الشعوب أمانة.. والمسلمون أهلٌ لحمل هذه الأمانة.. هذا ما نفهمه من قول موسى لفرعون: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} [الدخان:18].. أدوا إلي أمانة الشعب.. رُدوا إلي حقي في الولاية على بني إسرائيل. وقوله عز وجل: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} معنى (أدوا): ادفعوا إليَّ، وهو نحو قوله تعالى: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء17]. قال مجاهد: أرسلوا معي بني إسرائيل([1]). قال قتادة: يعني: به بني إسرائيل، قال لفرعون: علامَ تحبس هؤلاء القوم؟ قوما أحراراً اتخذتهم عبيداً! خلِّ سبيلهم... قال ابن يزيد: ردَّهم إلينا. وقوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان: 18]... يقول: أمين على وحيه ورسالته التي أوعدنيها إليكم([2]). وقد انتقلت الولاية من موسى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على جميع البشر، وهذا ما أثبته سياق سورة الأعراف: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شئتَ أهلكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155]. فقد تضمن قبول الله لتوبة بني إسرائيل نقل الولاية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء بعدها: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ الأعراف: 156، 157]. ولذلك يأتي الإعلان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل الولاية إلى أمته بصفته النبي الأمي: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. وانتقال الولاية إلى أمة الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة الأمية هو الذي يحقق التناسب بين الدعوة وجميع البشر بكل مستوياتهم العقلية والثقافية؛ لأن الأمية في منهج الدعوة ليست مستوى معرفي ولكنها أسلوب دعوي.. فنحن قوم أميون باعتبار أسلوب الدعوة الذي نراعي فيه كل هذه المستويات.. ابتداءً من التفهيم بالإشارة؛ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ فَقَالَ: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ «فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ» (2) وهذا يمثل الحد الأدنى لجميع العقول التي نتعامل معها في دعوتنا. وكما أثبت سياق سورة الأعراف انتقال الولاية من خلال شخص الرسول عليه الصلاة والسلام.. أثبتت آيات سورة الإسراء انتقال الولاية من خلال القرآن. فأثبتت آيات الإسراء في البداية الولاية لبنى إسرائيل.. بعد إهلاك فرعون، ثم تقف الآيات ببني إسرائيل عند مرحلة ما بعد انشقاق البحر التي جاءت في قول الله عز وجل: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا* وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 103، 104]. ثم جاء بعدها: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]. ثم تأتي سورة الجمعة لتثبت لنقل الولاية بعدًا جديدًا، وهو أن الولاية لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته معه. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] وقد تم ذلك بصفتهم الأميين. وبذلك امتدت الولاية من الرسوا صلى الله عليه وسلم من الرسول إلى الأمة من بعده إلى قيام الساعة، ولذلك قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3]. والتفسير الأساسي لذلك هو فضل الله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]. ومن خلال ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن تكون ولاية كل القائمين على أمر هذا الدين، ويثبت ذلك قول الله عز وجل: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ*ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 31، 32]. عن محمد ابن الحنفية قال: إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنان عند الله، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله([3]). ثم تأتي سورة الجمعة لتثبت لنقل الولاية بعدًا جديدًا، وهو أن الولاية لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته معه. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] ولذلك قال بعدها : {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3] وقد تم ذلك بصفتهم الأميين. وبذلك تمتد الولاية من جميع الأمم السابقة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ومن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحاب الحق من الأمة. والتفسير الأساسي لذلك هو فضل الله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]. وبذلك تثبت ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم وولاية كل القائمين على أمر هذا الدين، ويثبت ذلك قول الله عز وجل: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ*ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 31، 32]. عن محمد ابن الحنفية قال: إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنان عند الله، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله([4]). وإذا تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة من هذه الأمة، فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة، فإنهم كما جاء في باب: الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ في الصحيح: قال: لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19] فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ، «وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ -وَرَّثُوا الْعِلْمَ- مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ»([5]). وبذلك يكون القرآن هو الأساس الثابت للولاية والهيمنة.. والحكم بالشريعة هو صيغتها الصحيحة والعلماء هم أوصياؤها: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]. فهيمنته على ما بين يديه من الكتاب يعم الكتب كلها.. شاهداً وحاكماً ومؤتمناً: شاهدًا على ما بقي فيها من الأخبار الصادقة.. وحاكمًا على ما طرأ عليها من التحريف والتبديل.. ومؤتمنًا على أصول الدين الواحد الصحيح.. الذي أنزله الله على أنبيائه ورسله. مضمون الهيمنة كما تثبت آية المائدة: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ....} [المائدة48] أن الحق هو مضمون الهيمنة. قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الحج41] أما الأرض فهي لله {يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128]. الأرض لله، والتمكين للحق.. فالقضية أساسًا هي الحق.. وبذلك يتقرر وجوب الهيمنة لأصحاب الحق. ومن هنا كان الحق هو المضمون الحضاري للأمة الإسلامية. لأن لكل أمة مضموناً حضارياً خاصاً بها تنشأ عنه حركتها كرد فعل للحضارة المقابلة لها، وقيام الحضارات بمنطق الفعل ورد الفعل دليل على أنها حضارات مصنوعة بشرياً… فالحضارة اليونانية كان مضمونها الحضاري المثالية الخيالية. والحضارة الرومانية كان مضمونها الحضاري القوة البشرية والمادية كرد فعل للمثالية. والحضارة الفارسية كان مضمونها الحضاري الإله الحاكم (الذي يحكمهم من البشر) كرد فعل للقوة البشرية.. يسعى إلى نقل مفهوم القوة من البشر إلى الإله. والحضارة الكاثوليكية كان مضمونها الحضاري التعصب كرد فعل للحفاظ على الكاثوليكية أمام المذاهب المتعددة السابقة عليها والمواكبة لها. والحضارة القومية كان مضمونها الفرد كرد فعل للتعصب الاستفزازي للحضارة الكاثوليكية التي أهدرت العقل البشري واجتهاد الفرد وقيمته. والذي يساوي معنى الحق في مضمون الهيمنة هو الإنسان الذي نزل الحق من أجله.. ويثبت ذلك إنسانية الشريعة، التي تأتي من معناها لغة.. فالشريعة لغة: هي مورد الماء الذي يرِدُهُ الأحياء للشرب. ومن التفسير يتضح معنى الضرورة الإنسانية للشريعة.. وتبدأ الطبيعة الإنسانية للشريعة في الظهور مع البداية الأساسية لها في صيغة الْمَقَاصِدِ الْخَمْس التي تندرج تحتها جميع الأحكام الشرعية وهي: (حفظ الدين- حفظ النفس- حفظ العقل- حفظ المال- حفظ العِرض). وهذه الْمَقَاصِدِ- بصفتها الشرعية الحاكمة وغايتها الإنسانية النهائية- هي الدليل الأساسي على هذه الطبيعة. ومن هنا تأتي أحقية التصور الإسلامي- بصفته الإنسانية العادلة- في أن يكون إطارًا منهجيًّا لمواجهة مشكلات الحضارة الإنسانية والصراع البشري. حيث ظهر معنى الإنسانية في الشريعة عندما غاب في أخطر مجالات هذا الصراع. وبذلك اجتمع معنى الإنسانية في مضمون الشريعة الإسلامية وأسلوب هيمنتها. من خلال الأسس الإنسانية العادلة والثابتة في أحكام القتال ومنها نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرق بقوله «أن النار لا يعذب بها إلا الله». ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبة والمثلة كما في قوله صلى الله عليه وسلم «اغزوا بسم الله وفي سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولاتقتلوا وليدا» ([6]). وليس كما جاء في التوراة التي بين يدي الناس: (إن موسى أرسل اثنا عشر رجلاً من فينحاس بن العازار لمحاربة أهل مديان فحاربوا وانتصروا عليهم، وقتلوا كل ذكر منهم وملوكهم الخمسة وبلعام وسبوا نساءهم وأولادهم ومواشيهم كلها. وأحرقوا القرى والمساكن والمدائن بالنار فلما رجعوا غضب عليهم موسى وقال: لم استحييتم النساء؟ ثم أمر بقتل كل طفل ذكر وكل امرأة ثيبة وإبقاء الأبكار ففعلوا كما أمر، وكانت الغنيمة من الغنم (675000) ومن البقر (72000) ومن الحمير (61000) ومن النساء الأبكار (32000). لاحظ ترتيب غنائم الحرب: الغنم... البقر... الحمير... ثم النساء وقد بقيت هذه الوصايا مع الأمة في تاريخها كله، حتى اعترف لها بذلك أعداؤها، يقول جوستاف لوبون- وهو فرنسي مسيحي- في كتاب (حضارة العرب): "كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين ثلاثة آلاف أسير، سلموا أنفسهم إليه، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب؛ مما أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل، الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد أثناء مرضهما" ([7]). فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة، وبأرقى نظام لتطوير الحياة. جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها؛ ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها. فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر.. لا إكراه في الدين. حتى بلغ النهي عن الإكراه حد التعبير عنه بالفتنة في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن فقال له: «لا يفتن يهودي عن يهوديته» ([8]) ومن هنا تتقرر أحقية التصور الإسلامي- بصفته الإنسانية العادلة- في أن يكون إطارًا منهجيًّا لمواجهة مشكلة الصراع الإنساني. وحماية الدعوة- صاحبة هذا التصور الإنساني العادل- من أعدائها الذين يحاولون القضاء عليها.. وحماية من يؤمن بها من محاولة القضاء عليه. ومواجهة كل من يحاول حرمان الإنسان من معرفة هذا التصور.. وحرمانه من حقه في طرح هذا التصور بفتنته عن دعوته سواء بالأذى أو بالإغراء.. بحيث تكون هذه الحماية ضماناً لحرية العقيدة؛ حتى لا يخشى أحدٌ من الانتماء لهذه الدعوة.الإنسانية الكاملة. والولاية الإسلامية على البشرية ليست ادعاء أو استجداء من الأمة للبشر كما أنها ليست منًّا أو تفضلاً من البشر على الأمة. ولكنها حق إلهي ثابت للأمة وعقيدة ينطلق منها مشروعها الحضاري وتصورها السياسي وممارستها الواقعية. حق نؤمن به بعزة واطمئنان إلى قدر الله. وكما جاء في الإسراء كيف جمع الله الأنبياء لرسوله صلى الله عليه وسلم لتسليمه الولاية- جمع له الأرض وقدر الله له فتح ما زوي له منها، وأعطاه مقدراتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زَوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربَها، وإنَّ ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأحمرَ والأبيض...» ([9]). «زوى لي الأرض»: جمعها وقبضها؛ حتى يراها جميعًا([10]). الأحمر والأبيض: كنوز فارس والروم. وهكذا أورث الله نبيه الأرض وكنوزها ولأمته من بعده التي أصبح لها الحق في الولاية على الناس والأرض وكل مواردها ومقدراتها؛ ليعبد الله وحده ويكون الدين لله {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ([1]) تفسير الطبري (22/24) ([2]) تفسير الطبري (22/25). (2) متفق عليه، أخرجه البخاري (1906)، ومسلم (1080). ([3]) تفسير ابن كثير (6/550). ([4]) تفسير ابن كثير (6/550). ([5]) صحيح البخاري، باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. ([6]) سنن أبي داود (2613). ([7]) في ظلال القرآن بتصرف. ([8]) سنن البيهقي الكبرى (18423). ([9]) صحيح مسلم (7440). ([10]) تفسير الطبري (11/425).