تعليمنا والعلم المفقود

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د. محمد بن عبدالله الدويش | المصدر : www.almurabbi.com

إن المتأمل في التعليم السائد اليوم: سواءً كان على مقاعد الدراسة، أو حتى في حلق العلم ودروس المساجد؛ يرى أن هناك إهمالاً عند الكثير في العناية بتعليم الرقائق والأدب والسلوك، وأنهم شغلوا كثيراً بتعلم المسائل والخلافيات وآراء الرجال، وصار الحديث في هذه القضايا من اختصاص الوعاظ القصاصين وحدهم، لذا غلبت علينا قسوة القلب، وفعلت الأهواء بنا ما فعلت إلا من رحم ربك، وهذه إشارات عاجلة تؤكد أهمية العناية بهذا الجانب من العلم، وضرورة تقريره ضمن مناهج التعليم؛ إن كنا نريد أن تخرِّج لنا هذه البرامج علماء ربانيين.
إن هذا المطلب الملح تدفع إليه الحقائق الآتية:

• أولاً: طالب العلم داعية ومعلم بفعله قبل قوله:
إن طالب العلم وهو يسعى لنشر الخير والعلم لدى الناس، لا يقف دوره على مجرد تبليغ المسائل بقوله، بل يجب أن يرى الناس ذلك من خلال سلوكه وسمته، لهذا قال أبو العالية: "كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء لم نأخذ عنه".[رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل 409].
بل كان السلف يعدون تعلم هدي العالم وسمته مطلباً أعلى من تعلم المسائل، قال إبراهيم: "كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله".  [جامع بيان العلم وفضله 1/127].
وقال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم". [جامع بيان العلم وفضله 1/127].
وروى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن: "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث".  [جامع بيان العلم وفضله 1/127].
وأوصى حبيب الشهيد -وهو من الفقهاء- ابنه فقال: "يا بني اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم؛ فإنه أحب إلي من كثير من الحديث". [جامع بيان العلم وفضله 1/127]. فكم يترك أثراً على تلامذته، وعلى عامة الناس من خلال هديه وسمته، وسلوكه وعمله، بل وكم يمحو الخلل في سلوكه الكثير الكثير مما يدعو الناس إليه بقوله.

• ثانياً: عوائق في وجه طالب العلم:
يتعرض طالب العلم لمزالق خطيرة، وعوائق تعرض له كما تعرض لسائر الناس، بل هي ربما كانت في حقه أخطر، ومنها:
1- الإعجاب بالنفس، وهذا -عافنا الله- عنوان الضلالة، وبداية الشطط والانحراف، وليس أدل على ذلك من أن الشيطان إنما طرد من رحمة الله وكتبت عليه اللعنة إلى يوم الدين بسب العجب والغرور الذي قاده للاستكبار عن أمر الله، قال الغزالي: "والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل: الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها، كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب". [إحياء علوم الدين 1/49].
2- الحسد، وهو خصلة ذميمة، وصفة قبيحة، يسعى الشيطان إلى إهلاك الصالحين بأن يقذفها في قلوبهم.
3- الهوى، وحين يستحكم بصاحبه يريه الحق باطلاً، والباطل حقاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً.
4- لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق، ولهذا أخذ الله المواثيق على الذين آتاهم العلم: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين آتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) [آل عمران:187]، وتوعد الذين يكتمون العلم فقال تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) [البقرة:159]، ولم يقبل تبارك وتعالى توبة هؤلاء إلا بشرط البيان فقال: (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) [البقرة:160].
5- التوصل بالعلم للأغراض والمكاسب الشخصية، ولهذا توعد الله تبارك وتعالى أمثال هؤلاء الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار) [البقرة:175]، ولله در الجرجاني رحمه الله حين قال:

 

 

 

يقولون لي فيك انقباض وإنما * رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم * ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما * بدا طمع صيرته لي سلماً
إذا قيل هذا مورد قلت قد أرى * ولكن نفس الحر تحتمل الضما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي * لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة * إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم * ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا * محياه بالأطماع حتى تجهما

 

 

 

 

 

 

وليس المقصود هنا تعداد الآفات التي يمكن أن يقع فيها طالب العلم، فهذه أمثلة تدل على ما سواها، ونماذج تذكر بأخواتها، فما السبيل لتجاوز هذه الآفات؟ وما الطريق لاجتنابها؟ وهل نحن نعلم طالب العلم ما يكون له وسيلة لتجاوزها؟ أم أننا نعنى بإعطائه الأداة ونهمل بناء النفس التي تحمله؟

• ثالثا: صفات أهل العلم في القرآن:
إن التعلم يهدف للرقي بالمرء إلى منازل أهل العلم، فما صفاتهم في كتاب الله عز وجل؟
أ-فهم يسجدون لله ويخشعون ويبكون حين يسمعون آياته: (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليه يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً . ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) [الإسراء:109]، إنه ليس هدياً خاصاً بهذه الأمة؛ بل هو سنة في من كان قبلنا.
وقال عبدالأعلى التيمي: "من أوتي من العلم مالا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم قرأ القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً* وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ). [الإسراء: 108- 109]". [أخرجه الدارمي 296].

 ب-والعلماء هم أهل الخشية لله سبحانه وتعالى: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ إن الله غفور رحيم) [فاطر:28].
ج-والذين يعلمون يقنتون لله سجداً وقياماً، يحذرون عذابه ويرجون رحمته: (أممن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) [الزمر:9].
أليس من واجب طالب العلم أن يتصف بهذه الصفات، وأن يتطلع إلى هذه المنازل؟!. فهل في تعليمنا ما يحققها لديه ويغرسها في نفسه؟!. ونعوذ بالله إن كان فيه ما يمحو بقية أثرها ويزيله فهذا عنوان البوار والهلاك.

• رابعاً: العناية به في عصر النبوة:
ويصور لنا ذلك أحد شبان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يعنون بتعلمه، فعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً". [رواه ابن ماجه 61].
 فهو يذكر لنا رضي الله عنه جانباً هاماً من جوانب التعلم، والتي قد غفل عنها كثير من طلبة العلم اليوم، فأهملوا تعلم الإيمان ومسائله، وشعروا أن العلم إنما يتمثل في تعلم مسائل الأحكام وحدها، والعناية بجمع آراء الرجال واختلافهم حول مثل هذه المسائل، ونسي أولئك أصل الأصول وأساس الأسس، لذا فلا نعجب حين ندرك هذا الخلل؛ أن نرى عدم التوافق بين ما يحمله بعض الناس من العلم وبين سلوكه وسمته.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: "هذا أوان يختلس العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء"، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله، وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فو الله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا. فقال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فما ذا يغني عنهم؟!.
قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت، قال: قلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء، فأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً". [رواه الدارمي 293].
وانظر رحمك الله كيف عد عبادة بن الصامت رضي الله عنه الخشوع علماً، وأنه أول علم يرفع.
ويحكي لنا حنظلة رضي الله عنه صورة من مجالسهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إذ يقول: "لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟!.
قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده: إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة. ثلاث مرات". [رواه مسلم 2750].
والشاهد من الحديث: أن تلك المجالس التي كانوا يجلسون فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت تبلغ بهم إلى هذه الحال.

• خامساً: عناية السلف به:
ولقد كان السلف رضوان الله عليهم يعنون بذلك، فها هو ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "ليس العلم بكثرة الروية، إنما العلم خشية الله". [جامع بيان العلم وفضله 2/ 52].
ومالك رحمه الله يقول: "العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل".  [جامع بيان العلم وفضله  2/ 52].
 وقال أيضاً: "إن حقاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله". [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع  1/ 156، وانظر: آداب طالب العلم لمحمد رسلان].
وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟! قال: "أتقاهم لربه". [أخرجه الدارمي  300].
ولعل من صور عناية السلف به: أنك لا تكاد تجد كتاب حديث يخلو من أبواب الزهد والأدب والرقاق، بل وصنفوا مصنفات خاصة في ذلك:
= كالجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب .
= والمحدث الفاصل للرامهرمزي .
= وجامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر .
= وأخلاق العلماء، وأخلاق أهل القرآن، كلاهما للآجري .
فهل نعيد الاعتبار لهذا العلم المفقود؟!.