بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على رسولنا محمد و على آله و صحبه أجمعين. قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة البقرة:185]، إن من النعم التي أكرم الله بها عباده و أقرّ أعين المؤمنين بها أن بلّغهم شهر رمضان, هذا الشهر الفضيل الذي ُأنزل فيه القرآن العظيم على محمد صلى الله عليه و سلّم هو من خصائص الدين الإسلامي التي جمعت كل العبادات من صلاة و صيام و ذكر وصدقة و عمرة إضافة إلى تبني مكارم الأخلاق و أعفّها و أنبلها. قال عليه الصلاة و السلام : «الصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم » [رواه البخاري ومسلم.] و قد و عد الله عز وجل من قامه حقّ قيامه بالعتق من النار و المغفرة و الأجر الكريم. قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري ومسلم]. فطوبى لمن عرف كيف يقوم رمضان و أحسن استغلاله في طاعة الرحمان.و ياحسرة من ضيّعه و زادته غفلته بعدا عن الرحمان. و ما أشد حسرة من ضيعه و هو له آخر رمضان. من خلال هذا الموضوع – الذي أسأل الله أن يكون خالصا لوجهه الكريم- أريد أن أستعرض محنة طائفة من المسلمين عاشت دهرا طويلا في أرض كانت إسلامية تُدعى الأندلس. و قد غلب الكفار سنة 1492م على أرضهم فساموهم سوء العذاب و أرغموهم على التنصّر واعتقاد الكفر و التثليث و أكل لحم الخنزير و شرب الخمر و التسمّي بالأسماء النصرانية و لباس الزي النصراني ..., هذا و أجبروهم على التنصّل من كل اعتقادات المسلمين و التخلي عن المظاهر الإسلامية الظاهرة و الباطنة. و قد حكموا على من خالف ذلك بالموت شنقا وحرقا أو بالسجن المؤبد أو المؤقت أو بمصادرة الأموال أو بالأشغال الشاقة و....و ...و لائحة الإرهاب النصراني طويلة. و قد أطلق النصارى الإسبان على هذه الطائفة من المسلمين اسم "الموريسكيون" Moriscos أي "المسلمون الأصاغر" تمييزا لهم و تصغيرا من شأنهم. كما أطلقوا عليهم اسم " النصارى الجدد" Cristianos nuevos. و بما أننا في شهر رمضان المبارك فقد اخترت أن أتناول حياة هؤلاء المسلمين -الذين عاشوا كنصارى ظاهرا و مسلمين باطنا – في شهر رمضان. كيف كانوا يرون رمضان؟هل كانوا يصومونه ؟ كيف كانوا يعيشونه؟ ماذا لحقهم جرّاء ذلك؟ إلى غير ذلك من الاستفسارات التي قد تُطرح عن حياة هاته الفئة من المسلمين التي –صراحة- تجاهلها المؤرخون المسلمون و كما ستلاحظون فأغلب الوثائق التي سأنقلها ذات مصدر إسباني و محفوظة في أرشيفهم. و لعل هذا أوّل موضوع من نوعه يتطرّق بصفة شبه مفصلة لحياة المورسكيين في شهر رمضان وما لقوه من شدة و محنة في سبيل صيام و لو يوم واحد منه دون أن يلحقهم أذى النصارى. 1- لمحة تاريخية : سقطت دولة الإسلام بالأندلس سنة 1492م بتسليم أبي عبد الله ابن الأحمر –غفر الله له- مدينة غرناطة آخر معقل إسلامي بالأندلس إلى الملكين الكاثوليكيين فرديناند و إيزابيلا – عليهما من الله ما يستحقان- فرفعا الصليب على أعلى أسوار قصر الحمراء و أدى النصارى صلاة الحمد شكرا للرب على هذا الفتح -زعموا – , و قد وعد الملكان الكاثوليكيان في اتفاقية تسليم غرناطة المسلمين باحترام دينهم و تركهم أحرارا في اعتقادهم و عباداتهم. لكن ما أن غادر أبو عبد الله قصر الحمراء حتى حُوّلت مساجده إلى كنائس و قد كان هذا أول ناب كشّر عنه النصارى في خطة افتراس الأندلسيين. أما الناب الثاني فقد كشّروا عنه سنة 1499م بإصدار مرسوم ملكي يقضي بتنصير المسلمين و تعميدهم قسرا و تخليهم عن أسمائهم و أزيائهم الإسلامية و لغتهم العربية و كل ما يمتّ للإسلام بصلة. فرفض أهل الأندلس هذا القرار فثاروا في غرناطة لكن ثورتهم أٌخمدت . و أمام إصرار النصارى على تنصيرهم عاش الأندلسيون حياة مزدوجة فهم ظاهرا نصارى و باطنا مسلمون. و أنشأ الأسبان محاكما للتفتيش لمراقبة تصرفاتهم و محاكمة كل من يتشبت بالإسلام. و استمر الأندلسيون على هذا الحال حتى سنة 1567م حيث أصدر الملك فيليب الثاني قرارا صارما بالتشديد على الأندلسيين و عدم التسامح مع من يٌبدي أي مظهر من مظاهر الإسلام فقام الأندلسيون سنة 1568م بثورة كبرى في غرناطة استمرت 4 سنوات انتهت بقمعها و اشتداد الوطأة على الأندلسيين الذين ظلوا رغم كل ذلك يحفظون شيئا من الإسلام. و جاءت سنة 1609م التي شكلت سنة الفرج للأندلسيين حيث أعلن الملك فيليب الثالث بإيعاز من القساوسة قرارا بطرد كل الأندلسيين من إسبانيا حفاظا على وحدة العقيد ة الكاثوليكية الإسبانية من خطر"المورسكيين" الذين لازالوا مسلمين يحملون دين محمد صلى الله عليه و سلم. و بالفعل تمّ طردهم إلى شمال إفريقيا حيث بلاد الإسلام و هكذا أنجاهم الله عزّ و جل من الكفر النصراني. 2- رمضان عند المورسكيين حاول المؤرخون الإسبان الذين عاصروا المورسكيين بإسبانيا رسم صورة لحياتهم الدينية السرية و قد خرجوا جميعا بخلاصة مفادها أن صيام شهر رمضان و احترامه و تعظيمه هو أكثر ما تشبّت به المورسكيون رغم مرور العقود على تنصيرهم . يقول المؤرخ الإسباني بورونات إي باراتشينا (Boronat y Parrchina) محاولا رسم صورة عن حياة المورسكيين الدينية كما كانوا يؤدونها خفية عن أعين الوشاة النصارى , وقد أورد عدة مظاهر أساسية في حياة المسلمين بينها الصيام حيث ذكر عن شهر رمضان :" و مدته ثلاثون يوما, لا يأكل المسلم خلال اليوم إلا في الليل عند بزوغ النجم, وفي كل ليلة يتسحر المسلم, فيأكل بقية ما خلفه في أكل الليل. يأكل قبل الفجر و يغسل فمه و يؤدي الصلاة, ويتطهر المسلم قبل بدئ رمضان. يبدأ الصوم برؤية الهلال و ينتهي برؤية الهلال. بعد ذلك ينتظر أحد عشر شهرا, و الشهر الثاني عشر يكون هو رمضان, بحيث أن رمضان يبدأ قبل رمضان السابق له بنحو عشرة أيام, إذ هكذا يكون حساب الأهلة. بعد أن ينتهي شهر رمضان – و مدته ثلاثون يوما – يحتفل المسلمون بعيد الفطر. و في أول أيام العيد يُقبّل الابن المسلم يد أبيه و يطلب منه أن يُسامحه, و الآباء يباركون الأبناء فيضعون أيديهم على رؤوسهم و يقولون "جعلك الله مؤمنا (أو مؤمنة) صالحا (أو صالحة)" , و يطلب كل مسلم من أخيه المغفرة قائلا :"غفر الله لي و لك".(1) و استخلصت الباحثة الإسبانية غارسيا مرثيدس أرينال بعض طول دراسة لمحاضر محاكم التفتيش الإسبانية أن: " العبادات الأكثر رسوخا في حياة المورسكيين , و التي يتردد ذكرها في كل محاضر التفتيش تقريبا, هي صيام رمضان و الطهارة و الصلاة." و واصلت الباحثة "و بدون أدنى شك, صيام رمضان هو العبادة الدينية الأكثر تأصلا في حياة المسيحي الجديد, و في الغالب هي أكثر عبادة يحافظ عليها الجميع. و يمكن القول بأنه أخر مظهر إسلامي من حيث التلاشي...فصيام رمضان كما تصفه المحاضر, يرتكز أساسا على الإمتناع عن الطعام و الشراب و المحافظة على ذلك من الفجر إلى الليل عندما تطلع النجوم خلال شهر رمضان بأكمله. على وجه التحديد, طابع الرفض و الإمتناع في الصيام, مثل ذلك طابعه الجماعي, يجعل منه العبادة الإسلامية الأكثر تأصلا, و بالتالي الأكثر تميزا" (2). أما الباحث الإسباني الشهير خوليو كارو باروخا فقد ذكر نقلا عن كتاب "سرفنتس و المورسكيون:" أنه في بداية القرن السابع عشر كان أهل مرسية و جيان و من بقي في غرناطة يصومون رمضان." (3) أي بعد 110 سنوات على سقوط غرناطة حافظ الأندلسيون على صيام رمضان. و هذا إن كان يدلّ على شيء فإنما يدل على عظم مكانة هذا الشهر عندهم رغم بطش النصارى بهم و ليعتبر اليوم من فرّط في صيام رمضان. 3- تشوق المورسكيين لرمضان. شكلت مراقبة هلال رمضان للأندلسيين مهمة محفوفة بالمخاطر نظرا لانتشار أعين الوشاة الذين يترصدون الحركة الكبيرة و الصغيرة التي قد توحي بأن فاعلها مسلم. لكن شدة شوقهم لصيام رمضان كانت أكبر من خوفهم من النصارى فصعدوا إلى المرتفعات لرؤية الهلال حرصا على صيام رمضان في وقته الشرعي. في هذا الإطار تروي الباحثة الإسبانية أرينال نقلا عن محاضر محاكم التفتيش بكوينكا:"يبدأ الصيام بظهور هلال رمضان الذي كان يدور حوله توقع كبير. و كان هناك قلق عند انتظار الهلال و مراقبته, و كانوا ينقلون خبر ظهوره بين القرى المجاورة و يتناقشون حوله. و تسبب هذا الاهتمام بهلال رمضان في محاكمة عدد ليس بالقليل من المورسكيين. تجدر بالذكر حالة ديثا, ففي عام 1570م (أي بعد 78 سنة على تنصير المسلمين) تم القبض على نصف القرية لأنهم خرجوا إلى أماكن الفضاء لرؤية ظهور هلال رمضان, و لما دار جدل حول ما إذا كان الهلال ظهر أم لا انقسموا إلى جماعات متفرقة و بدأت كل جماعة تدافع عن موقفها بصوت عال, و بالبتالي علمت السلطات و قبضت عليهم.(4) و الحالات التي يظهر فيها المورسكيين و هم يستطلعون الهلال عديدة: ماريا دي أليخير (Maria de Aliger) من ديثا-(5) : "لشغفها بمعرفة متى سيبدأ شهر رمضان حتى تصوم, قالت لأحد المورسكيين إنها ذهبت لرؤية الهلال في فضاء هذه القرية". و خيرونيمو, نقاش أركوس, رآه جاره ذات ليلة و هو ينظر إلى الهلال و قال له هذا الشاهد : إلام تنظر و ما الذي جاء بك إلى هنا؟ قال هذا النقاش : إنه جاء لرؤية الهلال, قال الشاهد: تريد أن تصوم؟ قال له النقاش: أجل فهناك في أراغون يصوم الجميع" (6) 4- محنة الأندلسيين لصيام رمضان لتسهيل الوشاية بالمسلمين من طرف النصارى و لمنعهم من أداء شعائرهم الإسلامية, نشرت السلطات الكنسية التابعة لمحاكم التفتيش لائحة طويلة من ستة و ثلاثين مظهرا من المظاهر الإسلامية التي وجب الإخبار عنها و منها:
الهوامش
بقلم /أبو تاشفين هشام بن محمد المغربي. كاتب بمجلة أنا المسلم الإسلامية متخصص في شؤون المسلمين الأندلسيين.