غزة- فاطمة الزهراء العويني "عشتُ أيامًا صعبة منذ أنْ رزقتُ بناتي الأربعة، فبعدما أنجبتُ البنت الأولى حاصرتني الضغوط من جميع المحيطين بي، بأنْ أنجبَ بعدها مباشرةً؛ لعلَّ الله يرزقني مولودًا ذكرًا" تقول منى (الاسم مستعار) "30 عامًا".
وتضيف: "لم أستطع مقاومتهم مع أنني لم أكنْ أرى في إنجابي للبنت مشكلةً تُذكر، وكنتُ سعيدةً بوجودها في حياتي أيَّما سعادة، لكنَّ نظرات الشفقة مِمّنْ حولي، وترديدهم الدائم لعبارة: "الله يعوض عليكِ" نغصا عليَّ فرحتي".
فما أسباب هذا الموروث الذي عانى _ومازال يعاني_ مجتمعنا منه كثيرًا، ألا وهو الانزعاج من إنجاب البنات وعدّهنَّ عبئًا؟، وكيف السبيل إلى الحد من ذلك؟
وبالعودة إلى "منى" فإنها اضطرت إلى الحمل بعد ثلاثة أشهر من وضعها مولودتها، الأمر الذي تسبب لها بالإرهاق، وحرمها الراحة والاستمتاع بأمومتها، لكنَّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل ازداد الأمر سوءًا عندما تبينَّ لها أنَّها حاملٌ مجددًا بـ"بنت".
تقول: "انزعج زوجي جدًّا عندما علمَ بالخبر، وأصبح تعامله معي سيئًا، وكذلك انزعج أهله، وكان القرار الحاسم "لا لتنظيم الإنجاب قبل إنجاب الذكر"، فلم يسِرْ الأمرُ على هواهم، فبعد أن وضعتُ البنت الثانية أنجبت الثالثة ثم الرابعة، وهنا كان قرار حماتي تزويجه امرأةً أخرى؛ كي تنجبَ له الذكور".
وتضيف بأسى: "نزل القرار علي كالصاعقة، فبعد كل ما تحملته من مشقة كان الجزاء "زوجةً ثانية"، ولم تفلحْ كل محاولاتي في إقناعه وإقناع أهله بأنَّ أمر الإنجاب ليس بيدي، ولكنَّ الله كان لهم بالمرصاد؛ فكان أنْ أنجبت له الثانية بنتين على التوالي".
رزقت الولد قبلها
أما دعاء (27عامًا) الأم لثلاث بنات وولد فكان في فصول معاناتها مع "إنجاب البنات" ما يشابه معاناة "منى"، وصولًا إلى زواج زوجها بأخرى، لكنَّ ما اختلف بينهما أن دعاء وضرتها حملتا في الوقت نفسه، فرزقت دعاء مولودًا ذكرًا، ورزقت "الضرة" مولودة أنثى، تقول: "حينها فقط شعر زوجي وأهله بخطئهم، وأنهم قد ظلموني بتعاملهم السيئ معي، فالله وحده مَنْ يرزق الناس الذكور والإناث".
البنات أفضل
الأمر اختلف كثيرًا عند "سعاد" التي رزقها الله خمس بنات وولدًا، فزوجها تقبل أمر إنجاب البنات بصدرٍ رحب، بل إنه يحبهنَّ حبًّا جمًّا، ويدللهنَّ كثيرًا، تقول: "زوجي كان يريد الاكتفاء بعد إنجابي البنت الثالثة، لكنني بقيتُ أنجب تحت إلحاحٍ من أمي ذات العقلية القديمة، التي لم تكنْ تتصور أنني سأعيش دون أنْ يكون لي طفلٌ ذكر".
وأضافت: "توالي إنجاب البنات لم يزعجني وزوجي قط، فنحن سعيدان ببناتنا، ورضينا بنصيبنا في الدنيا، ووضعنا نصب أعيننا ضرورة تربيتهنَّ على أفضل وجه، إلى أن رُزقنا المولود الذكر، الذي فرحنا به لنسلمَ من كلام الناس، لكنْ عندما كَبُر أصبحت العلاقة بينه وبين أبيه ليست على ما يرام، فهو يدلل نفسَه بنفسه؛ كونه الذكر الوحيد لنا، ما جعل العلاقة بينه وبين والده متوترة دائمًا، وهو دائمًا يردد على مسامعي: (إنَّ إنجاب الإناث أفضل بكثير من إنجاب الذكور)".
يحملها الذنب
الاختصاصية الاجتماعية سمر حمد بينت لـ"فلسطين" أنَّ المجتمع الفلسطيني لا يزال يفضل إنجاب الذكور _وإنْ كان بشكلٍ أخف من السابق_ ويحمِّل المرأة الذنب، ما يسبب لها مشكلات نفسية كثيرة إذا كانت تنجب الإناث، وقد يتحامل على المرأة ويطالبها أن تقبل الضرة.
وأضافت: "هذا بجانب الضغط النفسي الذي يقع عليها؛ بسبب نظرات المحيطين بها، التي تتنوع بين الشفقة عليها لأنها أم البنات، أو السخرية منها، أو اتهامها بالحسد على أبنائهم الذكور".
ولتصحيح هذه النظرة يجب أن تتضافر جهود الإعلام وخطباء المساجد والمدرسين، وكل المختصين، وفقًا لقول حمد التي أضافت: "يجب أنْ يعلم الجميع أنَّ الأرزاق بيد الله، فليست الأنثى مصدر شؤم على أهلها، وليس الذكر شرفًا لهم، ونحن لا ندري أيهما أنفع لأبويه ولمجتمعه من الآخر؛ فهذا في علم الغيب، والإنسان ليس بقادرٍ على أن يغير شيئًا مما كتبه الله له، ومن الخطأ أن نفضل أحد الجنسين على الآخر".
نتاج موروثات
وبينت أنَّ هذه الظاهرة تأتي نتاج نسق قيمي معياري ينظر إلى أن الطفل الذكر هو الوريث المنتظر لثروة الأسرة، والحامل لاسم العائلة ومصدر عزوتها، وأنه معين للأب في عمله، وضمان للأبوين في حالة عجزهما عند الشيخوخة، في حين ينظر إلى إنجاب الإناث أنهن عبء اقتصادي، ومصدر قلق للأسرة أحيانًا.
ولفتت إلى أنَّ الحياة تغيرت وتطورت، لكنّ ثمة جذورًا من الماضي مازالت ممتدة إلى واقعنا، مضيفةً: "إنَّ معاملة الزوج أو المجتمع للمرأة المنجبة للبنات تؤثر عليها من الناحية النفسية، وتجعلها تشعر بعدم الثقة بالنفس، والانطواء والانعزال، والوحدة والحزن والخوف من المستقبل".