إن أي قاعدة لبنيان اقتصادي سليم ومتوازن تبدأ بأصغر وحدة إنتاجية، وتعتمد على أدنى علاقة تجارية.. هي تلك التي تبرمها الحاجة اليومية للمواد الاستهلاكية بين التجار وبين زبنائهم في مختلف ربوع العالم.
وقد سمعنا بتفاؤل كبير وعلى مدى الأسابيع الستة الأخير عن الإصلاح المتعدد الجوانب الذي تنوي حكومة التناوب إرساء دعائمه في مغرب متعطش له حتى يتسنى له تحسين أسسه الاقتصادية منها والاجتماعية لمواكبة التحولات الكبرى للقرن المقبل .. والإصلاح قبل أن يطال أي مضمار تدور في فلكه الحياة اليومية للمواطن يجب أن ينصب على قوته الشرائية.
إن هدف المواطن الأول والأخير هو العيش الكريم في بلاده، ولتحقيق هذه الغاية لابد من بلوغ معادلة الرفع من مستواه المعيشي حتى يتلاءم مع تطلعاته وتبعده عن الانتماء لخانة العوز والحاجة. إن كل ما ذكرنا يصب في بوتقة الربط بين القوة الشرائية للمواطن كيفما كان مستوى دخله وبين أسعار المواد المعيشية الأساسية للاستهلاك، أو ما يسمى بالمتطلبات الحياتية اليومية للفرد.. وكلما ارتفعت أثمنة هذه المواد إلا وقوبلت بانخفاض تدريجي في القوة الشرائية للمواطن، وبالتالي تقهقر مستواه المعيشي مع كل ما يعنيه ذلك من ضرب في صميم حقوقه كفرد داخل مجتمعه، وكل ما يؤديه إليه ذلك يحسب على ذلك المجتمع نفسه.
أقول هذا وقد لمست التذمر لأكثر من مرة في عيون مواطن يقبل على ابتياع مادة ما، فيكتشف الاختلاف البين بين سعرها هنا وهناك في أحياء نفس المدينة. إن الملايين من سكان هذا البلد العزيز يعيشون يوميا تناقضا غريبا، ألا وهو تقلب أثمنة المتطلبات المعيشية من أبسطها إلى أهمها تقلبا يذكرنا بأحوال الطقس .. ففي غياب مراقبة حقيقية وصارمة تضع حدا للمضاربين يظل المواطن ضحية تلاعبات مستمرة ترتبط بدرجة شجع هذا التاجر وذاك – مع احترامنا لذوي الضمائر الحية من هؤلاء.
أقول إن المواطن البسيط قد يشتري بضاعة استهلاكية ما بثمن معين ثم يفاجأ بها وقد اكتسبت بعض الزيادات لدى تاجر آخر غير بعيد عن الأول دون أن يكون أي تصريح حكومي بهذا الشأن قد تناهى لأسماعه. إن التفاوت بين الأسعار لدى محلات التجارة لا يؤثر سلبا على القوة الشرائية للمواطن المغربي وحده بل يشكل ضربة في الصميم للسياحة المغربية كقطاع يرتكز بالدرجة الأولى على الارتسامات والانطباع الذي يخلفه مقام السائح بهذا البلد المضياف. مقام سيتضمن من بين برامجه وبدون شك زيارات متعددة للأسواق المحلية، وهناك لا يستبعد أن يحصل السائح على بضاعة بثمن أكثر بكثير من السعر المحدد لها في اللوائح والقوانين.. فهل من المتحتم عليه قبل التسوق والتبضع أن يحاول الحصول على كتيب يضم أسعار المواد المتناثرة في الأسواق؟! أقول هذا مذكرا بالارتباط الوثيق بين ازدهار المواسم السياحية وبين أسعار المواد التي يحصل عليها السائح، والتي من المفروض أن تكون مشجعة تراعي في مطالبته بها اللوائح المعمول بها خاصة وأن الموسم الحالي يبشر بطفرة سياحية ملحوظة -زيادة نسبتها 8.33 في المائة من منطقة الجنوب وحدها.
إن أملنا كبير في أن يشكل الموضوع الذي أثرناه نقطة مستعجلة داخل مسلسل الإصلاح الذي تعتزم الحكومة القيام به والتي يعول عليها المواطن لإحقاق الحق وتثبيت دعائم معاملات يتم تخليقها بالطرق القانونية .. نعم أقول الطرق القانونية خاصة بعد أزمة الدقيق والسكر التي عمت الأوساط الشعبية مؤخرا سنة 1998 والتي تبين أنها كانت بفعل .. فاعلين .. إن المراقبة الصارمة والحقيقية للتجارات بدءا بأصغر وحدتها هي أولى ركائز دولة الحق والقانون، والإصلاح يجب أن يبدأ من المكان الذي يؤمه المواطن يوميا بالضرب على أيدي المتلاعبين بالقوة الشرائية للناس حتى يكون المستهلك واثقا من أن ما يدفعه مقابل سلعة ينوي سد رمقه بها هو ثمنها الحقيقي دون غبن أو استنزاف وحتى يتورع هواة الاغتناء من الفرق بين الأسعار الحقيقية والقانونية للمواد الاستهلاكية وبين أسعارها الجزافية الاعتباطية عن أعمالهم.
فالثقة بين المواطن وبين الحكومة التي تعقد عليها الآمال العريضة، تبدأ من أول باب يقف أمامه هذا المواطن، ألا وهو باب المتجر الموجود في حيه، وعندما يمد يده إلى جيبه يجب أن يكون مطمئنا إلى أن هناك من يحرصون على ألا تخرج منه قيمة مضافة تدخل جيب تاجر فاقد للضمير المهني.
نشر في عدد 3 يوليوز 1998