن شاء الله. من مسجد المجمع الإسلامي كانت البداية , ومنه كان الارتقاء , وفي المسجد العمري كان الوداع .. وبين المسجدين يختزل تاريخ فلسطين الأثيل. 'وإنا لله , وإنا إليه راجعون' { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا , بل أحياء عند ربهم يرزقون , فرحين بما آتاهم الله من فضله , ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون , يستبشرون بنعمة من الله وفضل , وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين }.