طرحنا في المقال الأول من هذه السلسلة عدة أسئلة من بينها ما ملاح انغلاق المراهقون في العالم العربي على ذواتهم؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال يجدر التنويه إلى أن التسليم ابتدءًا هكذا بالمطلق بأن المراهقون في عالمنا العربي منغلقون على ذواتهم، ربما يمثل تعميمًا مبالغًا فيه ويتنافى على الأقل في جزء منه مع ضوابط النهج العلمي في التقييم والحكم، ربما يتناقض أيضًا مع ما تشير إليه أدبيات سيكولوجية النمو النفسي فيما يخص طبيعة مرحلة المراهقة من أنها مرحلة انطلاق واندفاع إلى الأمام واستكشاف الذات والآخر.
على أية، حال تتوقف صحة التنويه المشار إليه من وجهة نظرنا على واقع الحال وعلى السياق والظرف الذي يحتوي المراهقين، ويحق لنا إذا افترضنا ـ وهو افتراض صحيح ـ أن واقعنا الاجتماعي بكافة مظاهرة في عالمنا العربي واقع مأزوم فكرًا وانفعالاً وسلوكًا أن نقول أنه واقع يفضي إلى اغتراب الإنسان ـ حتى الإنسان السوي ـ عن ذاته، فما بالنا بمراهق مندفع هكذا عفويًا إلى الأمام دون توجيه في أحسن الحالات، وبتوجيه مغلوط أو مأزوم في أسوأ الحالات. وربما لا يتسع المجال للتفصيل في مؤشرات خلل الواقع الاجتماعي العربي بنية ووظيفة في المقال الحالي، وما يهمنا بالفعل توصيف ملامح انغلاق المراهقون على ذواتهم؟ وبصورة عامة يمكن توزيع هذه الملامح على محورين أساسيين يتوزع عليهما ـ من وجهة نظرنا بطبيعة الحال ـ المراهقون العرب في وقتنا الحالي هما:
الأول: فئة المراهقون القابلون لكل شيء،المسايرون لكل شيء، اللاعبون لدور المفعول به على الدوام والمتلذذون بلعبهم لهذا الدور. ويا سبحان الله لنا أن نتصور كيف يتقن الدور من يتلذذ به. ويسهل على كل متابع منصف أن يرصد الكثير من ملامح شخصية مثل هذه النوعية من المراهقين الذين لا يمكن أن يقام لأمة قائمة حال تواجد هذه النوعية فيها. وقد يتصور البعض أن المراهقون الذين ينتمون إلى هذه الفئة متوحدون مع الآخر ويتناقض واقع توحدهم هذا مع القول بأنهم منغلقون على ذواتهم!! والحقيقة أن الأمر على خلاف مثل هذا التصور السطحي فإذا ما تعاملنا مع البنية العميقة لمثل هذه النوعية من المراهقين لوجدنا أن هذا التوحد المرضي أكثر مظاهر الانغلاق على الذات بشاعة لأنه فيه إلغاء للذات في إطار تسليم بتدني القيمة وبالتالي الاحتياج هكذا بالمطلق إلى آخر يفكر لهم، يرسم لهم معالم طريقهم وحركتهم في المستقبل، بل ويحلم لهم، يحدد المباح والمرفوض، الحقيقة أن شخصية كهذه شخصية عدم ولا وجود أصلاً، وقد نتعرض في مقالات تالية لمحددات تشكيل مثل هذه النوعية من الشخصية.
الثاني: فئة المراهقون الرافضون لكل شيء، الناقمون على كل شيء، المغايرون لكل شيء، الحالمون بتغيير كل شيء، وبوصف عام ثورجية الهمج ، هم بالتأكيد بذرة كل تطرف، كل رفض للآخر لمجرد حيوده المتخيل من قبلهم عن ما يتصورون أنه الصواب، وعن هذه الفئة من المراهقين حدث ولا حرج، وعن نسب شيوعهم في مجتمعاتنا حدث ولا حرج، وإن كانت الفئة الأولى يصح تسميتهم ذوو الانغلاق السلبي على الذات، فهذه الفئة ربما يصح تسميتها ذوو الانغلاق الإيجابي ولا نقصد بالإيجابي معنى سويًا أو مقبولاً بل إيجابيًا بمعنى تحركه فعليًا ضد الآخر المغير للنمط والتصور.
وقد يكون من السهل في إطار التصنيف السابق تحديد ملامح الانغلاق على الذات لدى هاتين الفئتين من المراهقين فقط انظر حولك وتابع تحركات من هم بين سن العاشرة والعشرين من العمر، من يتصل بالهواتف النقالة ببرامج الفساد والإفساد التي تركز على مسابقات الجمال ونجمك المفضل وحقق طموحك في أن تصبح مغنيًا راقصًا موهوبًا، على الجانب الآخر انظر لتجمعات المراهقين الممترسون في خندق جماعات ترويع الآخرين ومحاسبتهم تعنيفًا بل وإيذاءً أخذًا بالشبهة، ويكفي نظرة عامة على أبنائنا وفتياتنا في المدارس الثانوية والثانوية الفنية بصفة خاصة بل وفي الجامعات لترى انصرافًا عن كل ما له قيمة وارتماءًا أعمى في أحضان كل ما هو غث بل وبذيء، أليس هذا رفضًا للوجود الحقيقي؟! ألا يمثل ذلك انغلاقًا على الذات سخطًا عليها، اشمئزازًا منها، نفورًا من الآخر، يأسًا في القادم؟ ألا يجسد ذلك إيمانًا بمقولة: " استمتع بالسيئ فالأسوأ لم يأتي بعد؟!!.
ربما يمثل ما يستخلص من بين سطور ما تقدم صيغة أخرى من صيغ التحليل الدافع باتجاه إقرار فقه التشاؤم، والحقيقة أن حدة التحليل مصدرها حاجتنا الماسة في الوقت الراهن إلى جلد ذاتنا لكوننا نستحق مثل هذا الجلد وليكن جلدًا بأيدنا قبل أن يجلدنا الآخر الذي لا يرقب في الله إلا ولا ذمة علنا ننتبه إلى ما نحن فيه، ربما نراجع أنفسنا. وإلى اللقاء في المقال القادم. لله الأمر من قبل ومن بعد، ومنه جل شأنه العون والسداد